يقول أرسطو بأن النسيان ليس محوا للصور بل هو "وضعها في الظل" وكم من شخص يستظل بالنسيان اعتقادا منه بأن "اللي فات مات". لكن الحقيقة عكس ذلك إذ أن معظم التجارب التي يعيشها الفرد تظل راسخة بذهنه رافضة الرحيل، خصوصا إذا مر المرء بتجربة قاسية أو مؤلمة في مرحلة طفولته. وكم من رجل أو امرأة اليوم يتمنى ألا يعيش تلك التجارب التي غيرت حياته برمتها حين كان طفلا لا يفقه شيئا. ترتكب بعض الأسر الجرم الأكبر حين لا تعي ولا تفهم مدى خطورة ما يراه أو يسمعه أو يعيشه طفل ما في مرحلة طفولته، وكيف أن هذا الأخير يكون أكثر تأثرا في هذه المرحلة بالذات بجل ما يمر به حتى وإن اعتقد الأهل بأنه أمر تافه، ومن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها ومازالت ترتكبها بعض الأسر هو اعتمادها الكبير وبشكل هستيري على القوى الخارقة في تربية أبنائها أو تعديل سلوكهم أو أي شيء من هذا القبيل... فأعداد كبيرة من الأسر جنت على أبنائها دون أن تعلم مدى فداحة وخطورة ما ارتكبته في حقهم. وهنا نتحدث بالضبط عن الأسر التي تستعين بعالم الفقهاء والمشعوذين من أجل إصلاح ما يبدو لها غير طبيعي في أطفالها الأبرياء. وعلى سبيل المثال الأعداد الهائلة من الأمهات التي تحمل طفلها أو طفلتها إلى الأضرحة من أجل أخذ البركة أو من أجل الشفاء جاهلات تماما بمدى الآثار الواضحة التي ستعيش مع هذا الطفل بقية عمره وكدا مدى تأثيرها على نفسيته. والأدهى والأمر هو أن عادة ما يدفع هذه النسوة إلى حمل أطفالها إلى الأضرحة هو حين تلاحظن على حسب قولهن واعتقادهن شيئا غريبا في سلوك أبنائهن كفضوله المتزايد أو روح المغامرة والاستكشاف التي قد تدفعه أحيانا إلى المغامرة والمخاطرة بنفسه، أو شقاوته وحبه للعلب الدي لا ينتهي، أو بكائه المستمر سواء نهارا أم ليلا وغيرها من الحالات... وفي واقع الأمر أن كل ما ذكرناه سابقا هو شيء أكثر من طبيعي لأي طفل بل هو من الأشياء المفيدة التي تطور وتنمي وتقوي دكاء وشخصية وإدراك الطفل. فاللعب مهم بالنسبة للأطفال لأنه يطور مهاراتهم ويساعدهم على التركيز والاستيعاب والتخيل. في حين أن الفضول المتزايد لأي طفل في سنواته الأولى يعد إشارة عن مدى دكائه ورغبته القوية في التعلم والمعرفة وهو شيء بالغ الأهمية إن تمت تنميته بالطرق الصحيحة والعلمية. لكن للأسف الشديد، جهل الاهل والاباء يجعلهم يعتقدون بأن ما هو طبيعي بل أساسي عند كل طفل هو شيء غريب وخطير ومن بين أولى الحلول التي تنتصب أمام أعينهم هي "نديوه عند الفقيه"، "نزوروه سيدي ...، "نديرو ليه حجاب". وفي حال لم يفكر الاهل في هدا الموضوع فالفضل الأكبر يكون للجارات صاحبات الخبرة في هدا المجال، فتجد الجارة تقترح على أم الطفل اقتراحات غريبة كأن تقول: "كويه على غفلة طير منو الخلعة" أو " ديه لبيت فالجامع يكون مظلم وسد عليه يتهدن شوية" وغيرها من الاقتراحات والنصائح العجيبة والغريبة التي تتسبب في مشاكل لا حصر لها بالنسبة للطفل المسكين الدي لا يملك أن يعترض. وبدون أدنى شك تعتقد الأمهات بأنهن "دارو مزية" في حين أنهن ارتكبن خطأ شنيعا من دون أن يدركن. أولا لأن الحلول المقترحة التي عادة ما تعتمد عليها مثل هده الأمهات تحدث في أماكن تثير استغراب الطفل بل وتولد لديه خوفا رهيبا وشديدا منها في المستقبل. ناهيك عن النتائج الوخيمة التي يمكن أن يتعرض لها الطفل نتيجة هده الاعمال مثل أن تتسبب له تلك التجربة أو دلك الحدث الغريب الدي عاشه في فترة طفولته في عقدة أو اضطراب نفسي، أو صدمة نفسية. كما أنه قد يولد حالة من الرعب والدعر الشديدين للطفل تجعل منه لا يفارق والديه ويتمسك بهما بشكل مرضي مبالغ فيه. أما الأهم هو أن تلك التجربة المؤلمة أو الغريبة أو المرعبة التي عاشها الطفل تؤثر وبشكل مباشر على سلوكه وعلى حاضره ومستقبله وتظل لصيقة به مدى الحياة. والدليل الأكبر على دلك هو اعتقاد الشخص بأن ما مر به من تجاب قاسية في مرحلة طفولته قد طواها النسيان وفجأة يجد نفسه يتذكر وباستمرار بل ويتعايش مع الاحداث التي مر بها بصعوبة وحينها فقط يكتشف بأن تلك الرفوف المهجورة بالذاكرة مازالت حية ونشيطة رغم الهجران. وصدق سيغموند فرويد حين قال بأنك إدا أردت أن تعرف سبب العلة في مريض فيجب أن تسلط الضوء القوي على تاريخه حتى تظهر لك الحقائق واضحة تحت مجهر الماضي. وأما إن أردنا أن نتعرف على الأسباب التي تدفع الاهل إلى اللجوء لمثل هده الأفعال فهي كثيرة ومن أهمها نجد الجهل فغياب المعرفة بطرق تربية الطفل والتعامل معه عادة ما تتسبب في نتائج وخيمة. وكدا جهل الاهل والاباء خصوصا بأن تربية الأطفال هي أولا وأخيرا مسؤولية وبأنه من واجب مثلث المسؤولية التربوية أي الوالدين والمدرسة التعاون معا من أجل تنشئة طفل سليم نفسيا ولو على الأقل في سنواته الخمس الأولى. أما السبب الاخر والشائع هو اتباع التقاليد والعادات التي أكل عليها الدهر وشرب. ولا شك في أن هناك بعض التقاليد التي تضر ولا تنفع ورغم دلك تجد الناس يتشبثون بها ويأخذونها نبراسا لكي يهتدوا به في ظلام عقولهم جاهلين بأن ليست كل المصابيح صالحة للاهتداء من خلالها للطريق الصحيح. ورحم الله ابن خلدون حين قال: " اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء بل إن الأحياء أموات" ومن الحلول التي ممكن اقتراحها في حالة مرور الطفل بتجارب أو أحداث مشابهة أترث على نفسيته فيقترح تشجيع الطفل على الخروج من الصمت وجعله يتحدث. بالإضافة إلى عرضه على طبيب نفسي مختص في حال ازداد الامر سوءا. أما الأهم هو عدم بخل الإباء أو الاهل على التعبير عن مشاعر الحب والتشجيع للطفل لان هدا يزيد من شعوره بالأمن والأمان.