حسب النظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية جاء دستور 2011 بطفرة نوعية في تعامله مع مرفق القضاء، إذ أصبح يعتبره سلطة كاملة موازية للسلطتين التشريعية والتنفيذية، ومنحه الاستقلالية التي تجعله يمارس مهامه دون تدخل أو رقابة من أي سلطة أخرى. هذا طبعا دون الإخلال بمبدأ التعاون والتنسيق الذي يجب أن يسود بين هاته السلطات، ولاسيما في هذا المجال المتعلق بالعدالة، إذ إن تدبير المجال الإداري للمحاكم مازال بين يدي السلطة التنفيذية في شخص الوزارة المكلفة بالعدل. ومن أجل تدبير النسق القضائي الجديد صدر، بجانب المقتضيات الدستورية التي وضعت أسسا صلبة لاستقلال السلطة القضائية، قانونان تنظيميان؛ الأول رقم 100.13 متعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والثاني رقم 106.13 متعلق بالنظام الأساسي للقضاة. وبغض النظر عن النقاشات التي أثارها هذان القانونان إبان صدورهما، إذ اعتبرت بعض الجمعيات المهنية والحقوقية أن ما ورد فيهما يعتبر تراجعا عن الضمانات التي رسخها الدستور، إلا أنه ينبغي الاعتراف بأنهما، إذا ما أحسن تطبيقهما وتنفيذهما، سيكونان بحق رافعة للنهوض بمنظومة العدالة بالمغرب، لاسيما بعد التعديلات التي فرضها المجلس الدستوري من خلال إلغاء بعض المقتضيات القانونية التي تنقص من الضمانات التي قررها القانون الأسمى للدولة. ورغم صدور القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتحديده لتنظيم هذا المجلس واختصاصاته، إلا أن طريقة الاشتغال عمليا من خلال المسطرة المتبعة أمام المجلس تكلف بها هو من خلال قانون داخلي أثار العديد من الإشكاليات التي اعتبرها البعض تشكل تراجعات. ولعل من أهم الإشكاليات المثارة إشكالية ضرورة بيان هوية المشتكي في الشكايات المقدمة للمجلس ضد القضاة، إذ أقر النظام الداخلي الموضوع من قبل المجلس بضرورة بيان هوية المشتكي كشرط مسطري من أجل وضع الشكاية، بينما تعالت أصوات ومواقف من أبرزها موقف السيد وزير العدل والحريات السابق، الذي اعتبر أن إلزامية بيان هوية المشتكي سيجعل هناك خوفا لدى المواطنين المتضررين من اللجوء إلى تقديم شكاياتهم، وسيقيد من حرية المواطن في التشكي والتظلم، وهو ما يضرب في الصميم ما ينبغي أن يخضع له مرفق القضاء من محاسبة ومسؤولية. كما أن هذا المقتضى يتعارض مع اتفاقية مكافحة الفساد التي وقع وصادق عليها المغرب. لكن، على الرغم مما قد يبدو عليه هذا الرأي من أساس سليم، إلا أنه بالتأمل في طبيعة المقتضى المتعلق ببيان هوية المشتكي في الشكايات ضد القضاة يتبين أن المنحى الذي ذهب إليه المجلس صائب ومتوافق مع المقتضيات الإجرائية العامة الواردة في قانون المسطرة الجنائية، وأيضا محقق للأمن الإجرائي الذي يجب أن يشكل ضمانة من اجل عدم زعزعة استقرار القضاة وعدم التأثير عليهم أثناء أدائهم عملهم. ونزيد في التدليل على صوابية هذا المقتضى من خلال التذكير بما يلي: عدم ذكر هوية المشتكي في الشكايات ضد القضاة سيشجع ورود الكثير من الشكايات الكيدية، وسيصبح القضاة أمام فوهة بركان ادعاءات ومزاعم المواطنين الصحيحة وغير الصحيحة، لاسيما أن هناك ثقافة سائدة لدى أغلب المواطنين أن أغلب القضاة ومن يدور في فلكهم أشخاص فاسدون ومرتشون، ويدبرون الملفات القضائية وفق معياري المال والنفوذ، وليس معياري القانون والعدل. وبالتالي فإن أي شخص خسر دعواه يعتبر أن القاضي قد ظلمه وفضل عليه خصمه حتى لو كانت حجته ضعيفة، ودليله ناقص. وسيلجأ حتما إلى التشكي من باب الانتقام من أجل قض مضجع القاضي الذي سيصبح مهتما بالشكايات الموجهة ضده أكثر من ملفات المواطنين المعروضة أمامه. المجلس الأعلى للسلطة القضائية مؤسسة جديدة، جاءت لترسيخ الاستقلالية وتكسير هيمنة السلطة التنفيذية على المجال القضائي، وقد منحها الدستور والقانون التنظيمي المؤطر لها عدة مهام واختصاصات، من بينها وضع تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ورفع تقرير سنوي حول حصيلة عمله وآفاقه المستقبلية إلى جلالة الملك. وتقديم أراء مفصلة حول مشاريع ومقترحات القوانين المتعلقة بوضعية القضاء ومنظومة العدالة، وأيضا تقديم أراء مفصلة حول إستراتيجيات وبرامج الإصلاح في مجال العدالة التي تحيلها الحكومة عليه؛ وهو ملزم في كل ذلك بآجال قصيرة لا تتجاوز 60 يوما في الحالات العادية و20 يوما في الحالات الاستعجالية؛ ناهيك عن أنشطة التعاون الدولي الذي يجب أن يقوم به المجلس مع الهيئات والمؤسسات الدولية المهتمة بمجال العدالة. وإذ إن من شأن إرهاق المجلس بشكايات كثيرة جدية أو كيدية نتيجة عدم إلزامية ذكر هوية المشتكي أن يحصر عملها في تلقي الشكايات وتتبعها، وبالتالي فإن أدوارها الأخرى ستنحسر رغم أهميتها الكبيرة في النهوض بقطاع العدالة بشكل عام، كما أن دور المجلس في هذه الحالة سيجعله شبيها بضابطة قضائية تقوم بالتحقيق والبحث في الشكايات والبت فيها؛ وهو ما سيؤثر على أدواره الأخرى. وهذا الأمر سيظهر أكثر إذا علمنا أن المادتين 87 88 تنصان على مسطرة دقيقة ومعقدة ويمكن أن تتطلب الكثير من الوقت، في حال تلقي الرئيس المنتدب للمجلس ما قد ينسب إلى القاضي من إخلال يمكن أن يكون محل متابعة. إنه بالرجوع إلى القواعد العامة فإن الشكايات ضد الأشخاص العاديين، سواء كانت عادية أو مباشرة، تفرض ذكر هوية الطرف المشتكي بشكل مجمل في الأولى وبشكل مفصل في الثانية. وإذا كانت هذه الضمانة لدى عامة المواطنين فمن باب أولى أن يتم ترسيخها لدى القضاة الذين يقومون بمهام جسيمة. نعم سيقول قائل إنه في القواعد العامة يمكن اعتماد الوشايات في تحريك الدعوى العمومية، ولكن هنا يجب الاحتياط لأننا نتعامل مع نوعية خاصة من الأشخاص من المفروض أن تكون لهم ضمانات ممارسة عملهم بكل حرية ومن دون ضغط، ثم لأن المجلس بتركيبته البسيطة، ولو بمساعدة المفتشين، وباختصاصاته المهمة الأخرى، لا يمكن أن ينكب على التعامل مع أي وشاية أو شكاية تعرض عليه، وإلا سيتحول إلى ضابطة قضائية كما سبق القول. السماح بعدم ذكر هوية المشتكي في الشكايات ضد القضاة وما يمكن أن يتبعه من تقاطر لعدة شكايات ذات طابع كيدي على المجلس، إذا أضفناه إلى المقتضات الخطيرة المتعلقة بالتأديب الواردة في القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، ولاسيما مقتضيات المادتين 96، 97، سيجعل القضاة مرعوبين وخائفين أثناء قيامهم بمهامهم الجسيمة التي تتطلب قوة وحزما من أجل الفصل في النزاعات من دون ضغط ولا تأثير قد يضعف موقفهم ويؤثر بشكل سلبي على تصريف العدالة بشكل سليم وسلس.