هناك مدرستان أو منهجان على جانب كبير من الأهمية في الفكر والتاريخ الإسلامي ،بينهما توافق وتعارض وتداخل قد يصعب على القارئ البسيط حل لغز التمايز بينهما ،وخاصة حينما يتعلق الأمر بتأويل النص الديني وبالأخص النص العقدي والقضايا الماورائية من عالم الغيب ودقائقه .وعلى رأس هاتين المدرستين، ولا أقول الطائفتين لكي لا نضطر إلى الحديث عن طوائف أخرى، نجد أبا حامد الغزالي من جهة وفي الضفة المقابلة تقي الدين بن تيمية.ومن ورائهما تياران كبيران ينجر ويجر بعضهما البعض تارة نحو التوافق وتارة نحو التصادم وهو الأغلب والمؤثر على العلاقات العامة ،مما يستدعي تحليلا موضوعية لأسس ومرتكزات كل مدرسة عن قرب وتقابل مباشر. 1)أهلية التأويل والتحديد الموضوعي لمذهب السلف فالغزالي قد اعتمد منهجا يرتكز على الاعتبارات اللازمة التي تناسب الذات والموضوع،فأعطى للذات تقسيمات على حسب استعداداتها ومؤهلاتها ، كما أنه صنف المواضيع العلمية تصنيفا يتناسب ومستوى هذه الذوات المتحملة للمعارف . فبخصوص تعامل الناس مع المتشابه من النصوص يقول : “الباب الأول في شرح اعتقاد السلف في هذه الأخبار: “أعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف أعني مذهب الصحابة والتابعين،وها أنا أورد بيانه وبين برهانه ؟ فأقول : حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا؟ أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور:التقديس ثم التصديق ثم الاعتراف بالعجز ثم السكوت ثم الإمساك ثم الكف ثم التسليم لأهل المعرفة“[1]. فهذا قد يحدد لنا بوضوح مفهوم السلفية الموضوعية ذات الصبغة المعرفية والخصوصية المرجعية كما قد يبعد عن العامة عن كل محاولة للتأويل ويوقفهم عند حدهم،في حين يلزمهم التأدب حيال أهل المعرفة الذين هم السلف الصالح ومن سار على منهجهم من العلماء أو العارفين بالتسليم لهم حتى لا يكونوا حجر عثرة أمام محاولة هؤلاء الأخيرين الاستنباط مما أشكل عليهم. وذلك لأنهم مؤهلون علميا للخوض في هذا البحر وهم أدرى بالسباحة فيه،أما الذي لا يفهم العوم فيجب أن ينحى حتى عن الشطوط فضلا عن الدخول إلى الماء. فنراه إذن يقسم أصناف الناس حيال موضوع التأويل إلى قسمين : خاصة وعلماء،والعلماء بدورهم لهم مستويات فيه ومواقف تختلف من عالم لآخر. هذا التقسيم لم يكن اعتباطيا أو تعسفيا، وإنما كان لأسباب كثيرة بينها في كتبه بخصوص هذا الموضوع ،من بينها تفاوت قوة أدوات المعرفة عند البعض دون البعض الآخر ونقص المعلومات اللازمة للخوض في هذا الميدان،كما نراه يركز على اللغة والمحكمات الشرعية وكذلك جانب التمرن العقلي كوسيلة ضرورية ومؤهلة لتفسير ما يشكل من مثل هذه الأمور. ولئن كان الغزالي قد جعل من الواجب منع العوام من الخوض في المتشابه فإنه لم يتعده إلى العلماء،حيث يرى أنه من باب اللياقة والمناسبة لمقامهم تناوله بالبحث والتحقيق رغبة للرسوخ في العلم[2]. هؤلاء العلماء لكي تكون تأويلاتهم صحيحة ينبغي أن يجمعوا بين النقل والعقل،وبذلك يكونون أمة وسطا في هذا الميدان.لأنهم أهل الحق والموفقون في هذا الميدان من بين الفرق الخمسة التي خاضت فيه. يقول عن هذه الفرقة : ” هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول الجاعلة كل واحد منهما أصلا مهما، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقا، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع إذ بالعقل عرف صدق الشرع ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي والصادق والكاذب ، وكيف يكذب العقل بالشرع وما ثبث الشرع إلا بالعقل ، وهؤلاء هم الفرقة المحقة وقد نهجوا منهجا قويما“[3]. 2) تعميم التأويل وفتح باب الخلاف بين السلف والخلف إن هذا التقسيم لأصناف المؤهلين بالخوض في التأويل وجعل الفرقة الخامسة هي المحقة إذا وفقت بين الشرع والعقل في المسائل التي خاضت فيها، ولد ردة فعل عند ابن تيمية ،وربما إن شئت القول بأن كتاب : “درء تعارض العقل والنقل ” قد كان يستهدف الغزالي خصوصا[4]،وإن كان الجدل يعم الفرق الكلامية كلها تقريبا. ذلك أن ابن تيمية قد بين هدف الكتاب وهو بيان فساد قانون التأويل عند المتكلمين،وأن هذه اللفظة أي :قانون التأويل،تمثل عنوانا حرفيا لكتاب الغزالي الخاص بهذا الموضوع . ومما يؤكد هذا هو استشهاده في نقده له بهذا الكتاب في كثير من مناطق الجدل الكلامي حيث نراه يقول بخصوص أهل التأويل : “ولما كان بيان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله،وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر”[5]. من هنا فسيحصر مفهوم التأويل وأهله في دائرة موحدة،جاعلا منه مسألة في متناول كل الناس ومحددة بالتفسير الشرعي ثم اللغوي،لا فرق في ذلك بين عالم وعامي؛وإنما الكل يصير من النقلة بمجرد سماعه لهذا التقسيم . بل قد تعدى به الأمر إلى طرح القضايا العقدية التي ربما تدخل في حكم المتشابهات وذلك على المنابر وفي محضر الجمهور من العامة،هذا مع تدخله الذاتي في تفسيرها وتأويلها حسب مذهبه مخالفا بذلك منهج السلف الصالح في مثل هذه الأمور كما يروى عن الإمام مالك اشتهارا في مسألة الاستواء على العرش وردعه أمام العامة من الناس . في هذا الصدد يذكر ابن بطوطة عنه كشاهد عيان : “وكنت إذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم،فكان من جملة كلامه أن قال : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا،ونزل درجة من درج المنبر،فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربا كثيرا حتى سقطت عمامته …”[6]. هذا النص قد لا يحتاج إلى تعليق إن ثبت سنده، وذلك فيما يخص خطر تدخل العامة في مجال التأويل والخلاف المعرفي، كما يؤكد المسؤولية السلبية لبعض العلماء كابن تيمية مثلا في فتح الباب والذريعة لتجرئهم على اختراق حدود وآداب العلم والتعامل مع العلماء. و أيضا قد يفتح باب التجرؤ على النصوص الدينية نفسها وأخذها بحرفيتها دون معناها وبغير علم أو تعلم،وبالتالي مصادرة الرأي الآخر بالقوة والعنف في المساجد وخارجها ،وهو ما أصبح من أخطر الآفات التي تهدد الاستقرار الروحي للأمة في عصرنا الحالي وبالتالي يناقض منهج السلف الصالح عرفانا وسلوكا. وعلى العكس من هذا فقد ذهب إلى أن ما لم ينقل تأويله بالشرع فينبغي أن يبقى كما هو عليه إلى حين وقوع المخبر به إذا كان متعلقا بالخبر أو تطبيق الأمر والنهي كما يقول : “ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة،فإنه قد عرف تفسيره، وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم. قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع : نوع يعرف بالشرع كالصلاة والزكاة،ونوع يعرف حده باللغة ، كالشمس والقمر،ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله تعالى: “وعاشروهن بالمعروف “. . .[7] هكذا إذن يتبين لنا أن فهم النصوص بهذه الوسائل هو الحد النهائي في المعرفة عنده وماعدا ذلك فإنهم مبتدعة وضالون ولهم مسلكان هما : “طريقة التبديل وطريقة التجهيل،أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل وأهل التحريف والتأويل[8]. فأهل التجهيل هم الذين يعتقدون بأن الوقف عند قراءة الآية الكريمة : “وما يعلم تأويله إلا الله”يلزم منه اعتبار الآيات المتشابهات كقوله تعالى “الرحمن على العرش استوى” لا يعرفه إلا الله تعالى وأن الأنبياء وأتباعهم جاهلون بمدلولها،ومع هذا يعتقد هؤلاء أنهم يسيرون على طريقة أهل السلف “وهؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم : إن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء”[9]. من هذا المنطلق نراه يدافع عن موقف السلف الذين وقفوا في قراءتهم عند قول الله تعالى: “وما يعلم تأويله إلا الله”،مبينا أنهم كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم،وأنه لم يكن لفظ التأويل يراد به معنى التأويل الاصطلاحي الخاص:”وهو صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنى يخالف ذلك “[10]. فهو بهذه الدعوى يرجع دائما إلى مبرر اللغة،ملقيا باللائمة على المؤولين بأنهم قد حرفوا المفهوم اللغوي لكلمة تأويل،وأنها لم تكن معروفة عند السلف كما تستعمل عند المتأخرين. عند هذا سيتعرض إلى مسألة تأويل الرؤى،معتبرا أن التأويل فيها هو نفس مدلولها الذي تؤول إليه، وأن العالم بتأويلها هو الذي يخبر بها،فجعل التعبير مقابلا للوقوع،كما حمل لفظ التأويل على تعبير الرؤيا وعلى وقوعها. ومعلوم أن ظاهر الرؤيا مخالف لحقيقتها الواقعية وهذا ما لم يشر إليه في خضم الدفاع عن رأيه[11]،كما أن الرؤيا تعتبر نوع علم قد يوجد عند البعض من الناس دون البعض الآخر،مما يلزم معه التصنيف لطبقاتهم تجاه تلقي العلوم وتلقينها . وهكذا فإن لومه لأهل التجهيل لم يكن إلا من منطلق الدعوى بأن السلف كانوا يعلمون مدلول الألفاظ،في حين أن نكران فهم السلف لمدلول الألفاظ لم يصدر من عند أية فرقة معتبرة في مجال الفكر والمذاهب ،وكيف يوجه إليهم هذا القول وهم أدرى الناس باللغة ومضامينها. أما الفرقة الأخرى فإنه قد سلك معها مسلكا نقديا معاكسا للنقد الذي وجهه لأهل التجهيل في نظره،فنراه يقول : “وأما أهل التحريف والتأويل فهم الذين يقولون إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو حق في نفس الأمر وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمنا بعقولنا. ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات”[12]. إن هذا النقد لأصحاب هذا الأسلوب في التأويل قد يرفع الستار بالكلية عن موضوع التأويل وأهله،وذلك لرفضه أية محاولة عقلية لفهم النصوص،بل قد تعدى الأمر إلى إقصاء الاستدلالات اللغوية التي ربما يكون فيها نوع إيضاح لمفاهيم النصوص وذلك بالتوافق مع النظر العقلي،وهذا ما يجعل منهجه يصطدم ومنهج الغزالي في مسألة التأويل. وذلك لأن هذا الأخير قد يوظف كل الوسائل اللازمة للحصول عليه صحيحا،والتي لا تصطدم مع النقل المحكم الواضح ولا مع العقل الصريح،بل إنه يبدو محترزا في المسألة وذلك بالإعلان عن ضرورة بقاء هذا التأويل المحصل عليه بين العارف وبين ربه ،وأن لا يجعله موضوع الدروس أو المخاطبة العامة ،فنراه يقول : “تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه،وهو على ثلاثة أوجه،فإن الذي انقدح في سره أن المراد به من لفظ:الاستواء والفوق مثلا،إما أن يكون مقطوعا به أو مشكوكا فيه أو مظنونا ظنا غالبا. فإن كان قطعيا فليعتقد،وإن كان مشكوكا فليجتنبه،ولا يحكمن على مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح،بل الواجب على الشاك التوقف . وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن متعلقين أحدهما: أن المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله تعالى أم هو محال،والثاني:أن يعلم قطعا جوازه لكن تردد هل هو مراد أم لا؟”[13]. بحيث قد يظهر هنا محترسا جدا،وملتزما الشرع في ظواهر النصوص ،مع تبيين أن أهل التأويل مهما ترقوا في مقاماتهم المعرفية لابد وأن يحكموا ظواهر الشرع فيما جال بخواطرهم أو قلوبهم ،وهذا ما يوافقه عليه ابن تيمية ولكن في حدود معلومة . كما نرى بأن الغزالي يعطي للعقل حقا في انتقاء والتزام الأسس التي يقوم عليها انتظام أحكامه ومن دون اختراق حدوده ،وفي هذه الحلقة المعرفية نستشف نظرته إلى وحدة المعرفة وإلى عدم تعارض أدواتها، وإلى أنه لا تعارض مع الشرع والعقل ،ولامع الشرع والقلب ،ولامع العقل والقلب ، بل كل من العقل والقلب يخضع للشرع ، والشرع يقر ما يتوصل إليه العقل والقلب بشرط سلامتهما في الإدراك . وعلى هذا فإن البحث العلمي ينبغي أن توظف فيه كل الأدوات المعرفية دون استثناء،حتى فيما يتعلق بالعالم الروحي والانتقال التسلسلي من التمثيلي إلى الحقيقي،وهو ما لا يمكن توفره لدى كل الناس. لهذا فقد وجب التصنيف لطبقاتهم في موضوع التأويل،سبق أن أشار فيه إلى أنه على العامي التسليم في الموضوع لأهله،وأن العجز عن إدراكه يختص بالنفس العاجزة فقط ،أما معرفة المتشابه فإنه ممكن عند الراسخين في العلم حيث قال: “وأما التسليم لأهله فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على الأنبياء أو على الصديقين والأولياء“[14]. أما ابن تيمية فلا مجال للتصنيف عنده،بل لا مكان للتأويل في تعامله مع النصوص،وإنما التأويل هو التفسير،ولا يهم تعارض النقل والعقل في الظاهر،بل يجب أن يفهم النص بما هو ظاهر،والعقل يوقف عنده قسرا،وكل ما وقع على السمع أو قرئ باللسان والعين فهو ذاك المفهوم والمقصود بحروفه وبرنته ووقعه الكلامي. أما البحث عن : هل هذا الكلام فيه تشابه أو تعارض مع محكمات النصوص والأحكام العقلية وذلك من خلال المفهوم اللغوي المقتصر عليه في تفسير مثل هذه المسائل،فهذا ما لم يجوزه كقاعدة،أما كواقع فإننا سنرى بعض الاختراقات لها،وسنرى تدخل العقل أو الرأي بوضوح في تعليل المفاهيم المتبناة عنده في مجال التأويل،قد نعرض لها فيما بعد إن شاء الله تعالى .
[1] الغزالي:إلجام العوام عن علم الكلام ص53 [2] الغزالي:الاقتصاد في الاعتقاد ص52 [3] الغزالي :قانون التأويل ص48 [4] ابن تيمية:درء تعارض العقل والنقل ج1ص5 [5] نفس ج1ص20 [6] ابن بطوطة :تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ص58 [7] ابن تيمية :مجموعة الرسائل الكبرى ج1ص20 [8] ابن تيمية :درء تعارض العقل والنقل ج1ص8 [9] نفس ج1ص15 [10] نفس ج1ص201 [11] ابن تيمية:مجموع فتاوى ،مقدمة التفسير ص290 [12] ابن تيمية :درء تعارض العقل والنقل ج1ص12 [13] الغزالي :إلجام العوام عن علم الكلام ص68