بعد كل ما رأيناه من الخطوات الايجابية لعمل الحكومة الجمهورية الاسبانية بقيادة الكالاثمورا، وتعهدها بإجراء الانتخابات الديمقراطية الحرة بشمال المغرب، في منطقة حماية نفوذها، والنتائج الايجابية التي حصلت بإفراز نخب وطنية مغربية في كثير من المجالس البلدية، خاصة المجلس البلدي لتطوان الذي أعطى عناصر اتسمت بروح الوطنية والمسؤولية، نرى أفاق التراجع عن هذه المكاسب تلوح في الأفق حسب الإرهاصات التي أشرنا إليها في الحلقات الماضية، مما لم تستسغه اسبانيا مطلقا، خصوصا أمام المطالب الملحة لأعضاء المجلس، والمناقشات الحادة التي جرت على أكثر من صوت التسيير، والإصلاحات المستعجلة، وأمام أيضا الضغط الفرنسي في المنطقة السلطاني الذي رفض منذ الوهلة الأولى عملية إجراء الانتخابات بشمال المغرب، وإلحاحه بالعودة إلى اختيار أعضاء المجالس بالتعيين بدل الانتخاب، حتى يبقى زمام الحكم - بين تعيين أو عزل أعضاء المجلس - بيد الحكومة الحامية، وليس بين يدي السكان، وهكذا نرى إقبار هذه التجربة بسرعة، حيث اتخذت اسبانيا إجراءات استعمارية جديدة في عهد حكومة ديمقراطية، وصفت بخرق عقد الحماية وما نص عليه مؤتمر الجزيرة الخضراء من مد المساعدة للمغرب ببناء إصلاحاته السياسية تتسم بالديمقراطية. وأول ما تجلى هذا الخرق ما نشرته الجريدة الرسمية لمنطقة الحماية الاسبانية المغربية في عددها السادس بتاريخ 17 ذي القعدة عام 1350 الموافق ل 25 مارس سنة 1932 بصدور القرار الوزيري بعزل أعضاء لجنة بلدية القصر الكبير وإبدالهم مؤقتا بغيرهم، ويحمل القرار تاريخ 8 ذي القعدة عام 1350 الموافق 16 مارس 1932 بتوقيع الصدر الأعظم أحمد الغنيمة، وإقراره من طرف نائب الأمور الوطنية ضو خوليو دي تييندا الذي أجازه وأمضاه.
ومنذ حل المجالس البلدية لسنة 1931 لم تجر أية انتخابات حرة أو نزيهة، بل كانت السلطات الاستعمارية تعين لها من تشاء، وتعزل من تشاء ، دون بيان السبب أو الأسباب، فتحولت كل المجالس إلى نخب معنية سواء من الجانب المغربي أو الاسباني أو الملي إلى أن فجر الاستقلال، ورغم الانتقادات الحادة الموجهة من الوطنيين وخصوصا الاستنكارات المتوالية من الزعيم عبد الخالق الطريس، ولجنة المطالب الإصلاحية، لم ينفع ذلك في إعادة الأمور السياسية إلى مجراها، بل ظل الاحتقان يتصاعد بين الجهتين المغربية والاسبانية، إلى أن تم الانقلاب على الجمهوريين من طرف الديكتاتوريين الفرنكونيين، ورغم لانفراج الذي صحب صعود فرانكو إلى الرئاسة الإسبانية، حيث سمح بتأسيس الأحزاب، وإخراج الصحف، وتنظيم حقوق تأليف الجمعيات، إلى أنه لم يستطع تحقيق العودة إلى الانتخابات البلدية والقروية بالنظم الديمقراطية، بل رسخ أكثر بشأن انتقاء الأعضاء البلديين، انتقاء ملحوظا.
وإلى جانب ذلك عملت اسبانيا على تعيين مراقبين جدد لجميع النواحي الشرقية والغربية بالمنطقة، لمزيد من إحكام قبضته السياسية هناك. مباشرة بعد حل المجالس البلدية لسنة 1931 شرعت الحكومة الاسبانية في استبدال مراقبيها على المناطق الحضرية والقروية، ربما يكون عقابا لهم على مخالفة التعليمات العامة، وكانت مناسبة حل هذه المجالس، خصوصا المجلس البلدي الديمقراطي بتطوان الذي أعطت انتخاباته الفوز للوطنيين المغاربة كما حللناه في حينه، صدور الاحتجاج العلني من طرف الاسباني ضون خوسي البيرولا الرئيس الثاني الممثل للجالية الاسبانية لمجلس الأشغال البلدية بتطوان الممثل للمغاربة الحاج عبد السلام بنونة الذي كان تدخلاته البلدية مما أبهر اسبانيا، وسرعان ما استجابت اسبانيا لهذه الإعفاءات وهذا نص القرار: " في 6 ذي القعدة عام 1350 موافق 16 مارس 1932 مر بمنح افعفاء الاختياري من الرئيس الثاني لمجلس الأشغال البلدية بتطوان ضون خوسي البيرولا فيسيد ، وبذات التاريخ أمر بمنح الإعفاء الاختياري من الرئيس الثاني لمجلس الأشغال لا البلدية بتطوان السيد الحاج عبد السلام بنونة، كما صدرت بتاريخ 28 ذي القعدة عام 1350 الموافق لخمسة أبريل 1932 أوامر إعفاءات غير اختيارية لكل من عبد السلام بن عبد الكريم وطاد من وظيف خليفة قائد بني حسان، وأحمد بن محمد الزكري من وظيف خليفة بن يدر".