يواجه المغرب تراجعًا في نموه السكاني في السنوات الأخيرة، ويُعزى هذا التراجع إلى انخفاض مستمر في معدل الخصوبة، وهو أحد المؤشرات المهمة التي تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها البلد. وفيما يُسجل انخفاض تدريجي في عدد المواليد الجدد، يصبح من الضروري فهم الأسباب الكامنة وراء هذا التغيير، فضلاً عن التحديات التي تترتب عليه. تشير الإحصاءات إلى أن معدل الخصوبة في المغرب قد شهد انخفاضًا ملحوظًا في العقدين الأخيرين. ففي عام 2000 كان معدل الخصوبة يصل إلى حوالي 3.1 مولود لكل امرأة، بينما في السنوات الأخيرة انخفض هذا المعدل ليصل إلى حوالي 2.2 مولود لكل امرأة في عام 2021، وهو ما يعكس تحولًا كبيرًا في الهيكل السكاني للبلاد. يعد هذا الرقم قريبًا من الحد الأدنى للخصوبة الذي يضمن الاستقرار السكاني (2.1 مولود لكل امرأة). هذا التراجع في معدل الخصوبة يمكن تفسيره بمجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية، أبرزها زيادة الوعي بتنظيم الأسرة، وتحسن الوضع الاقتصادي، وتزايد التعليم، خصوصًا بين النساء، فضلًا عن التغيرات في قيم الأسرة والمجتمع. مع ازدياد الالتحاق بالمدارس وارتفاع معدلات التعليم، أصبحت النساء في المغرب يكتسبن المزيد من الفرص المهنية والاجتماعية، مما أتاح لهن تأجيل الإنجاب من أجل التركيز على مسيرتهن الشخصية. كما أن تزايد دخول المرأة إلى سوق العمل قد جعل التوازن بين العمل والحياة الشخصية أكثر تحديًا، مما دفع العديد من النساء إلى تقليص عدد الأبناء. مع تحسن مستوى المعيشة، زادت تكاليف الحياة بشكل عام، بما في ذلك تكاليف التعليم والرعاية الصحية. وهذا دفع العديد من الأسر إلى تقليل عدد الأطفال بسبب الضغوط المالية التي قد تترتب على تربية الأبناء. كما أن عدم استقرار سوق العمل يساهم في تراجع الاستعداد لإنجاب أطفال في ظل الضغوط الاقتصادية. أثرت التغيرات الثقافية والاجتماعية في المغرب على مفهوم الأسرة والأبوة. أصبح المجتمع المغربي يشهد تحولًا في نمط الحياة، حيث لم يعد من الضروري أن يكون للأسرة عدد كبير من الأبناء، بل أصبح التركيز على تحسين جودة حياة الأطفال وتوفير بيئة مستقرة لهم. ينطوي انخفاض معدل الخصوبة على تحديات كبيرة للمغرب في المستقبل، خصوصًا فيما يتعلق بالعمر المتوقع للسكان. مع انخفاض الخصوبة، يزداد عدد كبار السن في المجتمع، مما يشكل ضغطًا على أنظمة الرعاية الصحية والمعاشات، فضلاً عن توفير خدمات أخرى ضرورية لهذه الفئة. من المتوقع أن يشهد المغرب في العقود القادمة زيادة في نسبة السكان الذين تتجاوز أعمارهم 60 عامًا، وهو ما يتطلب استراتيجيات حكومية جديدة لضمان رعاية صحية واجتماعية كافية لهم. كما أن انخفاض معدل الخصوبة قد يساهم في تقلص القوى العاملة، ما يؤثر بشكل غير مباشر على النمو الاقتصادي، حيث ستكون هناك حاجة أكبر للاستثمار في التكنولوجيا والتعليم لضمان بقاء الاقتصاد في مساره التنموي المستدام. في مواجهة هذا التحدي، أصبح من الضروري على الحكومة المغربية أن تتبنى سياسات تهدف إلى تحسين التوازن السكاني. قد تشمل هذه السياسات تحسين الرعاية الصحية للأمهات والأطفال، بالإضافة إلى توفير حوافز اقتصادية للأسر ذات الدخل المحدود لدعم النمو السكاني. من جهة أخرى، يجب تعزيز البرامج التعليمية التي تشجع على تحقيق توازن بين الحياة المهنية والعائلية، خاصةً للنساء. كما يمكن أن يشكل هذا التحول في الهيكل السكاني فرصة لاستثمار فئة الشباب المتزايدة، عبر تدريبهم في مجالات جديدة تلبي احتياجات الاقتصاد المعاصر، مثل التكنولوجيا والابتكار، لضمان استدامة النمو الاقتصادي في ظل هذه التغيرات السكانية. إن تراجع معدل الخصوبة في المغرب يعد نتيجة لتغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة، مما يعكس تحولًا في ثقافة الأسرة ونمط الحياة بشكل عام. وعلى الرغم من التحديات التي قد تترتب على هذا التراجع، فإن المغرب أمام فرصة للتحول نحو سياسات جديدة تعزز الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية، وتواكب التحولات الديموغرافية التي يشهدها.