تبقى العطلة الصيفية دائما فرصة للتحرر من قيود الزمن والالتزامات المهنية، وتفعيل الحق في الترفيه والترويح عن النفس، وإخراج الطاقة السلبية، والاستمتاع بالعبور الجغرافي، والسفر في الزمن والمكان…والحضارة والتاريخ. وبعد العودة إلى الديار والأهل يبدأ السؤال: كيف قضيت العطلة؟ وأين؟ وتختلف الأجوبة حسب الوجهة، فالبعض قضاها في دول مجاورة (إسبانيا والبرتغال) فكل منهما تقدم منتوجا سياحيا في وعاء نظيف ذي مصداقية وبطريقة جذابة، مع خدمات عالية الجودة بأقل التكاليف (النظافة.. الترفيه..التسوق..الأمن..تنوع وسائل النقل، شواطئ نظيفة مجهزة بمظلات شمسية مجانا، ورشاشات ومراحيض…).. لا مضايقات ولا تحرش ولا تسول، بعيدا عن مشاكل حراس السيارات واللصوص، مع مطاعم متنوعة نظيفة يعمل بها عمال وعاملات لا تفارق الابتسامة وجوههم. والدليل على جودة الخدمات أن إسبانيا استقبلت 900 ألف سائح مغربي سنة 2018. أما جواب فئة وجهة السياحة الداخلية فكلها تعبر عن التذمر، والحسرة والغضب من رداءة الخدمات، وضعف البنية التحتية (عدم وجود مراحيض عمومية)، وغلاء أسعار كراء الشقق والسلع، والمطاعم والمقاهي..حتى المظلة بالشاطئ تكترى.. التسول، الاستغلال في كل مكان، ضعف الترفيه، والمضايقات. قال أحد المتذمرين: “التطرف يعيش بيننا في الشوارع، في الأسواق والشواطئ؛ فلماذا هذه الفوارق بين الوجهتين؟..المغرب بدوره يمتاز بالتنوع المناخي: تاريخ، جبال، شواطئ، صحراء، ومع ذلك لم يصل إلى المستوى الموسوم ببلد سياحي. لماذا؟”. واقع السياحة بالمغرب يعتبر النشاط السياحي من أكثر الصناعات الواعدة عالميا؛ وذلك من خلال ما يضفيه من حركية على الاقتصاد. واستنادا إلى المنظمة العالمية للسياحة فقد أصبحت الموارد السياحية تمثل أكثر من 7 في المائة من الناتج العالمي، ما جعل قطاع السياحة يحتل المركز الرابع على مستوى العالم كقطاع تصديري. والمغرب بدوره عرف أهمية هذا القطاع، فوضع ضمن المخططات والبرامج السياحية المخطط الأزرق (2020)، مع إنشاء الهيئة المغربية للاستثمار السياحي، لإنشاء عرض سياحي تنافسي على الصعيد الدولي، عبر توفير إمكانيات هامة من أجل هذا المخطط (الوعاء العقاري…). وأعلن وزير السياحة أن إستراتيجية 2020 تهدف إلى مضاعفة حجم الطاقة الاستيعابية، ما سيؤدي إلى زيادة عدد السياح الوافدين. ومن بين أهداف هذه الإستراتيجية أيضا تشجيع السياحة الداخلية من خلال منح المواطنين المغاربة أسعارا تفضيلية، بالإضافة إلى القيام بحملات ترويجية للمنتوج السياحي المغربي. ولكن الواقع السياحي بعيد عن هذه البرامج النظرية على الورق، وبعيد عن تحقيق 20 مليون سائح سنة 2020. فلماذا هذا الفشل؟ ولماذا لم يصنف المغرب من البلدان السياحية؟.. لأننا نفتقد إلى الصناعة السياحية، ومقوماتها. الصناعة السياحية تنافس العديد من الخبراء، والباحثين، والمهتمين بصناعة السياحة، أو الصناعة السياحية، في تحديد مفهومها، ومنه تعريف يركز على الجوانب الإنسانية والنفسية؛ وهو اعتبارها ظاهرة من ظواهر عصرنا تنبثق من الحاجة المتزايدة إلى الراحة، وإلى تغيير الهواء، والإحساس بجمال الطبيعة، والشعور بالبهجة والمتعة، بالإقامة في مناطق لها طبيعة خاصة. وأصبحت هذه الصناعة من أكبر الصناعات في العالم، وأحد أسرع القطاعات الاقتصادية نموا؛ وذلك لما تحققه من نتائج إيجابية على مستوى المداخيل، وعلى مستوى مناصب الشغل التي تحدثها بصورة مباشرة وغير مباشرة، لارتباطها مع العديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ وأصبح بالإمكان اعتبارها صناعة ثقيلة للخدمات، مستوفية كل مقوماتها مثل كل صناعة. مقومات الصناعة السياحية الطبيعة الساحرة، مراكز التسوق، الترفيه، المعالم الثقافية، المآثر…ليست مقومات كافية للصناعة السياحية؛ بل لا بد من توفر عناصر الإنتاج الخمسة الضرورية لكل صناعة: 1 –المادة الخام: وتتمثل في الموقع الجغرافي، والمناخ، والمآثر التاريخية، والبنية التحتية، والطرقات ووسائل النقل، والمرافق الصحية، والفنادق، والمنتجعات، ومراكز الترفيه والتسوق، والحدائق، والغابات، وملاهي الأطفال، وشواطئ مجهزة…. 2 –رأس المال: يتمثل في أموال الاستثمارات لإقامة الفنادق، وشق الطرقات، وبناء المطاعم والمقاهي، وتكاليف الترويج السياحي. 3 – العنصر البشري: ويكون مؤهلا متمكنا للعمل في قطاع السياحة؛ سواء في الفنادق أو وكالات الأسفار، وشركات النقل السياحي. 4– التنظيم: يتمثل في طرق تنظيم إدارة المؤسسات السياحية، وقدرتها على جذب الزبون بطرق صادقة ونظيفة، وتحقيق رغباته من أجل إعادة الزيارة مرات عديدة. 5 – التكنولوجيا: تتمثل في مسايرة كل المستجدات الحاصلة في الميدان السياحي، والإبداع فيها (طرق الحجز الرقمي –استعمال منصات التواصل الاجتماعي –الإعلانات الذكية، وتطور كل الأنشطة التي من شأنها ضمان راحة السائح). أهمية الصناعة السياحية بما أن الصناعة السياحية من أكثر القطاعات ديناميكية عبر العالم، فلها أهمية في مختلف المجالات، سأقتصر على ذكر بعضها: في المجال الاقتصادي: تساهم في دعم الاقتصاد الوطني من خلال مداخيل السياحة. مثلا في إسبانيا بلغت إيرادات القطاع السياحي في شهر يوليوز 2019 ما مجموعه 53 مليار أورو.. كما تبرز علاقات اقتصادية بين الدول؛ فسياحة الأعمال والمشتريات مثلا غرضها تجاري، وتؤدي إلى توقيع صفقات… في المجال السياسي: أصبحت هذه الصناعة أحد العوامل المهمة في التضامن الإنساني، ورمزا من رموز السلام والإخاء بين الدول، من خلال مساهمتها في تحقيق التقارب السياسي بين شعوب العالم. في المجال البيئي: توفر الصناعة السياحية الحوافز لتنظيف البيئة، من خلال مراقبة الهواء، والماء، والتلوث؛ كما تساهم في تحسين البيئة من خلال برامج تنسيق المواقع، واستخدام اللوحات التوجيهية، وصيانة المعالم… وهكذا يتضح لنا أن الصناعة السياحية اليوم هي عملية إنتاج مترابطة بين إستراتيجيات وخطط عمل متطورة لتحويل المؤهلات الطبيعية وغيرها إلى مردود اقتصادي؛ وهذا ليس بالسهل في زمن العولمة واقتصاد السوق الذي لا يعرف إلا القوي بالعلم والمعرفة في مجال الترويج السياحي، وجلب الزبائن، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون…. وحتى يصبح المغرب منافسا قويا عليه النهوض بمقومات الصناعة السياحية حتى يستحق اسم أجمل بلد في العالم.