علم الآثار – كعلم التاريخ – هو دراسة ماضي الإنسان، ولكن بينما يعالج التاريخ ما هو مدون، والذي لا يتجاوز واحدا بالمائة من ماضي الإنسان خلال خمسة آلاف سنة خلت، فإن علم الآثار يعالج ال 99% الباقية من تاريخ أسلافنا وأجدادنا عبر حقبة تزيد عن نصف مليون عام. ونجد أن المدونات المرقومة خاصة بأولى الحضارات القديمة التي ازدهرت في العراق ومصر تتناول أساسا الشؤون الدينية وملكية الأراضي والقانون وهي لا تزودنا بأية معلومات عن البيوت التي عاش فيها أصحاب تلك الحضارة أو المعابد التي شيدوها، أو المعدات والأسلحة التي استخدموها، أو الجواهر التي تحلوا بها، أو طقوس الدفن التي مارسوها وهنا نجد أن علم الآثار هو العلم الوحيد الذي في وسعه أن يزودنا بتفاصيل كل هذه الأمور. وتنصب مهمة عالم الآثار على الكشف عن الأدلة الباقية لأية حضارة معينة وذلك عن طريق الحفريات، وعليه أن يصنف ويفسر البقايا والآثار التي يعثر عليها والتي قد لا تكون لها أية قيمة جمالية أو مادية. وكل ما يعثر عليه عالم الآثار له أهميته في تزويدنا بصورة لما كانت عليه الحضارات القديمة وقد تكون حتى أكوام النفايات لُقىً نفيسة في تركيب أجزاء هذه الصورة. فقد يجد عالم الآثار فيها بقايا أوان، وعُدد، وبذور المزروعات، وعظام الحيوانات التي كان يأكلها أصحاب تلك الحضارة ومنها قد يستنبط عادات أولئك القوم في الطهي والأكل وفي شؤون البيت عموما. وتتبع آثار المباني القديمة قد تزود عالم الآثار بتخطيط كامل لمدينة بأسرها، ببيوتها ومبانيها العامة، بل وحتى مجاريها تماما مثلما اكتشف في الفسطاط – القاهرة القديمة – وعلم الآثار علم حديث نسبيا.
بدأ دخول علم الآثار بالجامعات في جامعة أُوبسالا بالسويد عام 1662م، ثم في جامعة لايدن بهولندا عام 1818م، ثم جامعة كمبردج بإنجلترا عام 1851م. ويتواجد علم الآثار حاليا في معظم الجامعات. وقديما ورغم الاهتمام بآثار القدامى، فإن الأساليب الفنية للحفريات كانت بطيئة التطور، ولا نستطيع أن نصف تلك المحاولات الفردية التي قام بعضهم بالعثور على كنوز أو حلي أو مجوهرات بأنها حفريات أثرية بل لعل جهودهم تلك قد قضت على آثار القدامى أكثر مما ساعدتنا في التعرف على معالم تلك الحضارات والبعثات الفرنسية والبريطانية الأولى في الشرق الأوسط لم تكن إلا بعثات تجميع ونهب، وحتى في أيامنا هذه نجد ان الدول التي لا تصون آثارها تقع فريسة لعصابات منظمة غاية التنظيم تنهب وتسلب لتبيع ما تعثر عليه للمتاحف ولمن يهتمون باقتناء الآثار ولا يكلفون أنفسهم عبء السؤال عن مصادرها. وهكذا تتعرض النقوش القديمة التي لا تعوض إلى الطمس أو الإتلاف وهذا لعمري أمر يرثى له فإن الكثير من لغات تلك الحضارات القديمة ما زال لغزا غامضا وكل نقش أو كتابة مهما كان صغيرا ذو أهمية قصوى في تجميع مفردات لغة ما. ويجد علماء الآثار بالطبع بين الفينة والأخرى أشياء ذات قيمة مادية كحلي ذهبية أو فضية أو مجوهرات، أو أوان ذات نقوش رفيعة. لاشك أن مثل هذا العثور يضفي على تلك المقتنيات طلاوة في الحفريات الأثرية. وقد تكتشف كنوز هائلة مثل اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في مصر الذي أثار اهتماما شمل العالم كله. وكانت الاكتشافات على هذه الصورة قليلة ونادرة. وثمة خطأ شائع: ان علماء الآثار ما هم إلا حفنة من الباحثين عن الكنوز، ومن الناحية العلمية فإن اكتشاف عملة نحاسية مثلا أو قطعة خشب يمكن تحديد تأريخها بالضبط قد يكونان أهم من اكتشاف الكنوز علميا.
إن حجر الزاوية في علم الآثار هو تأريخ ما يعثر عليه والأسلوب المعتاد هو التاريخ الطبقي ونقصد هنا الطبقات الترابية، أو طبقات الأرض، فكل طبقة تحتوي على آثار تتعلق بشعب عاش في حقبة معينة. ولدى استعمال هذه الطريقة، يحفر خندق يوضح الطبقات المختلفة وخير مثال على هذه الطريقة هي الحفريات التي تمت في مدينة "طروادة" حيث نجد فيها تسع مدن شيدت كل منها فوق الأخرى وقد يفصل هذه الطوابق رماد، أو رمل، أو طمي، أو حمم بركانية، ولكن لعل أدق طريقة لتأريخ الآثار هو التحليل – الكربون الإشعاعي – فهناك مادة تعرف باسم كربون 14 تؤخذ في كل المواد العضوية أي الأخشاب والنباتات والعظام والشعر بل وحتى في روث المواشي ويمكن تحديد نسبة تفتتها بعد الوفاة.
أما الزجاج والفخار فيحدد تأريخهما بأسلوب آخر. إن تعدد طرائق تحديد الآثار يوضح مدى تعقد علم الآثار الحديث ومدى اعتماده على الخبراء في موضوعات مختلفة. فمؤرخ الفن لا يهتم إلا بالآثار ذات القيمة الجمالية من منسوجات ونقوش بينما يهتم المهندس المتخصص في تخطيط المباني وهندستها المعمارية، أما عالما النبات والكيمياء فينحصر همهما في العينات العلمية ولكن عالم الآثار ينسق المعلومات التي يحصل عليها كل هؤلاء جميعا. وبعد أن يلم بهذه العلوم سيتمكن ولاريب من تجميع أجزاء هذه المعلومات المتناثرة ليشكل صورة واضحة قدر الإمكان. إن عمل عالم الآثار لا يقتصر على بقعة دون أخرى ولكن من الأفضل أن تكون الحفريات في منطقة عاش فيها الناس لآلاف السنين بدلا من قرية نائية استقر فيها قوم، قُل لقرن واحد فقط. ولذا فإن أهم الحفريات الأثرية لم تتم في أوربا إنما في الشرق الأوسط حيث تطورت الحضارات المختلفة وتوالت على ضفاف النيل والفرات.
ومما يؤسف له أنه لم تتم إلا دراسة نسبة ضئيلة من الحفريات الممكنة رغم مرور أكثر من قرن على الحفريات المستمرة. وعلى عالم الآثار أن يحدد بادئ ذي بدء طبيعة المشاكل التي يود أن يبحث عن حل لها بحفرياته. فقد يرغب مثلا في التعرف على بداية الزراعة في منطقة معينة أو التطورات الثقافية التي تلتها أو متى بدأ شعب ما في صنع الأواني الفخارية أو الحلي أو الأدوات. وتتحكم مثل هذه العوامل في اختيار موقع الحفريات. ومن باب تحصيل الحاصل يجري مسح البقعة مع تصويرها من الجو أيضا. ونجد عادة أن موقع أية منطقة سكنية سابقة تتميز بالتلال. وكلما ازداد ارتفاع التلال كلما ازداد احتمال وجود عدة طبقات سكنية فيها. فالمدن الحديثة كانت تشيد على الدوام فوق خرائب المدن التي سبقتها. وبعد الحصول على المال اللازم وعلى تصريح من الحكومة لبدء الحفريات لابد لعالم الآثار من أن يقيم قاعدة لتنظيم عملياته في بلاده كما يكون منشغلا شخصيا بإدارة عمليات الحفر واستئجار العمال والإشراف على مختبرات الأبحاث التي ستتولى تحليل ما يعثر عليه من الموقع ذاته. ومن ثم يبدأ الحفر بالخنادق في المنطقة التي يتوقع أن تتوفر فيها أدلة على البقعة السكنية. وإذا ما عثر في الأرض على بقايا خزف أو فحم حجري أو مواد أخرى توحي بأن قوما ما عاشوا في المنطقة حينذاك يوسع الخندق إلى حين الكشف عن حدود المبنى المطمور وتزال بعد ذلك البقايا المتبقية على أن تجري إزالة العشرة سنتمترات الأخيرة منها بعناية فائقة وذلك بمعاول يدوية أو مكانس أو حتى فرش دقيقة، كما يجري تسجيل موضع العثور على كل شيء. وقد يستغرق تصنيف ما يعثر عليه وتحليله وتفسيره ثلاثة أضعاف الوقت الذي تستغرقه عمليات الحفر.
وتسجيل مكان العثور على كل صغيرة وكبيرة على خلاف المؤرخ الذي تكون وثائقه في متناول يد أي بحاثة يأتي بعده فإن عالم الآثار مضطر إلى تدمير ما يحيط بالمواد التي يعثر عليها، وبالطبع يحتفظ بتلك المواد ولكن عملية الحفر تقضي على ما كان يحيط بها وعلى الطبقات المختلفة التي عثر فيها على تلك المواد، وتسجيل أماكن العثور على الآثار إذا كان كاملا يجعل في الوسع للباحثين إن شاءوا إعادة كل شيء إلى موضعه الأصلي. ولا توجد مصوغات مادية أو تبرير عملي لعلم الآثار وانه أحيانا يستغل لأغراض وطنية أو سياسية ولكن علم الآثار في جوهره إنما هو صدى لحب الاستطلاع الذي يغلي على الدوام في أفئدة الناس للتعرف على ماضيهم. وقد تكشف بعض الحفريات عن حضارة كانت مجهولة أو لغة جديدة أو مخطوط نادر أو فن لم يسبق له مثيل. والمواد العلمية التي يمكن للإنسان أن ينتج فيها إنتاجا أصيلا قليلة. وعلم الآثار هو أحد تلك المواد القليلة كما أنه يتطلب مجموعة واسعة من الخصائص والمميزات منها إصرار يستحوذ على النفوس وصمود في العمل والصبر وصبر مع مهارة مفتش شرطة في حذقه وتحليله وقوة ملاحظته. كما أنه يتطلب بلاغة أديب واسع المخيلة. ولعل أهم من كل هذا وذاك يتطلب مزايا رجل مقدام لا تفتر همته بحصافة سياسي نظري. *-..*-..*-..* والله الموفق 2016-12-03 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI