مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2025    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر يناهز 101 عام    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية        محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    10 قتلى جراء حريق بدار مسنين في إسبانيا        النيابة العامة وتطبيق القانون    دراسة حديثة تكشف ارتفاعا كبيرا في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    دراسة جديدة تكشف عن خطر متزايد لانتشار الحصبة بسبب ضعف التلقيح    الركراكي: المباراة أمام الغابون ستكون "مفتوحة وهجومية"    غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر        مصرع 10 أشخاص بحريق في دار مسنين بإسبانيا    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    الحكومة المغربية تعزز قطاع الدفاع الوطني بإعفاءات ضريبية جديدة    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا كان المخزن يحل أزماته مع أوربا
الأوربيون كانوا يلجؤون إلى الهدايا والجواري لترضية السلطان
نشر في المساء يوم 11 - 05 - 2014

لم يسجل انفتاح المغرب على الدول الأوربية إلا في عهد السلطان محمد بن عبد الله، وذلك خلال القرن الثامن عشر، الذي وقع عدة اتفاقيات مع بعض الدول الأوربية، ليفتح المجال للسلاطين الذين جاؤوا من بعده للانفتاح ولو بشكل نسبي على أوربا.
وهو الانفتاح الذي كشف ضعف المغرب وتخلفه، وفتح المجال لأطماع الدول الأوربية فيه، التي نجحت في معظم الأوقات في انتزاع معاهدات واتفاقيات قوت من وجودها التجاري في المغرب.
كما أن هذا الانفتاح وما نتج عنه من اتفاقيات تجارية، ومن حلول أوربيين للإقامة بالمغرب سواء للتجارة أو لتمثيل بلدانهم، سرعان ما خلق أزمات دبلوماسية للسلطة المخزنية مع الكثير من هذه الدول، سواء تعلق الأمر بالوقوف في وجه أطماع هذه الدول للحصول على مكاسب تجارية، أو أزمات نتيجة قرارات اتخذها المخزن ضد رعايا هذه الدول أو سن قوانين تعاكس مصالحها.
وكانت الدول الأوربية تدخل في شد وجذب، بين الليونة أحيانا وبين الصرامة في أحايين أخرى، من أجل حل أزماتها مع المخزن، أو لدفعه إلى تقديم تنازلات تجارية لها.
وينقل تاريخ الأزمات الدبلوماسية للمغرب مع البلدان الأوربية، أنماط وأساليب مختلفة كان يأتي بها أصحاب الحل والعقد من مقربي السلطان، من أجل تصحيح الأوضاع مع دولة ما، وأحيانا لتجنب عقوبات كانت تهدد وحدة وأحيانا حتى وجود المخزن وسلطته.
كما لا يغيب عن تاريخ هذه الأزمات مواقف متصلبة للسلاطين في مواجهة القوى الأوربية التي لم تكن أحيانا تجد من بديل سوى محاولة ترضية السلطان الغاضب بكل الطرق.
في المقابل جربت الدول الأوربية كل الطرق لترضية السلاطين، عندما يتعلق الأمر بمصالحها الاقتصادية، هدايا، وجواري يقدمن للسلاطين، أو حتى رشاوى تقدم لمقربين منهم، خاصة التجار اليهود ممن كانت لهم حظوة كبيرة لدى السلاطين.
وتكشف تفاصيل بعض هذه الأزمات التي نشبت بين المغرب وبين أوربا أن الجهاز المخزني كان مترددا في إقامة علاقات مع أوربا، كما كان دائما يقلص من اتصالاته مع الأوربيين، استجابة للدعوات المحافظة من المحيطين، الذين كانوا يرون في كل اتصال أو اتفاقية تجارية تسربا إلى البلاد من أجل إفسادها والاستيلاء على خيراتها.
وهو ما يفسر لجوء السلاطين إلى جعل كل موفديهم ومفاوضيهم المرسلين إلى الدول الأوربية من أهل الذمة، وليس من المسلمين إلا نادرا.
مع بداية القرن العشرين تغيرت نظرة السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغاربة، كما تغيرت طبيعة الأزمات الدبلوماسية التي دخلوا فيها مع الدول الأوربية.
في العهد الحديث، وخاصة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني هيمنت فرنسا على حصة الأسد من أزمات المغرب مع أوربا، وهي الأزمات التي كان الملك الراحل الحسن الثاني يلجأ إلى حلها بطرقه الخاصة، ويسجل بعض السياسيين المغاربة، أن الملك الراحل كان كلما اشتد عليه «ظلم» فرنسا، يلجأ إلى تغيير البوصلة المغربية باتجاه البيت الأبيض، فيتقرب من الولايات المتحدة الأمريكية لابتزاز فرنسا، وهو ما كان ينجح فيه في الكثير من الأوقات، حيث يقول الكاتب الفرنسي صاحب الكتاب المثير للجدل «صديقنا الملك» إن الحسن الثاني وبأسلوب حاذق لم يتوقف عن ابتزاز فرنسا بقوله للفرنسيين أنا لست بحاجة لكم، فهناك الأمريكيون الذين لا ينتظرون سوى إشارة كي يحلوا محلكم.
في هذا الملف تعيد «المساء» النبش في بعض أشهر الأزمات الدبلوماسية التي أثرت على وضع المغرب، وكيف تصرف السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب من نهاية القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، على حل أزماتهم مع أقوى الدول في أوربا آنذاك كبريطانيا، فرنسا أو إسبانيا.
هدايا وزوجة بريطانية لحل أزمات بريطانيا مع المخزن
كيف تجاوز المولى إسماعيل أزمة «الأسرى الإنجليز»
ترجع الكثير من الكتابات الغربية تحسن العلاقات البريطانية المغربية في عهد السلطان مولاي إسماعيل، بعد قطيعة وأزمات دبلوماسية، خاصة تلك التي كانت بسبب قضية الأسرى الإنجليز في سجون السلطان مولاي إسماعيل، وبنود معاهدة التجارة إلى زوجته الإنجليزية.
وبالرغم من أن شخصية الزوجة الإنجليزية تغيب في الكتابات العربية التي تناولت سيرة السلطان وكتبت عن حياته الزوجية، إلا أن هناك شبه إجماع لدى كتاب بريطانيين أن السلطان مولاي إسماعيل كانت له زوجة بريطانية لعبت دورا حاسما في تمتيع البريطانيين بالكثير من الامتيازات في المملكة الشريفة.
وحسب المصادر ذاتها أعجب السلطان بها وتزوجها، ولم يتردد الإنجليز بدورهم في استغلال وطنيتها ودفعها إلى تليين مواقف أحد سلاطين الدولة العلوية لصالح التاج البريطاني.
وتشير الكتابات البريطانية في هذا المجال إلى أن من بين الأزمات التي ساهمت الزوجة البريطانية في حلها كانت أزمة الأسرى الذين كانوا يقبعون في سجون السلطان، في الوقت الذي كانت بريطانيا تحت ضغط رجال الكنيسة الذين كانوا يحثونها على استخدام كل ما يمكن استخدامه من أجل إطلاق سراح الأسرى، بسبب ما كان شائعا في الكنيسة من أن سلطات المخزن كانت تجبر هؤلاء على اعتناق الإسلام والتخلي عن ديانتهم المسيحية.
وكان الإنجليز بدهائهم يعتقدون أن زوجات السلطان هن أحسن وسيلة لجعل مواقفه تلين، فلم يقتصر الأمر على الزوجة الإنجليزية فقط، بل تقرب الإنجليز من زوجات أخريات وجاريات كانت لهن حظوة لدى السلطان.
وقد أرسل القنصل البريطاني رسالة إلى «أم تعز»، إحدى أقوى النساء حظوة لدى السلطان، يقول فيها «ّلقد أحطت علما في لشبونة بالمكانة التي تحوزها جلالتكم، بينما كنت أحاول أن أعرف الشخصيات الأكثر تأثيرا، والتي تستطيع التوسط لدى الملك، التقيت شيخا مسيحيا، كان أسيرا لدى جلالتكم لمدة سنتين واستفاد من الحرية، بعد تدخلكم، وهو الذي أخبرني بأن جلالتكم، الشخص الأهم في البلاط، الذي يمكنه أن يساعدني في مهمتي، وبواسطتكم قد أجد آذانا صاغية لدى السلطان المعظم، كما أنه أمدني باسم والدة جلالتكم السيدة حليمة، لكي أسلمها رسالتي إلى جلالتكم»»
وترى بعض الكتابات أن «أم تعز» كانت حلا ثانويا مقارنة مع الزوجة الإنجليزية، التي لجأ إليها الإنجليز لتليين مواقف زوجها، من أجل أهداف تتجاوز إطلاق سراح الأسرى من سجون المخزن، بل أيضا إلى وضع القدم في المغرب عبر توقيع معاهدة تجارة مع السلطان، وقد كانت بريطانيا تحتاج إلى تحسين علاقتها بالمغرب من أجل توفير سوق لتموين مستعمرتها الجديدة بجبل طارق، وأيضا إلى تزويد سفنها أثناء مرورها بالشواطئ المغربية بما تحتاج إليه.
وقد نجحت الزوجة الإنجليزية في تغيير مواقف السلطان مولاي إسماعيل، ودفعته إلى تليينها اتجاه بريطانيا، حيث دفع ذلك مولاي إسماعيل إلى إعادة ترتيب أوراقه السياسية، وأطلق سراح الكثير من الأسرى الإنجليز، بل إنه كنوع من المجاملة أمر السلطان بأن يسير في مؤخرة موكب استقبال السفير البريطاني الذي حل بالمغرب، جميع الأسرى البريطانيين الذين كانوا بالحضرة المكناسية راجلين حتى يعطي البرهان على أنهم يتمتعون بأكثر ما يمكن أن يتمتع به الأسرى على ذلك العهد، بل وتجاوز الأمر ذلك، إذ قرر السلطان أن يطلق سراح عشرات من الأسرى، ويرافقون القنصل البريطاني إلى بلدهم.
مقابل سخاء بريطاني كبير في الهدايا التي كانت تقدمها بريطانيا إلى مولاي إسماعيل، تشمل ما توصلت إليه الصناعة البريطانية في المجال، إضافة إلى الأسلحة التي كان يعتقد السلطان أنه بحاجة إليها من أجل تحرير «سبتة»
وهكذا نجحت بريطانيا عبر الزوجة البريطانية في تصفية قضية الأسرى الإنجليز الذين كانوا في قبضة السلطان المولى إسماعيل، بعد الحملة المغربية ضد الوجود البريطاني في طنجة، تم إطلاق سراح عدد كبير منهم، إضافة إلى حرية تجارية كبيرة للتجار البريطانيين والسفن التجارية البريطانية التي كانت ترسو في الموانئ المغربية.
وبالرغم من أن بريطانيا أقدمت وكتعبير منها على حسن نية، ورغبتها في تحسين علاقتها بالمغرب على إطلاق سراح الأسرى المغاربة الذين سبق لهم أن وقعوا في قبضة البحارة البريطانيين، إلا أنها كانت الرابح الأكبر بعد إنهاء أزماتها مع السلطان، والحصول على امتيازات تجارية لإقناع السلطان بتزويد مستعمراتها في جبل طارق بالمواد الأولية، في مواجهة الحصار الإسباني المفروض على جبل طارق.
يوم بطش مولاي إسماعيل بالتجار الفرنسيين
عرف عن السلطان مولاي إسماعيل أنه من أشد السلاطين العلويين صرامة في التعامل مع الدول الأوربية ورعاياها في المغرب، وتشهد العديد من الكتابات التاريخية الأوربية أن السلطان لم يكن يتواني في القيام بما يراه صوابا في تعامله مع الأجانب المقيمين في المغرب، وهو ما كان يتسبب في أزمات دبلوماسية مع العديد من الدول الأوربية وعلى رأسها فرنسا.
ففي سنة 1716 سيتم قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا، بعد أن أقدمت السلطات المغربية على مصادرة سلع تجار فرنسيين كانوا يقيمون في المغرب كتجار، عبر جلب السلع من السفن التي ترسو في الموانئ المغربية، قبل إعادة بيعها إلى التجار المغاربة خاصة اليهود منهم، وهو ما أغضب فرنسا ودفعها إلى إغلاق قنصليتها بمدينة سلا.
وتعود بداية الأزمة إلى تاجر فرنسي يدعى «بيبي» حل بالمغرب، وتخلى عن ديانته المسيحية، اعتنق الإسلام، وأصبح من الشخصيات المشهورة والمعروفة في المغرب، خاصة في مدينة سلا، ونظرا لشهرته وقربه من دوائر القرار في محيط السلطان، لم يتواني الرجل في العمل كوسيط بين الدول الأوربية التي ترغب في تحرير رعاياها من الأسرى في السجون من المغرب وبين السلطان مولاي إسماعيل، الأسرى الذين كانت غالبيتهم من الذين تم أسرهم في ما كان يسمى لدى المغاربة ب»الجهاد البحري» بينما يسميه الأوربيون «القرصنة».
ورغم الأرباح التي كان يجنيها من قيامه بالوساطة، إلا أنه كان دائما في ضائقة مالية، فقد كانت الدول الأوربية عبر قناصلها المتواجدين في المغرب تدفع له أموالا طائلة من أجل التوسط لدى السلطان الذي كان يحظى عنده بمكانة متميزة، إلا أنه كان بدوره يضطر إلى صرف الكثير من الأموال على الشخصيات المهمة في البلد، في محاولة منه لإرضائها والتقرب منها، والحفاظ على الحظوة التي كانت له.
وهو ما كان يجر عليه انتقادات التجار الفرنسيين الذين كانوا يرون أن إفلاسه آت لا محالة، وأن ذلك يعني لهم مصائب كبيرة، ويعرض تجارتهم بالمغرب إلى الخطر وإلى الكثير من المشاكل، وهو ما حدث وتسبب في إفلاس التجار الفرنسيين، فقررت السلطات المغربية حجز سلعهم، تحت ضغط بعض التجار اليهود.
وكانت غالبية دائنيهم من اليهود ممن يحظون بمكانة عالية لدى السلطان مولاي إسماعيل، ليس فقط لسهرهم على التجارة في المنطقة وإغناء خزينة السلطان من الضرائب، بل أيضا لسهرهم على جلب الأسلحة من أوربا إلى المغرب، والتي كان السلطان ينوي استعمالها في تسليح الجيش السلطاني في محاولة لاسترجاع مدينة «سبتة» المحتلة من طرف الإسبان، لذلك كان أغلب التجار اليهود من أقرب المقربين للسلطان وكلمتهم مسموعة لديه.
فقد كان التاجر اليهودي ابن عطار مقرب من السلطان مولاي إسماعيل كما كان دائنا للتاجر الفرنسي، فأقنع السلطان مولاي إسماعيل بأن يؤدي التجار الفرنسيون ديون التاجر «بيبي»، ولاستخلاص المبلغ قام التجار اليهود المقربون من السلطان بحجز سلع التجار الفرنسيين وبيعها.
وبالرغم من أن السلع التي تعود للتجار الفرنسيين حجزت بكاملها، فإنها لم تكن كافية لتسديد الدين، فأجبر المخزن التجار الفرنسيين على بيع كل ما يملكونه من سلع في أماكن خارج المغرب، من أجل أن يدفعوا ديون التاجر الفرنسي الذي أصبح بين عشية وضحاها من المغضوب عليهم.
وفي رسالة من القنصل الفرنسي بالمغرب موجهة إلى الحكومة الفرنسية، يستعرض القنصل ما يقول أنها إهانات تعرض لها على يد محيط السلطان مولاي إسماعيل، ويطلب من السلطات الفرنسية التدخل لدى السلطان من أجل رد الاعتبار للكرامة الفرنسية التي أهينت، والحفاظ على فرص للتجارة للفرنسيين في ظل تقارب البريطانيين من السلطان وتفضيلهم على الفرنسيين.
لم يتأخر الرد الفرنسي كثيرا، فقد رأت فرنسا أن السلطان تمادى في معاداته للوجود الفرنسي في المغرب، وقررت معاقبته ليس بالطرق الدبلوماسية، ولكن عبر جعله يدفع الثمن عسكريا، وتكشف المصادر التاريخية في هذا الباب، أن السلطات الفرنسية لجأت إلى إصدار تعليمات للبحرية الفرنسية لتشديد الخناق على القراصنة المغاربة الذين كانوا مازالوا ينشطون في البحار، في محاولة لإخضاع السلطان مولاي إسماعيل وإجباره على طلب السلم من الفرنسيين، وبالتالي العودة إلى فترة الهدوء التي كانت تعرفها العلاقات المغربية الفرنسية، إلا أن ذلك لم يحدث ولم يتمكن الفرنسيون من إخضاع السلطان ودفعه إلى طلب السلم.
لم تنجح محاولات السلطات الفرنسية في إخضاع السلطان عبر تشديد الهجمات البحرية الفرنسية على القراصنة المغاربة، في ظل اشتداد الخناق على التجار الفرنسيين بالمغرب، ووسط رسائل الاستنجاد التي كان يرسلها القنصل الفرنسي إلى سلطات بلاده للتدخل من أجل تخفيف معاناة الفرنسيين بالمغرب.
وعكس ما كان متوقعا، كان رد فعل السلطان بالتشديد من حملات القراصنة المغاربة ضد الفرنسيين وسفنهم في البحار، وفشلت فرنسا في محاصرة الشواطئ المغربية، كما فشلت في إخضاع السلطان مولاي إسماعيل وتحسين ظروف تواجد التجار الفرنسيين في المغرب، فبدأ التفكير في سبل أخرى تحسن من العلاقات الفرنسية المغربية وتجعل السلطان يغير تعامله مع فرنسا ومصالحها في المغرب التي كانت مهددة بتزايد النفوذ البريطاني في المملكة.
بالمقابل اشتدت حملات القراصنة المغاربة ردا على محاولة البحرية الفرنسية إخضاع سفن القرصنة المغربية، إلى أن بدأ المسؤولون الفرنسيون يشتكون من ارتفاع الخسائر التي يتسبب فيها القراصنة المغاربة، فكان لزاما تغيير استراتيجية التعامل مع المغرب لحل الأزمة بطرق سلمية.
ولجأت فرنسا إلى قنصلها ب»قادس» من أجل استشارته حول الصلح مع المغرب، وقد استعان القنصل الفرنسي المدعو «باريتي» بتجارب الإنجليز في هذا المجال، وفطن إلى أن أقرب طريق لقلب السلطان أن يغرقه بالهدايا.
فقد سبق للبريطانيين أن أغرقوا السلطان بالهدايا التي كانت عبارة عن اختراعات بسيطة لبريطانيا، لكنها كانت تثير الدهشة والإعجاب في نفس السلطان ومقرييه.
وكانت الجهود الفرنسية ترمي ليس فقط إلى إعادة الأمان إلى التجار الفرنسيين والمحميين الفرنسيين في المغرب، بل أيضا استفادة فرنسا من امتيازات لم تكن لها في السابق قبل الأزمة، كتحرير أكبر عدد ممكن من السجناء أو الأسرى الفرنسيين في المغرب كعربون حسن نية من قبل السلطان تجاه السلطات الفرنسية، وأيضا محاولة منح امتيازات لسفن الملاحة الفرنسية للتجارة في الموانئ المغربية، وهي امتيازات لم تتمكن فرنسا من الحصول عليها، وبالرغم من عدم نجاح الفرنسيين في الحصول على هذه الامتيازات إلا بعد وفاة السلطان، إلا أنهم حصلوا بالمقابل على الهدنة التي كانوا يرغبون في توفرها لحماية المقيمين الفرنسيين في المغرب من التجار.
ولم تنجح فرنسا في الحصول على الكثير من تلك الامتيازات إلا بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل.
يوم انتفض سلفيو المخزن في وجه السلطان
في نهاية القرن 19، سنة 1886 كان المولى الحسن الأول يحاول أن يدفع بالمخزن التقليدي نحو التحديث، لكن هذا الأمر لم يكن بالسهولة التي صورها له الأوربيون، ليجد نفسه وسط أهل الحل والعقد من السلفيين المحافظين، الذين كانوا يرون في كل تقرب مع الأوربيين والبريطانيين بعدا عن الدين.
فعلى المستوى الخارجي كانت هناك أطماع الفرنسيين والبريطانيين من أجل كسب امتيازات تجارية في المغرب، وهي ضغوطات أدت إلى وقوع صدامات بين السلطان وبين الدبلوماسيين البريطانيين، يتعلق الأمر بمحاولة بريطانيا الدفع بمعاهدة مع المغرب تحت ضغوط التجار البريطانيين الذين كانوا يحاولون منافسة فرنسا وإسبانيا على نفوذها في المغرب، وتحت مطالب هؤلاء التجار الذين كانوا يريدون الدفع ببرنامج إصلاحات سياسية واقتصادية للمخزن تسمح لهم بالتغلغل في المغرب، حتى يستفيدوا من حركة تجارية أكثر ليبرالية، لمصلحة تجار المملكة المتحدة.
وبدا أن الضغوط البريطانية تعطي أكلها، فقد ارتفعت واردات المغرب من بريطانيا، إذ انتقلت من 626 ألف و 911 جنيه إسترليني 1884 إلى 717 و 1200 سنة 1889، لذلك كانت للبورجوازية المقربة من التاج البريطاني مطامح أكثر لتوسيع العلاقات مع المغرب للحصول على المزيد.
وقد صادف أن عينت وزارة خارجية بريطانيا في هذه المرحلة «وليام كيربي كليم»، مبعوثا خاصا ووزيرا مفوضا وقنصلا عاما لبريطانيا، يمثل التاج في المملكة الشريفة بطنجة 1886.
حاول «كليم» إجراء مباحثات مع السلطان الحسن الأول حول بنود معاهدة 1856، لكنه وجد صعوبة كبرى بسبب وجود معارضين أقوياء محافظين ويتمتعون بمناصب عالية في الهرم المخزني، إضافة إلى وجود علاقات تجارية مع دول أخرى من الغرب تكبل يد السلطان.
وأثناء مبادرته لمفاتحة السلطان في هذا الموضوع سيجد الدبلوماسي البريطاني عراقيل كثيرة مع المحيطين بالسلطان وضمنهم الوزير الأول «غرير» لدى السلطان.
وحتى عندما لان موقف السلطان ووافق على معاهدة جديدة تعطي البريطانيين الكثير من الامتيازات، فقد وقف له الوزير «غرير» بالمرصاد»، وتكشف بعض الكتابات التاريخية أن الوزير عندما كلفه السلطان بحمل نص المعاهدة إلى البريطانيين، مزق نص المعاهدة، التي كانت بريطانيا تنوي إبرامها مع المغرب للضغط على المخزن من أجل الخضوع لمصالحها وقبول الاتفاقية التجارية الجديدة، والتي تتضمن تدابير من شأنها القيام بإصلاحات لتوسيع العلاقات مع التجار البريطانيين، وهو الأمر الذي رأت فيه حاشية السلطان مساسا بمصالح المغرب.
وأمام ضغوط الحاشية امتنع السلطان عن أي تعامل مع المفوض الدبلوماسي البريطاني الذي لجأ إلى التعاون مع قناصل بعض الدول الأوربية في المغرب، للضغط على السلطان وبلاطه من أجل دفعه إلى إجراء الإصلاحات التي كانت بريطانيا ترى أنها قادرة على فتح المغرب في وجهها.
وأمام سندان بريطانيا ومطرقة الحاشية المحافظة، رفض السلطان تجديد معاهدة 1856 التي كانت للمغرب مع بريطانيا، كما رفض أيضا تسديد المخزن للديون التي كانت عليه من طرف الرعايا البريطانيين، وهو ما خلق أزمة كبرى بين بريطانيا وبين السلطان، هددت بسببها بريطانيا باجتياح المغرب.
رفض السلطان أن يخضع لضغوط بريطانيا التي كانت تحاول استغلال الوضع الداخلي للبلاد، وكان من شروط هذه المعاهدة حق البريطانيين في شراء العقارات دون إذن مخزني، وهو ما كان من أكبر القضايا الخلافية بين السلطان ومقرييه، وموافقة المفاوضين دون الرجوع إلى السلطة المخزنية في أي علاقة تجارية كما يورد ذلك الأستاذ خالد بن الصغير في كتابه « بريطانيا وإشكالية الإصلاح في المغرب.»
قلب المولى الحسن الأول الطاولة على البريطانيين، وقطعت بريطانيا علاقتها الدبلوماسية مع المغرب، بل وصل الأمر إلى فبركة بريطانيا لتهمة محاولة المخزن تقديم رشوة لدبلوماسييها.
وهو ما أثار حفيظة السلطان المولى الحسن الأول ليرد بقرار أكبر، فقرر أن لا يرفع علم بريطانيا في مدينة فاس، وأيضا الامتناع عن أي تجارة خارجية مع بريطانيا، فتوقفت علاقات المملكة مع بريطانيا بشكل كامل، ولن تعود العلاقات بين البلدين إلا بعد وفاة المولى الحسن الأول.

بريطانيا تقطع علاقتها مع المخزن بسبب الطاعون
عندما انتشر الطاعون في المغرب، فرضت دول أوربية حصارا على السفن التجارية الوافدة من المغرب خوفا من وصول الطاعون إليها، ومن بين الحكايات في هذا المجال، حكاية سفينة تجارية كان على متنها التاجر اليهودي الشهير «مايير مقينين» مقرب السلطان، والذي كانت له حظوة كبيرة جعلته الأمر الناهي في كل ما يتعلق بتجارة المخزن.
وقد أبحر «مقينين» إلى لندن بتاريخ 1799، من مدينة الصويرة، وكان على متن السفينة باعتباره ممثلا لمصالح السلطان التجارية، لكن أيضا بصفته الشخصية في إطار تجارته، وهربا من الطاعون الذي ضرب المغرب وأهلك الكثيرين، بمن فيهم العديد من رجال الدولة، وقادة الجيش. ولم تسلم النخبة اليهودية التي ظلت بالصويرة، وكان من بين الذين أهلكهم الطاعون صهر «مقينين» نفسه.
وكانت السفينة التجارية متوجهة من الصويرة إلى بريطانيا، وعلى متنها بريطانيون وتجار من مختلف الجنسيات، فاحتجزتها السلطات البريطانية خوفا من الطاعون، ووعدت التجار البريطانيين بالتعويض، بعد أن يتم التأكد من خلوهم من الطاعون، في المقابل تكبد التجار المغاربة خسائر فاضحة، وخلق ذلك أزمة دبلوماسية، بعدما فسدت بضاعة التجار المغاربة جراء الحجز البريطاني عليها خوفا من الطاعون.
بالمقابل تكشف بعض المصادر أن تاجر السلطان، «مقينين» ادعى أنه يحمل هدية من السلطان إلى بريطانيا عبارة عن أسدين، في محاولة لفك الحصار الذي فرضته السلطات البريطانية على السفينة القادمة من المغرب، خوفا من انتشار الطاعون، وهو ما مكنه من مغادرة السفينة وخيانة ثقة السلطان، بينما تذهب روايات أخرى إلى أن السلطان يرغب في اقتناء سفينة حربية فكلف «مقينين» الذي لم يتوانى عن استعمال المال الذي قدمه له السلطان من أجل تسديد ديونه الخاصة، وهرب إلى لندن وترتب عن هذا عدم وفاء «مقينين» بالتزاماته التجارية في بريطانيا، مدعيا الإفلاس التام.
الأهم أن سلطات بريطانيا حاصرت السفينة ومنعت خروج ركابها منها، خوفا من الطاعون، وهو ما تسبب للمخزن في خسائر فادحة، حيت بارت وفسدت تجارة تجار المغاربة الذين كانوا على متن السفينة،
بل إن سلطات بريطانيا فرضت حصارا على كل ما هو قادم من المغرب، سفن تجارة، تجار ومحميين أو حتى الرعايا البريطانيين الذين كانوا يقيمون بالمغرب.
كيف كان الحسن الثاني يبتز فرنسا
بالرغم من وصف العلاقات المغربية الفرنسية بأنها تتمتع بالكثير من الاستقرار، خاصة في العهد الحديث، إلا أن ذلك لم يمنع من وقوع هزات دبلوماسية بين البلدين، خاصة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان له أسلوب خاص في معالجة أزماته الدبلوماسية مع فرنسا، فكان كلما اشتد عليه خناق الفرنسيين يلجأ إلى أمريكا بحثا عن فرص ابتزاز فرنسا.
ولعل أحد أبرز الأزمات الدبلوماسية مع فرنسا، اندلعت عند اغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة.
فقد توترت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا، عشية اغتيال المعارض الاتحادي، وهو ما ساهم في تأجيج الوضع واندلاع موجات احتجاج في الداخل الفرنسي، واتهم بعض الفرنسيين باريس بالخضوع للنظام في المغرب، والتغاضي عن كل المساوئ التي يقوم بها حتى داخل التراب الفرنسي، وقد شكلت الانتقادات الداخلية التي قامت بها تنظيمات وسياسيين فرنسيين ضغطا كبيرا على النظام في فرنسا، ونتيجة لهذا الضغط الداخلي الفرنسي، وفي محاولة لتخفيف حدة الانتقاد اتخذت الرئاسة الفرنسية سنة 1966 قرارا تسبب في إثارة غضب الملك الراحل الحسن الثاني، ويتعلق الأمر بتعليق التعاون العسكري والاقتصادي مع المغرب.
وبالرغم من أن القرار الفرنسي لم ينجح في تهدئة الأصوات الغاضبة في فرنسا، إلا أنه بالمقابل أثار غضب الملك الراحل الحسن الثاني الذي تفاجأ بردة فعل باريس القوية، فقاطع فرنسا بدوره، ولجأ إلى انفتاح أكبر على الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار سياسة جديدة لتنويع شركاء المغرب الأجانب، والابتعاد عن فرنسا التي اعتقد الحسن الثاني أنها بقطع وتعليق التعاون العسكري خانت صداقة المغرب.
ولقي هذا القرار سخطا داخليا، إذ عبرت الكثير من القيادات السياسية المغربية عن معارضتها لهذا الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية، وقد رأت الأحزاب المغربية أن انفتاح الملك الراحل الحسن الثاني على أمريكا هو انفتاح على الإمبريالية الأمريكية، التي كانت ترغب في موطئ قدم لها في شمال إفريقيا، تنافس به فرنسا، وقد فتحت لها الأزمة الدبلوماسية المغربية الفرنسية الباب من أجل وضع القدم داخل المغرب، وبالرغم من معارضة توجه الحسن الثاني، فإن ذلك أثبت فعاليته في مواجهة الموقف الفرنسي، إذ سرعان ما بدا موقف الرئاسة الفرنسية يلين اتجاه الحسن الثاني، بعد مراجعة براغماتية أظهرت أن مصالح فرنسا تقتضي مرونة مع نظام الحس الثاني.
فتح مكتب جبهة البوليساريو
ولم يكن اغتيال بن بركة المناسبة الوحيدة التي خلقت هزة دبلوماسية بين المغرب وفرنسا، فقد عرف عهد الحسن الثاني الكثير من الأزمات والخلافات الدبلوماسية مع فرنسا، وكان أغلبها عند تولي الاشتراكيين للحكم في فرنسا.
وكان الحل الأمثل دائما للملك الراحل الحسن الثاني يتمثل في إغاظة الفرنسيين عبر محاباة الأمريكيين وتشجيع تواجدهم في المنطقة، فقد لجأ الملك الراحل الحس الثاني إلى أمريكا أكثر من مرة من أجل كسر شوكة الفرنسيين.
في سنة 1981، وعشية وصول الحزب الاشتراكي الفرنسي بزعامة فرنسوا ميتران إلى الحكم، قامت فرنسا تحت الحكم الاشتراكي بخطوات اعتبرها الحسن الثاني موجهة ضد المغرب، وكانت بدايتها اختيار الجزائر كأول محطة خارج فرنسا للرئيس الفرنسي، وهو ما أغضب الحسن الثاني، حيث اعتبر أن فرنسا تفضل الجزائر على المغرب، وذلك لأن العرف الذي دأب عليه الرؤساء الفرنسيون كان دائما استهلال ولاياتهم الرئاسية بزيارة للمغرب قبل الجزائر.
وسرعان ما ستسوء العلاقات الفرنسية المغربية، عندما أقدمت فرنسا على فتح مكتب تمثيلي لجبهة البوليساريو في باريس سنة 1982، تحت ضغط الاشتراكيين الذين اخترقتهم الجبهة مدعومة من الجزائر إبان تواجدهم في المعارضة، فقدموا وعودا سرعان ما فعلوا كل ما في وسعهم للحفاظ عليها عند وصولهم إلى الحكم، ونجحوا في تحويل وعودهم إلى حقيقة، وفتحوا مكتبا للجبهة الانفصالية، وهو ما أثار حفيظة الحسن الثاني، وقرر أن يظهر لفرنسا أن المغرب ليس تابعا، بل دولة قادرة على اتخاذ قرارات تزعج فرنسا.
وقد كانت زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر قبل المغرب، ومباشرة بعد ذلك فتح مكتب تمثيل جبهة البوليساريو أبرز ما حملته فترة الاشتراكيين الفرنسيين إلى علاقات فرنسا بالمغرب، فكانت هاتان الخطوتان مؤشرا على دخول العلاقات المغربية الفرنسية فترة أزمة دبلوماسية، أكبر من الأزمة التي خلفها اغتيال الزعيم الاتحادي بن بركة، فقد كان الأمر يتعلق باعتراف غير مباشر من طرف من يعتبرها المغرب أقوى حلفائه في قضية الصحراء المغربية.
وهي الأزمة التي تصرف اتجاهها الملك الراحل الحسن بشكل غير متوقع، إذ بدل محاولة استغلال العلاقات التاريخية مع فرنسا من أجل إعادة المياه إلى مجاريها وتقريب وجهات النظر، اختار الحسن الثاني التصعيد، وتقزيم وضع فرنسا بالنسبة للمغرب.
وقد حاول مقربون من الملك الراحل الحسن الثاني إقناعه باستغلال العلاقات التاريخية التي تربط المغرب بفرنسا من أجل دفع مسؤولي قصر «الإليزي» إلى رؤية خطئهم الكبير، بتعكير صفو العلاقات مع دولة حليفة لهم، غير أن الملك الراحل كان له رأي آخر، وفضل التغاضي عن العلاقات التاريخية التي كانت تجمع المغرب بفرنسا من أجل إصلاحها، وجعل فرنسا تتراجع عن الخطوة التي اعتبرها الحسن الثاني مستفزة.
وكخطوة معكوسة بدأ الملك من جديد بالتقرب من الولايات المتحدة الأمريكية، وتزامنت الفترة التي عرفت الأزمة الفرنسية المغربية، وصول الجمهوريين إلى البيت الأبيض، الذين كانوا يرون أن أمريكا لها دور حيوي يمكن أن تلعبه في العالم، ولا يقتصر على حدودها فقط أو حدود القارة الأمريكية والأوربية، بل يتجاوز الأمر إلى القارة الإفريقية وخاصة شمال إفريقيا، لما يشكله ذلك من فرصة لدخول العالم الإسلامي والعربي، وجاء الجمهوريون إلى البيت الأبيض بزعامة رونالد ريغان الذي جعل من أهم أولويات سياسته الخارجية، التواجد في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وإيجاد حلفاء للولايات المتحدة الأمريكية من أجل ضمان استمرارية وجود القواعد الأمريكية بالمنطقة، والتي كانت أمريكا تتخوف من أن وصول الاشتراكيين إلى الحكم خاصة في إسبانيا، قد يعجل بجلاء هذه القواعد وتقليص الوجود الأمريكي في المنطقة. لذلك لجأ الحسن الثاني إلى التقرب من الجمهوريين في البيت الأبيض، الذين كانوا يبحثون عن أصوات في شمال إفريقيا لا تنصت فقط للجانب الفرنسي.
بالمقابل ارتفعت أصوات معارضة في الداخل الفرنسي، ضد سياسة الاشتراكيين الخارجية، وتعتبر أن مواقف مثل هذه تضر فرنسا أكثر من أن تنفعها، إذ سرعان ما تبين أن مواقف الاشتراكيين الفرنسيين بزعامة فرنسوا ميتران، على عكس ما كان منتظرا، بدأت تقلص نفوذ فرنسا في المنطقة، لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تستغل كل تنافر لفرنسا مع مستعمراتها القديمة، من أجل التغلغل أكثر فأكثر لإيجاد موضع قدم، وكانت مواقف الحسن الثاني فعالة إلى حد كبير، إذ سرعان ما بدأت بعض الأصوات اليسارية الفرنسية تدعو إلى إعادة النظر في العلاقات مع المغرب، والإقتداء بتجربة الاشتراكيين الإسبان الذين كانوا أكثر براغماتية في سياستهم الخارجية وفي تعاملهم مع الحسن الثاني، وبالرغم من تقربهم من الأطروحة الانفصالية عند وجودهم بالمعارضة، سرعان ما بدؤوا بتعديل مواقفهم وهم في الحكم، حفاظا على مصالح إسبانيا الاقتصادية والسياسية.
ونجحت ردود فعل الحسن الثاني في أن تبادر الاشتراكية الفرنسية التي كانت في سدة الحكم، إلى إعادة النظر في علاقتها بالمغرب، بعدما انتبهت إلى أن نفوذها بدأ يتقلص نتيجة تصلب مواقفها السابقة، حيث دفعت المواقف السابقة المتشددة والمعادية للمغرب إسبانيا وأمريكا إلى إزاحة فرنسا من مرتبة الشريك الأول للمغرب، لتسارع فرنسا إلى تعديل وتلطيف الكثير من المواقف التي أغضبت الحسن الثاني وجعلته يبحث عن بديل للشراكة مع فرنسا، وبشهادة كتاب وسياسيين فرنسيين فإن الحسن الثاني في علاقته مع فرنسا أتقن أمرا أكثر من غيره من الأمور، ابتزاز فرنسا وجعلها ترضي رغباته، فقد صرح الكاتب الفرنسي «جيل بيرو» بأن الحسن الثاني وبأسلوب حاذق لم يتوقف عن ابتزاز فرنسا بقوله للفرنسيين أنا لست» بحاجة لكم فهناك الأمريكيون الذين لا ينتظرون سوى إشارة كي يحلوا محلكم».
محمد الخامس وتجارب فرنسا النووية
بحلول سنة 1945 كانت فرنسا قد قامت بأكثر من 17 تجربة نووية في مناطق مختلفة من العالم، ومن بين المناطق التي استغلتها فرنسا لإجراء تجاربها كانت بمناطق صحراوية جزائرية، كان المغرب يطالب باسترجاعها، مما خلق أزمة بين فرنسا والمغرب في عهد الملك محمد الخامس، لكن بحضور قوي لولي العهد آنذاك مولاي الحسن، الذي فضل الدخول في صراع مع الحكومة المغربية بزعامة عبد الله إبراهيم حول من له حق الاحتجاج على فرنسا.
وقد كانت أول تجربة نووية أجرتها فرنسا في المنطقة التي كان يطالب بها المغرب سنة 1960، وهو ما جعل الملك محمد الخامس يندد بالعمل وبعث برسالة إلى الرئيس الفرنسي، وذلك تحت نصائح ولي العهد مولاي الحسن، الذي رفض أن يتكلف بالاحتجاج رئيس الحكومة.
وقد شكل الأمر أول أزمة سياسية للملك محمد الخامس مع فرنسا، وكان يتطلب الأمر موقفا منه يظهره في موقف الملك الماسك بزمام الأمور.
فكلف عبد الله إبراهيم أول رئيس حكومة مغربية، بالاحتجاج لدى فرنسا، ومتابعة الملف، غير أن الأمر لقي معارضة من ولي العهد مولاي الحسن، الذي لم يكن من داعمي توسيع صلاحيات الحكومة لتشمل أمورا كان يراها سيادية، وفي مقدمتها العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأجنبية وبالخصوص فرنسا.
ورأى الحسن الثاني أن الأمر يتجاوز صلاحيات الوزير الأول الذي كان يشغل أيضا منصب وزير الخارجية، وأن صلاحية الاحتجاج ومتابعة الأمر هي بيد الملك وحده، لذلك عارض فكرة أن يتولى عبد الله إبراهيم متابعة ملف التجارب النووية الفرنسية في الصحراء التي أصبحت اليوم خاضعة للجزائر.
وقد أثر الخلاف على وحدة الصف المغربي في وجه السلطات الفرنسية التي كانت عازمة على المضي قدما في تجاربها، وقد بعثت إلى الملك برسالة شكلية تخبره فيها أنها ستقدم على تجاربها النووية في الصحراء.
وهي التجارب التي أظهر تحقيق تلفزيوني فيما بعد بشاعتها، من خلال نقل صور ضحايا، حيث اغتالت عشرات من سكان المنطقة بهمجية، بعدما جعلتهم فئران تجارب حية لمفعول السلاح النووي، في محاولة لمعرفة آثأر الإشعاعات النووية على الإنسان.
وقد أجاب محمد الخامس الجنرال الفرنسي «دوغول» بعد أن راسله الأخير ليخبره بخطط الجيش الفرنسي للقيام بتجارب نووية في المنطقة، قائلا «و لا يسعنا بهذه المناسبة إلا أن نذكر، لما بيننا من ود وصراحة، بموقفنا من إجراء تجربة من هذا القبيل. فنحن نعتقد أن التنافس في صنع أسلحة ذرية، وإجراء تجارب لمعرفة قوة فتكها وتدميرها يشكل تهديدا على البشرية بأسرها، ويقوي الشعور بالخوف في العالم، ويطبع علاقات الأفراد والشعوب بطابع الريبة والحذر، ومهما كانت قوة التجارب، والدولة التي تقوم بها فإننا نستنكرها، سيما إذا أجريت في ناحية مأهولة، وفي أرض نعتبرها جزء لا يتجزأ من مملكتنا، وختاما نرجو من فخامتكم أن تتقبلوا أزكى تحياتنا وتتأكدوا من عواطف مودتنا وتقديرنا»
لكن فرنسا ضربت عرض الحائط باحتجاج محمد الخامس، وقامت بالتجارب النووية في المنطقة التي كانت تصنف بأنها مغربية.
وعلى الرغم من ضعف الموقف الرسمي نتيجة الخلاف بين الحسن الثاني وبين رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم، إلا أن الموقف الشعبي كان أقوى، وتفجرت احتجاجات شعبية في المدن المغربية، وقد تظاهر المغاربة خاصة في مدينة الدار البيضاء ضد التجارب النووية الفرنسية، وتطور الاحتجاج إلى المطالبة بجلاء القوات الفرنسية عن المغرب وإيقاف تجاربها النووية.
أزمة «صديقنا الملك»
من الأزمات الدبلوماسية الأخرى التي طفت على سطح العلاقات بين المغرب وفرنسا، كانت قضية صدور كتاب، «صديقنا الملك» لجيل بيرو» وبالرغم من أن الكتاب كان أمرا شخصيا في بلد كفرنسا، إلا أنه وبمجرد صدوره خلق أزمة بين المغرب وفرنسا.
لم يكن بمقدور صناع القرار في فرنسا منع صدور الكتاب في بلد يعد ديمقراطيا، وتتمتع حرية التعبير فيه بقدسية يصعب المساس بها وجاء الكتاب مفاجأة، كما صرح الكاتب فيما بعد.
تناول معطيات حول ما سماه الفساد المالي والسياسي لمحيط الملك الراحل الحسن الثاني، إذ كشف الكاتب على أنه لم يكن يفكر في كتابة الكتاب، إلا أن بعض الصدف وبعض اللقاءات العابرة كانت سببا في تأليف هذا الكتاب الذي أثار ضجة وخلق أزمة بين المغرب وفرنسا.
بدأت القصة بعد أن توصل الكاتب الفرنسي برسالة من أحد المعتقلين في سجون الحسن الثاني بسبب توزيعه منشورات يسارية مناهضة لنظام الحسن الثاني، حسب ما صرح به»جيل بيرو» في حوار مطول سنوات بعد صدور الكتاب، لذلك ظلت فكرته مجهولة، ولم تكن متداولة، وهو ما جعل صدمة صدوره وما تضمنه من اتهامات للحسن الثاني أقوى بكثير.
فقد تمكن الكاتب من الحصول على معلومات مهمة تتعلق بتفاصيل دقيقة حول القصور الملكية، وقد لعب فرنسي شغل منصب مهندس ديكور في قصور الحسن الثاني دورا مهما في تمكين الكاتب من التفاصيل الدقيقة، كما كشف المصمم الذي خبر القصور الملكية، وتطلع على الكثير من أسرارها معلومات لم تكن لتتوفر للكاتب الذي لم يسبق له أن التقى الملك الراحل، على عكس كتاب آخرين كتبوا عن الملك، لكن بعد أن التقوا به.
خلق الكتاب أزمة سياسية بين باريس، التي لا يمكنها منع كتاب، وبين الملك الراحل الحسن الثاني، الذي لم يتوانى في اعتبار الكتاب مؤامرة فرنسية جديدة ضد شخصه، وضد المغرب والمغاربة كشعب.
القادة الفرنسيون بدورهم وبالرغم من عدم تدخلهم لمنع الكتاب، كانوا يرون فيه تهديدا حقيقيا لمصالح فرنسا بالمغرب ولعلاقات باريس بالرباط، وبالرغم من أن الأزمة لم تأخذ طابعا رسميا، فقد حمل صدوره تأثيرات سلبية على الكثير من مظاهر العلاقات الفرنسية المغربية.
وقد صرح جيل بيرو فيما بعد في حوار مطول مع قناة الجزيرة القطرية قائلا « أشعل الكتاب أزمة سياسية بين فرنسا والمغرب، كان مقررا أن يتم الاحتفال بالسنة المغربية في فرنسا، وقد تم إلغاء ذلك المهرجان بعد أن أعرب ملك المغرب عن استيائه البالغ، وبالتالي لم تكن السلطات الفرنسية راضية عن ذلك أيضا.
الحسن الثاني وجريدة «لوموند» الفرنسية
في سنة 1995، اندلعت أزمة أخرى بين الحسن الثاني وفرنسا، عندما اتهم صحيفة «لوموند» الفرنسية بتهمة القذف والسب.
فقد ارتأى المسؤولون الفرنسيون الحياد وترك الأمر للقضاء، بعد أن قرر الملك الراحل الحسن الثاني متابعة الجريدة أمام القضاء الفرنسي بتهم قذفه واتهامه بدون دلائل، وبدون التأكد من صحة ما كتب.
وتعود حيثيات القضية إلى سنة 1995، عندما تقدم المغرب بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، فطلبت هيئة أوربية إنجاز تقرير حول المخدرات، التقرير أنجزه المرصد الجيوسياسي للمخدرات، وبالرغم من أن التقرير كان سريا، كما أنه لم يكن من المتوقع أن يعرف طريقه إلى وسائل الإعلام، إلا أنه تسرب إلى الصحافة، وعلقت عليه صحف وفي مقدمتها «لوموند» الفرنسية، التي كتب أحد صحافييها مقالا مطولا يناقش نتائج التقرير، وكال اتهامات للراحل الحسن الثاني، وهو ما أثار حفيظة الملك.
واعتبر الملك الحسن الثاني ما ورد في المقال من عبارات وتلميحات قذفا وسبا، وأن ما كتب كان هدفه الإساءة لرئيس دولة.
فقرر الملك الراحل الحسن الثاني متابعة الصحيفة أمام القضاء الفرنسي، وبعد مداولات ومرافعات في محاكم فرنسا، أصدر القضاء الفرنسي قراره الذي كان صادما للحسن الثاني وانتصر للصحيفة وكاتب المقال، نافيا عنهما تهمة السب والقذف بتهم دون دلائل.
حيث برأت إحدى محاكم الدرجة الأولى في فرنسا الصحيفة الفرنسية والصحافي كاتب المقال من تهمة القذف والسب في حق الملك الراحل، كما نفت تهم سب رئيس دولة بدون دلائل أو أدلة تثبت ما ورد في المقال، لقد كان حكما مخيبا للآمال للملك الراحل الحسن الثاني، وبعد استشارة دفاعه تقرر استئناف الحكم.
بعد الاستئناف، أخذت القضية مسارا مغايرا، ونجح دفاع الملك في إثبات أن الصحافي كاتب المقال لم يكلف نفسه عناء التأكد مما ورد في مقاله من اتهامات لرئيس دولة أجنبية، فأدانت محكمة الاستئناف الفرنسية الصحيفة والصحافي كاتب المقال بالتهم الموجهة إليهما، وفي تفاصيل الحكم أكدت المحكمة أن الصحافي كاتب المقال لم يكلف نفسه عناء التأكد مما ضمنه في مقاله، ولم يبادر إلى التحقق من صحة ما قام بنشره، خاصة أن الأمر يتعلق برئيس دولة أجنبية، لذلك ثبتت تهمة القذف والسب.
محمد شقير *: الأوربيون كانوا يلجؤون إلى الهدية كنوع من الترضية
- كيف تفسر تعدد الأزمات في تاريخ علاقات المغرب بأوربا ؟
لابد من وضع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب، وبين الدول الأوربية في إطارها السياسي، فكما هو معروف، إن المغرب بحكم موقعه الجغرافي ينتمي إلى المنظومة المتوسطية، التي يشترك فيها مع دول غرب أوربا، كما يعتبر صلة وصل مع باقي الدول الأوربية، خاصة إسبانيا فرنسا بريطانيا، وهذا الموقع فرض بطبيعة الحال علاقات بين المغرب وهذه الدول، كانت تنظم بشكل منتظم، سواء على الصعيد الاقتصادي والسياسي والعسكري.
المغرب كان دائما يستورد موارده خاصة الأسلحة من أوربا، في حين كان يصدر إليها القمح وبعض المنتجات الأخرى، فقد كانت علاقة المغرب مع الدول الأوربية تعرف دائما شدا وجذبا، صراعا وتفاوضا، وكانت الأزمات تثار في جل الأوقات بسبب الجهاد البحري، الذي كانت الدول الأوربية تعتبره قرصنة.
فنتيجة لهذه القرصنة كانت هناك سفن تؤسر، وأسرى يسجنون، في المغرب آو في البلدان الأوربية، وبالتالي كان هذا يؤدي إلى مفاوضات لافتداء هؤلاء الأسرى، وكرد فعل من طرف الأوربيين في عهد سيدي محمد بن عبد الله، قامت بعض السفن الأوربية خاصة الفرنسية بقصف العرائش، وقصف سلا لأنها كانت تعتبر هذه المدن هي المعاقل التي تنطلق منها السفن المغربية لاعتراض السفن الأوربية والهجوم عليها، إذن قضية القرصنة كانت من بين أهم أسباب الأزمات بين المغرب وبين الدول الأوربية، خاصة فرنسا، وإسبانيا.
مع منتصف القرن التاسع عشر بدأ التغلغل الأوربي في المغرب بشكل كبير مع احتلال فرنسا للجزائر، فبدأت أطماعها تنكشف بخصوص المغرب، وكانت العلاقات بين المغرب وفرنسا تتجلى بالخصوص في ما سمي بقضية الأمير عبد القادر، هذا الأخير بعد احتلال فرنسا للجزائر شن مقاومة ضد القوات الفرنسية، وبالتالي كان يستخدم الأراضي المغربية لمهاجمة قوات عسكرية فرنسية، وهذا بالطبع كان يسبب عدة أزمات بين المغرب والسلطات الفرنسية، وكثيرا ما كانت السلطات الفرنسية تقوم بالضغط على السلطان آنذاك مولاي عبد الرحمان للحد من هجمات الأمير عبد القادر، وقد أدت إلى وقوع ما يعرف بحرب إيفني التي تكبد فيها الجيش السلطاني خسائر فاضحة، وأدت إلى اتفاقية لالة مغنية التي خسر فيها المغرب جزءا من صحرائه الشرقية.
- هل كان الأوربيون يتورطون في أزمات داخلية بالمغرب؟
نظرا لضعف المغرب بعد حرب تطوان شعر الأوربيون بضعف السلطة المركزية، فبدأ ممثلو هذه الدول في مختلف المدن المغربية بتجاوز صلاحياتهم، وهذا ما أدى إلى احتجاج السلطان مولاي الحسن الذي أرسل عدة شكايات في هذا الإطار إلى السلطات الأوربية، لحثها على الحد من التجاوزات التي كان يقوم بها القناصل في مختلف المدن المغربية.
هذا كله كان نتيجة للضعف الذي لمسه الأوربيون إزاء السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، كما كان الحال في عهد مولاي عبد العزيز أو حتى في عهد مولاي عبد الحفيظ، هذه كلها مظاهر للأزمات التي كانت تعيشها السلطة المخزنية في مواجهة الدول الأوربية، والتي انتهت في نهاية المطاف باحتلال المغرب وتقسيمه، كما هو معروف.
من جهة أخرى تجدر الإشارة إلى أنه كانت هناك العديد من الأزمات الدبلوماسية، إما بخصوص افتداء الأسرى أو إعطاء امتيازات لبعض التجار التابعين لهذه الدول، وكانت هناك بعض الجرائم التي يقترفها التجار المقيمون داخل المغرب، وعادة ما كان يضغط على السلطان لكي لا يعاقب أو لا يحاكم المقيم آو التاجر وفق القانون المغربي الجاري به العمل في المغرب.
العلاقات بين المغرب وبين الدول الأوربية كانت كلها تتراوح بين الشد والجذب، بين الصراع والمفاوضات، تاريخ المغرب مليء بمثل هذه الأحداث وبالتالي ليست هناك فقط حادثة، إنما هناك حوادث في هذا الباب.
- يروى أن الأوربيين كانوا يلجئون إلى الهدايا لترضية السلاطين؟
ما كان متعارف عليه هو أنه عندما يستقبل السلطان أحد السفراء الأوربيين، كان يستقبلهم وفق نظام برتوكول معين، يقوم على أن القنصل أو السفير ينزل في منطقة طنجة وينتظر مدة معينة قبل أن يقتاد إلى العاصمة، ولا بد أن يقدم هذا السفير مجموعة من الهدايا التي كانت تدخل في إطار البرتوكول الجاري به العمل داخل المغرب، هذا لا يعني أنه من خلال تلك الهدايا كان يخطب ود السلطان ويؤثر عليه لكي يقوم إما بوساطة أو إصدار لافتداء أسرى إلى غير ذلك، بل إن الهدية كانت تدخل ضمن البرتوكول.
- في العهد الحالي تحضر فرنسا في غالب الأزمات المغربية مع الغرب.
من بين أبرز الأزمات في العهد الحالي أزمة التجارب النووية الفرنسية في الصحراء، فقد وقع صراع بين حكومة عبد الله إبراهيم، الذي كان آنذاك رئيس الحكومة ووزير الخارجية في الوقت نفسه، وبين ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، المسألة لم تكن فقط بين فرنسا وبين المغرب، فكانت هناك اعتبارات أخرى وصراعات داخلية.
للتذكير رئيس الحكومة آنذاك عبد الله إبراهيم احتج بشدة على التجارب النووية الفرنسية، لكن ولي العهد اعتبر أن ذلك من اختصاص الملك وليس من اختصاص رئيس الحكومة، فوقع شد وجذب وهو ما استغلته فرنسا، لكي تضرب عرض الحائط باحتجاج المغرب.
كان هناك اختلاف داخل المغرب حول من له الحق في الاحتجاج على فرنسا، رئاسة الحكومة أم الملك، وولي العهد آنذاك الحسن الثاني.
أما في عهد الحسن الثاني، فقد تعددت الأزمات التي دخل فيها المغرب، ليس فقط مع الاشتراكيين في فرنسا بل حتى اليمين، قضية اختطاف المعارض بن بركة مثلا كان لها تأثير كبير على نشوب أزمة دبلوماسية بين الجنرال ديغول وبين الملك الحسن الثاني، والتي تطورت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا.
بالمقابل كان الحسن الثاني يلعب على حبل التنافس بين أمريكا وفرنسا، عند نشوب أزمة مع فرنسا، للضغط على هذه الأخيرة، ونجح الملك الراحل الحسن الثاني في هذا الأمر أكثر من مرة، وحاول في كثير من الأحيان أن يخفف من الضغوط التي كانت تمارس عليه، من خلال اللعب على الورقة الأمريكية، واللعب على المنافسة بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأن فرنسا كانت تعتبر بأن المغرب يدخل ضمن مجالها الخاص، وبالتالي الحسن الثاني كان كلما كانت هناك أزمة مع فرنسا حول سياسته، كلما لجأ إلى أمريكا، إما من خلال زيارات إلى الولايات المتحدة أو من خلال اجتذاب استثمارات أمريكية إلى المغرب، للعب على التنافس الأمريكي الفرنسي لكي يخفف من العزلة السياسية التي كان يعاني منها نظامه عند اندلاع أزمات دبلوماسية.
* أستاذ العلوم السياسية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.