لقد أخبرني الأستاذ الفاضل عبد الكريم القلالي بأنه عزم على تأليف كتاب حول حياة المرحوم العياشي أفيلال، وحرصا منه بارك الله فيه أراد أن يتضمن شهادات من عرفه من طلبته عن قرب؛ ليذيل كتابه بتلك الشهادات التي ستساعد القراء على التعرف إلى الشيخ أكثر، وخاصة شهادة من صاحبه أمدا طويلا، وكنت من ضمن من وقع عليهم الاختيار، وقد انتابني شعور ممزوج بين الفرح والتوجس، وازددت توترا حينما أمسكت القلم وعزمت على كتابة شهادتي؛ لأن للمرحوم مكانة خاصة قلبي؛ فكنت أجله وأقدره وأهابه، ولذلك استشعرت مسؤولية كلماتي التي قد تخونني ذاكرتي، أو لا تطاوعني بعض الكلمات التي أود التعبير من خلالها عن حالة، أو مشهد رأيت فيها الشيخ، أو موقف عشته معه، أو لاحظته على الشيخ، وهو يوجه، أو يدرس، أو يرشد ويخطب…أو يقدم رأيه في قضية طارئة… أول لقاء مع الشيخ المرحوم: تعرفت إلى الشيخ المرحوم العياشي أفيلال سنة 1998م، حينما التحقت بمدرسة الإمام مالك بتطوان، التي كانت تسمى "جمعية الإحسان والتوعية" آنذاك، حيث كنت ضمن أول فوج من الطلبة الذين التحقوا بهذه المؤسسة، فعرفته عن قرب ؛ لكونه كان يشتغل مديرا للمؤسسة، وعرفته أكثر حينما تولى تدريس مادة" الأخلاق" فكان يدرسنا كتاب" إصلاح المجتمع" وكانت حصته من أجمل الحصص لدى الطلبة جميعا؛ إذ كان رحمه الله يتفاعل مع كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمر وجهه تارة، ويصفر تارة أخرى، وكانت عيناه تذرف بالدموع أحيانا فيبكينا جميعا، وهكذا كنت تمر جل حصصه، وكان إذا سأل طالبا وأجاب أي إجابة كانت، أثني عليه خيرا، وشجعه وحفزه، بل يبشره بمستقبل زاهر، وإذا لاحظ طالبا شاردا، استطرد وذكر قصة مشوقة، أو سأل سؤالا هدفه منه معرفة سبب شرود ذهن الطالب، ولا يهدأ له بال حتى يعرف؛ لكي يطمئن على حالاته المادية والاجتماعية، وهذا هو ديدن الشيخ مع طلبته، بل مع من صاحبه. وقد كنت ألاحظ المرحوم، وهو يتحلى بهذه الأخلاق النبيلة، والصفات الحميدة، فوقت في حبه إجلالا له وتقديرا واحتراما. ازداد حبي للشيخ؛ إذ كنت لا أستطيع التغيب عن خطبه يوم الجمعة، بل كنت أتنافس مع بعض الطلبة فيمن سيبكر ليجلس في الصف الأول، وتوطدت علاقتي بالشيخ بعد نهاية السنة الدراسية الأولى، حيث كنت من الطلبة الثلاثة الأوائل، فمنحني رحمه الله شهادة تقديرية تحفيزية، وغدا الشيخ يلاطفني في كل موقف منوها بنتيجتي ومشيدا بذكائي وكان لأسلوبه ذاك أثر كبير في مسيرتي الدراسية؛ إذ كنت أعتبر شهادة الشيخ وساما وتاج على رأسي، وكان بعض الطلبة الذين حضروا موقفا من هذه المواقف الجميلة يغبطني على ذلك، ولكن للأسف الشديد لم أكمل دراستي في مدرسة الإمام مالك، نظرا لبعض الاعتبارات الشخصية. دامت علاقتي بالمرحوم أكثر من سنة ونصف في هذه المؤسسة، واستمرت علاقتي به خارجها أكثر من 20 سنة؛ حيث كنت ألتقي به في كل حفل اختتام موسم دراسي، كما ألتقي به في دروس الوعظ والإرشاد، وخاصة في شهر رمضان بعد صلاة التراويح، وكعادته كان يغدق على كلمات ثناء وشكر، مؤكدا لي رحمه الله أنه يعيش لحظات ربانية في صلاة التراويح من ورائي، مصورا ذلك قائلا: "لقد حلقت بنا عاليا أعلى الله مقامك" ثم يدعو معي بالتوفيق والسداد دائما، وبعد سماعه أني أتابع دراستي في "جامعة الأزهر" أشرق وجهه كالبدر، وهو يتمتم قائلا: فتح الله عليك، هذا هو طالب العلم. هكذا عرفت الشيخ رحمه، معلما، ومربيا، وخطيبا، وواعظا، وفاعلا للخير، ونصوحا، ومتنقلا من مسجد إلى آخر، ومن عمل خيري إلى زيارة مريض أو مستشفى، أو أرملة، أو مؤسسة خيرية… يشهد الله أني ما سمعت من الشيخ إلا كلاما طيبا، أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر، أو نصيحة، وما سمعت منه كلاما فيه إساءة أو خروج عن المروءة قط، كان رحمه الله دائم الابتسامة إلا إذا تلقى خبرا يفيد أن أرملة أو يتيما أو طالبا أو فقيرا أو مسكينا يعيش حياة صعبة، تجده قد اصفر وجهه، وشحب لونه، ولا يهدأ له بال، حتى يتصل بهم أو يهاتف أحدهم فيطمئنه؛ فتلحظ أن قسمات وجهه قد تغير، فتنقشع عن ملامحه تلك الغمامة التي غيمت عليه، ويتلألأ نورا وضياء، فيطالعك بابتسامة عريضة، ثم يشهق ويقول: الحمد لله، ثم يردد جملته المعهودة: "سيكون الخير إن شاء الله". غفر الله للشيخ المرحوم العياشي أفيلال وتجاوز عنه، كما أسأله سبحانه أن يجدد عليه الرحمات، وأن يجمعنا به مع سيد الأنبياء؛ فصلوات الله عليه وعلى آله ما دامت الأرض والسموات. شكر الله لكم أخي الدكتور عبد الكريم على حسن ظنكم بنا. وعلى نبلكم وحسن وفائكم للأساتذتكم، وعلى هذه المبادرة الطيبة. كتبه العبد الفقير إلى مولاه: عبدالسلام الكوطيط، بتاريخ 15 جمادى الأخيرة 1443ه موافق 18/ 01/ 2022. بالمضيق. [1] خريج مدرسة الإمام مالك الخاصة للتعليم العتيق، أستاذ مادة اللغة العربية بالتعليم العمومي. نقلا عن كتاب: "وارفات الظلال فيما فاضت به القرائح من محاسن الشيخ العياشي أفيلال" سيرة ومسيرة حياة رجل بأمة للمؤلف الدكتور عبد الكريم القلالي بريس تطوان