ولم تشهد العلاقات المغربية البريطانية أي تراجع أو فتور على عهد الأسرة العلوية الشريفة التي خلفت الأسرة السعدية في حكم المغرب بداية من منتصف القرن السابع عشر بل ازدادت تلك العلاقات سعة واستحكاما لأسباب عديدة، أهمها ظهور المغرب كقوة كبيرة على عهد السلطان مولاي إسماعيل وحفيده السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وتردد السفن البريطانية بكثرة على الموانئ المغربية للاتجار أو للتزود بالطعام والشراب وهي ذاهبة أو آيبة – في أسفارها البعيدة عبر المحيط الأطلسي، وانسحاب انجلترا سنة 1684 من مدينة طنجة الذي سوى المشكلة الاستعمارية بينها وبين المغرب، وأخيرا استيلاؤها يوم 4 غشت سنة 1704 على جبل طارق واستقرارها فيه منذ ذلك الوقت وحرصها على أن لا تستقر دولة أوربية في الضفة الإفريقية المقابلة له، وقد أصبح جبل طارق فيما بعد الرئة التي يتنفس بها المغرب في كثير من اتصالاته الدولية ومعاملاته التجارية، ويستفاد من الوثائق والنصوص التاريخية الغميسة والمنشورة أن أول محاولة للاتصال بين المغرب وبريطانيا العظمى على عهد الأسرة العلوية جرت سنة 1669 عند ما أوفد شارل الثاني ملك ك انجلترا إلى السلطان مولاي رشيد بعثة يرأسها البارون هنري هيوارد، وهو من النبلاء، وكان يلقب من الألقاب الشرفية باوكاسل ريدنج، ثم علت رتبته فصار يلقب بدوق اوف نورفولك، وقد وصلت بعثته إلى طنجة يوم 11 غشت سنة 1669 وكان عدد أفرادها يربو على السبعين، وكان هيوارد يحمل رسالة من ملكه إلى السلطان مولاي رشيد تتعلق بوضعية طنجة وتحرير الأسرى الانجليز المعتقلين في المغرب وتعبر عن الرغبة في عقد معاهدة سلم وصداقة وتجارة بين البلدين، وكدليل على حسن النية حمل هيوارد معه عددا من الأسرى المغاربة الذين كانوا معتقلين بانجلترا كما جاء معه بصورة زيتية للملك شارل الثاني وعشر مدافع وأربعين جرابا للغدارات وتحف وطرف نفيسة بلغت قيمتها أربعة الآف جنيه، ولكن هذه البعثة فشلت فلم يصل رئيسها إلى فاس ولم يجتمع بالسلطان، لأن هيوارد كان – حسب الروايات الإنجليزية – رجلا موسوسا وجبانا – ومن وساوسه أنه طلب من مولاي رشيد لكي يقدم عليه بفاس أن يبعث عددا من أعيان المغاربة إلى طنجة يبقون بها رهائن طول مدة سفره و إلى حين عودته إليها من فاس وقد أبى السلطان – رغم ما أعطاه من أمان مؤكد، أن يستجيب لهذا الطلب لما فيه من إهانة للمغاربة وشك في قيمة كلمته ووفائه بالعهد، فأصر هيوارد على طلبه وأصر السلطان على رفضه، وفشلت مهمة البعثة وعادت إلى لندن من غير نتيجة بسبب وساوس رئيسها إن لم نقل بسبب حمقه. على أن العلاقات المغربية الانجليزية لم تلبث أن استأنفت مسارها الايجابي بعد وفاة السلطان مولاي رشيد الذي لم تطل مدة حكمه، فعندما تولى أخوه السلطان مولاي إسماعيل الحكم سنة 1672 م – 1082 ه . جعل في مقدمة اهتماماته تحرير المدن المغربية الساحلية و تطهيرها من الاحتلال الاجنبي، ومن بين هذه المدن مدينة طنجة التي كان البرتغاليون احتلوها يوم 28 غشت 1471 ثم سلمها ملكهم جون الرابع إلى ملك انجلترا شارل الثاني كجزء من مهر الأميرة كاترين دي براكانزا التي تم زواج الملك شارل بها في شهر ماي سنة 1661م، وقد أحكم السلطان مولاي إسماعيل طوق الحصار على الانجليز محتليها الجدد دون أن يتخلى عن المفاوضة والحوار مع حكومتهم في لندن بشأن انسحابهم منها حتى تم له ما أراد من ذلك فخرج منها الحاكم بعدما ما هدمت أسوارها وخرب ميناؤها ومنشآتها الدفاعية وحتى دورها السكنية، ولما زالت من الطريق هذه العقبة الكأداء التي كانت تحول دون قيام تعامل طبيعي بين المغرب و انجلترا دخلت علاقتهما في طور يتسم بالمجاملة وتبادل المنافع، كما يتسم في نفس الوقت بالحذر الشديد من جانب المغرب نظرا لما عاناه وما كان يعانيه من حملات صليبية على مراسيه ومطاردات همجية لسفنه التجارية وأسطوله الحربي ومن المظاهر الايجابية لهذه العلاقات في العهد الاسماعيلي تردد السفن البريطانية بكثرة على المراسي المغربية واستعمالها استعمالا حرا بإذن السلطان والتزود منها بما تحتاج إليه من مؤونة تستعين بها على أسفارها الطويلة وفي مقابل ذلك كانت انجلترا تزود المغرب بالمدافع والذخائر وسائر الأسلحة النارية، وقد أرسل السلطان مولاي اسماعيل عديدا من السفراء والمبعوثين الخصوصيين ومن هؤلاء السفراء القائد محمد بن حدو العطار الذي أرسله إلى الملك شارل الثاني، فبهر الناس خلال إقامته في لندن بحسن خلقه وأناقة ملبسه وخفته في العدو بالفرس ودقته في الإصابة بالرمح، حتى ان علماء انجلترا انتخبوه يوم 26 ابريل 1682 عضوا شرفيا في الأكاديمية الملكية البريطانية، والأميرال عبد الله بن عائشة الذي أرسل إلى جميس الثاني الذي تولى الملك سنة 1685 وكان ابن عائشة أسيرا في انجلترا قبل ذلك، وعاش في أسره بها ثلاث سنوات، وأحمد بن أحمد قردناش التطواني الذي أرسل إلى لندن في مارس سنة 1706 لمفاوضة الحكومة الانجليزية على تزويد المغرب بالبارود وطلب مساعدتها على استرجاع سبتة من يد اسبانيا، وعبد القادر بيريس الذي أرسل سنة 1723 وآخرون، كما أن السلطان مولاي إسماعيل عقد مع أبريطانيا العظمى معاهدة سلم وتجارة يوم 27 يو ليوز سنة 1714 وجدد هذه المعاهدة يوم 32 يناير سنة 1721 مع الملك جورج الأول ولكن التصديق النهائي على المعاهدة المجددة لم يتم إلا يوم 10 يوليوز سنة 1729 بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل، أي في عهد ابنه السلطان مولاي عبد الله وعهد ملك بريطانيا العظمى جورج الثاني ومن اخبار العلاقات المغربية البريطانية الجديرة بالذكر أيضا في هذه الفترة الأولى من حكم الأسرة العلوية أن السلطان مولاي إسماعيل كتب إلى جيمس الثاني ملك انجلترا المخلوع – وهو في منفاه بسان جيرمان ان لي قرب باريس – رسالة مؤرخة في 15 شعبان عام 1109 ه 26 يبرا ير سنة 1698 م بين له فيها مزايا الدين الإسلامي و دعاه إلى الدخول فيه، و عبر له عن رغبته القوية في مسا عدته على الرجوع إلى وطنه واستعادة ملكه لو كان المغرب يتوفر له أسطول، وكان الملك المخلوع المذكور الذي جلس على عرش بريطانيا العظمى سنة 1685 اعتنق المذهب الكاثوليكي وحاول إدخال قو مه البروتيستان فيه، فثاروا عليه واضطر إلى الهرب إلى فرنسا، وهذه الرسالة شبيهة بالرسالة الأخرى التي كتبها السلطان مولاي إسماعيل إلى لويس الرابع عشر ملك فرنسا ودعاه فيها إلى الدخول في الإسلام. وفي هذه الفترة أيضا من حكم الأسرة العلوية واصل علماء انجلترا وأدباؤها تأليف کتب قيمة وكتابة روايات مشوقة عن تاريخ المغرب وأحداثه الآنية والقريبة، واستأثرت معركة وادي المخازن التي وقعت في العهد السعدي ولم يكن مر عليها يومئذ مئة عام باهتمامهم وداعبت أخيلتهم فنسجوا حولها القصص ورصفوا الحكايات، كما استأثر باهتمامهم ووسع الآفاق أمام أخيلتهم ما كان يرويه البحارة والمغامرون عن الثروات الطائلة والكنوز النفيسة التي تغطيها أتربة الجنوب المغربي ورماله، ولاسيما معادن الذهب بسوس، ومن أشهر الكتب الصادرة في هذه الفترة كتاب "نشر في اوكسفورد سنة 1671 بعنوان (غرب بلاد البربر) لمؤلفه لانسلوط اديسون الذي عاش مدة في مدينة طنجة، وكتاب عنوانه (رحلة إلى مكناس) لمؤلفه جون ويندوس الذي رافق بعثة دبلوماسية انجليزية وفدت على السلطان مولاي إسماعيل في عاصمة ملكه أوائل القرن الثامن عشر، ورواية (سيباستيان) التي كتبها الشاعر الروائي جوندرايدن عن الهزيمة التي ألحقها المغاربة بملك البرتغال وجيشه في معركة وادي المخازن، ويجب أن لا ننسى شخصية (عطيل) التي عنون بها شكسبير إحدى رواياته، وهو رجل من أعيان المغرب خدم مملكة البندقية، ويعتبر أشهر شخصية مغربية ظهرت في الأدب العالمي بأسره. وعرفت السنون الثلاثون التي تلت موت السلطان مولاي إسماعيل (1727م) رکودا نسبيا في علاقات المغرب الخارجية سببته الفتن والحروب الناشئة عن اختلاف أبنائه على السلطنة وانتصار الجيش والقبائل لهذا أو ذاك منهم، ولكن ما كاد السلطان سيدي محمد بن عبد الله يتولى الملك (1757 – 1790 م) ويمسك بيده مقاليد الأمور بحكمة وحزم حتى استقرت الحالة بالداخل وعادت الدولة إلى ممارسة الشؤون الديبلوماسية والاهتمام بالعلاقات الدولية على نطاق أوسع وبكيفية اشمل وتفهم أحسن، فقد عقد هذا السلطان معاهدات سلم واتفاقيات تجارة وملاحة مع عديد من الممالك والإمارات والجمهورية الأوروربية منها معاهدة أمضيت مع بريطانيا العظمى بفاس يوم 28 يوليوز سنة 1760 م كماتم تبادل السفراء والمبعوثين معها، ومن أشهر سفرائه ورسله إلى انجلترا الحاج عبدالقادر عديل الذي أرسله إليها سنة 1762 والحاج العربي المتيري عامل سلا وقائد الأسطول السلطاني المرسل إليها سنة 1766 والطاهر فنيش الذي أرسل إليها سنة 1773 و آخرون. أما السفراء والمبعوثون الخصوصيون المرسلون من بريطانيا العظمي إلى المغرب خلال سنوات حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله فعددهم أيضا كثير، ولا مناص من القول بأن العلاقات المغربية البريطانية كانت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تتقلب بين مد وجزر بسبب مشاكل الملاحة والأسرى والصراع بين القوى الأوربية وتموين حامية جبل طارق وتردد الموظفين الانجليز في تلبية بعض المطالب السلطانية، حتى ليقال إن إسراع المغرب إلى الاعتراف باستقلال الولاياتالمتحدة سنة 1777 وعقده معاهدة سلم ومودة معها سنة 1786 كانا مجرد انتقام دبلوماسي ضد انجلترا لأنها لم تستجب لما طلبه السلطان منها من إرسال بعض ربا بنتها وبحارتها لقيادة سفينتين حربيتين أهدتهما حكومة اسطنبول. ومما لا ينبغي إغفاله أن طبيبا انجليزيا اسمه وليام لمبريير استدعاه السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة 1789 إلى المغرب لمعالجة بعض أهل بيته، فجاء بأدواته الطبية ومواده الصيدلية، وجاء معها أيضا بأكياس مملوءة بالشاي الأخضر، فلما ذاقه السلطان استلذه واستطابه، فطلب من التجار جلبه فشرعوا يستوردونه علانية من جبل طارق وبدأ شربه يشيع شيئا فشيئا حتى صار شراب المغاربة المفضل، وكان شربه يجري قبل ذلك في تستر ومن طرف قلة قليلة من الموسرين لمعارضة بعض الفقهاء لشربه، ولما عاد الطبيب المذكور إلى انجلترا نشر سنة 1791 كتابا قيما عن مشاهداته في المغرب واجتماعاته المتكررة بالسلطان وبطانته. الكتاب: سفراء تطوان على عهد الدولة العلوية للمؤلف: محمد الحبيب الخراز (بريس تطوان) يتبع...