كيف قاس مكانه، وكيف قاس زمانه 2/1 (المكان) بلغ الإنسان في قياس مكانه وزمانه إلى أجزاء من الصغر، فاتت قدرته على تصورها، وإلى أشياء من الكبر، عجز خياله عن استيعابها. وفي عجز عينه عن إدراك الصغير، وفي عجز تصوره عن استيعاب الكبير، راح يتفرغ وعيه لإدراك حاجات العيش وهي تقع من الأمور في أواسطها. مسكين هذا الإنسان. ومع مسكنته ما أحيَله ! وجد على الأرض عاريا من كل شيء. عاريا جسما، وعاريا عقلا. وأمامه الحياة مبهمة المسالك. وكان عليه أن يكشف مسالكها مسلكا مسلكا. وعلى السنين، بل على القرون، أخذ يعرف، ويتفقه، ويعمل عقله حينا، وحيلته حينا، وتقف دونه الحواجز تمنعه الخطى، فيدور حول العوائق، عائقا من بعد عائق. وهو في كل هذا يعتمد على الطبيعة التي هو فيها. كيف قاس الإنسان مكانه ؟ والإنسان يعيش في المكان، فهو يريد أن يعرف البعيد منه والداني، وأن ينقل إلى غيره هذه المعاني. وهو يعيش بين الشجر والطير، والأشياء من أحياء وغير أحياء، وهذه تعطيه معنى الصغر ومعنى الكبر، فهو يريد أن يعبر وأن ينقل. إنه يحتاج إلى القياس. وهو لم يكن عنده علم هو عندنا اليوم، فيقوم يرد هذه الأبعاد في المكان، وهذا التفاوت في الصغر والكبر، إلى أشياء في الحياة ثابتة. وكأني بالإنسان لم يجد في الحياة، من حيث القياس، أثبت من جسمه. فقدماء المصريين قاسوا الأشياء بالأصبع، وعنوا به عرضه. وسماه الغرب من بعد ذلك Digit، وهو عندهم الرقم من1 إلى 9، أو هو عندهم الأصبع. والأربع الأصابع التي في اليد، غير الإبهام، أنت تبسطها، فيكون عرضها عرض الكف. فهذا هو المقياس الأكبر، الكف، الذي اتخذه قدماء المصريين بعد الأصبع. وضموا سبع أكف من هذه، بعضها إلى بعض، فكان الذراع، وهو في الرجل من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى. ولا يزال الذراع شائع الاستعمال في بعض مناطق الشرق وبعض البلاد العربية إلى يومنا هذا. وتسمع، عن الفرسخ عند العرب، وتنظره في المعجم، فتجد أنه ثلاثة أميال هاشمية، وقيل اثني عشر ألف ذراع، أي نحو ثمانية كيلومترات. والكلمة أصلها فارسي. وتسأل عن الميل الهاشمي فتعلم أنه ألف باع. وتسأل عن الباع فتعلم أنه قدر مدّ اليدين، فهو مقياس كسائر المقاييس تُرد إلى الطبيعة، وأجسام الناس من الطبيعة. وتسأل عن الميل عامة عند العرب فتعلم أنه قدر منتهى مد البصر من الأرض، أو هو أربعة آلاف ذراع. وهي كلها، وأساسها الذراع، ليس لها حظ من الضبط كبير. وتسأل عن المسافة بين بلد وبلد، فيقال لك انها مسيرة عشرة أيام بلياليها، أي بالنياق. وليست النياق بثابتة السرعة، ولا ساعات عملها في ليل أو نهار بواحدة. ولعل هذا القدر من التعبير عن القياس كان في القديم من الزمان كافيا لسائر الناس وسائر حاجات العيش. وعند الإنجليز، وعند الأمريكان، توجد البوصة Inch وتوجد القدم. وكلتاها ترد إلى أشياء هذه الطبيعة. أما البوصة فهي عرض الابهام. وأما القدم فهي طول القدم عند الإنسان. الياردة Yard وحدة قياس للطول كانت تستخدم في بريطانيا ولازالت تستخدم في أمريكا. أنشأها هنري الأول ملك إنجلترا عندما مد ذراعه وحدد الياردة بالمسافة بين أنفه وطرف اصبعه الأوسط. اليارد يساوي ثلاث أقدام، ويساوي ستة وثلاثون بوصة. والمتر هو المقياس الشائع اليوم في أكثر الأمم. وهو حديث العهد. ففرنسا كانت أول من اتخذه مقياسا، وذلك في عام 1795 وقد انتهت الثورة الفرنسية ولم تكد. وهو كسائر المقاييس مردها إلى الطبيعة. والطبيعة هنا هي الأرض. فالدائرة التي ترسم حول الأرض مارة بالقطب الشمالي والجنوبي، وعمودية على خط الاستواء، تسمى بدائرة خط الطول Meridian. وقدروا طول ربع هذه الدائرة، وهو الذي يصل بين القطب وخط الاستواء، وقسموه إلى عشرة ملايين جزء. فهذا الجزء هو المتر. ولما كان لابد من مقياس ملموس محسوس للمتر تتفق الأمم عليه، فقد اتفقوا على طول المتر المحفوظ في قبو في باريس، وهو عبارة عن قضيب من البلاتين، عليه خدشان يتحدد بينهما طول المتر. وهو في درجة من الحرارة ثابتة فلا يزيد طوله ولا ينقص. فمن الطبيعة المطبوعة، انتقل الإنسان في القياس إلى المقاييس المصنوعة، معايير متفقا عليها. ومن المتر الطولي، إلى المتر المساحي، وهو المتر المربع. ثم إلى المتر الحجمي، وهو المتر المكعب. ويراعى أن المتر قريب من الياردة، والظاهر أن كليهما من الطول بحيث يتفق وحاجات الناس. فطول الإنسان بين المتر والمترين، والياردة والياردتين، وكذلك ملابسه. وكذا المساكن، فالحجرة خمسة أمتار في أربعة، أو هي ياردات. وارتفاع الأسقف ثلاثة أمتار ونصف أو هي أربعة، أو هي ياردات. ويفتقد تاجر القماش المتر الخشبي فيروح يقيس بما بين أرنبة أنفه وامتداد ذراعه. ورب البيت قد يقيس طول حجرة بالخطو يخطوه، وهو قريب من المتر والياردة. ولكن الناس في حاجة إلى ما هو أصغر، فوجب تقسيم المتر. فالتجأوا إلى الطبيعة مرة أخرى يستوحونها. إنها اليد وبها خمس أصابع. وفي اليدين عشرة. فاتخذوا من العشرة عددا يقسمون المتر وغير المتر إليه. فكان من ذلك ديسي المتر (أي عشر المتر)، ثم سنتي المتر (أي جزء من المائة من المتر) ثم ملّى المتر (أي جزء من ألف من المتر). ووقفت عند ذلك حاجة الناس حينا. ثم ظهرت أشياء في حياة الناس، وفي العلم، من الضآلة، بحيث لم يفِ المِلي متر بقياسها. من ذلك الكائن العضوي المسمى بالبكتير Bacteria. فاستدعى قياسه مقياسا أصغر، فكان المِكرون Micron وهو جزء من ألف من الملى متر. ومن البكتير ما يصل طوله إلى نصف مكرون، ولكن منه ما يصل قطره إلى مكرونين وطوله إلى 200 مكرون، وهذا نادر. وأصغر من البكتير الفَيروس Virus بوجه عام، والفيروس يعده العلماء أصغر الأحياء. وحتى المكرون لم يف بحاجات أصغر، من أمثلتها قياس موجات الضوء، ولنضرب مثلا بأمواج ألوان الطيف: وإذ قد عبرنا عن طول الموجة بالمكرون، فقد خرج العدد كسرا. واستخدام الكسور في العلم ثقيل. لهذا ابتدعوا وحدة جديدة هي مِلي المكرون Millimicron، وهي جزء من ألف ألف من الملّي متر. وإذن تصبح الأعداد الفائتة هي 710 و620 و570 و520 و470 و410 ملي مكرون، وهي أطوال متوسط موجات هذه الألوان من ألوان الطيف. فإذا ذهبنا إلى ما وراء الضوء المرئي، إلى الإشعاع الذي لا يرى، كالأشعة السينية X-Rays، وأشعة جاما Gamma Rays، وجدنا الحاجة ماسة لقياس موجاتها الأقصر إلى وحدة أصغر. فكانت هذه الوحدة هي الأنْج شتروم Angstrom نسبة إلى العالم السويدي الذي ابتدعها، وهي أصغر عشر مرات فقط من الوحدة الماضية، أي من الملي مكرون. أو هي جزء من 10 مليون من الملي متر !! ومن الطريف هنا هو استخدام هذه الوحدات المتناهية الصغر في قياس ذرات العناصر وجزيئات العناصر والمركبات. ومثال ذلك : قطر ذرة الايدروجين، وهي أصغر ذرات عنصر، وجدوا أنه يبلغ نحو 1,3 انجشتروم. وقطر ذرة النتروجين، وجدوا أنه يبلغ نحو 1,8انجشتروم. ونحو ذلك قطر الأكسجين. وجزيء الماء، لو أنه كان مكورا، لكان قطره نحو1,7 من الانجشتروم. ومعنى هذا أن الذرات، وجزيئات المركبات التي تتألف من ذرات قليلة، صغيرة بحيث لا يمكن أن تكشف عن وجودها، لا الميكروسكوبات الضوئية الزجاجية العادية، ولا الميكروسكوبات الإلكترونية، مع أن هذه الأخيرة تكبر الأشياء مائة ألف مرة. إن القطعة الصغيرة من المادة التي يستطيع المجهر الزجاجي الضوئي المعروف كشفها لأعيننا لابد أن تبلغ من الكبر بحيث تحتوي على ألف مليون ذرة أو فوق ذلك عددا. هكذا نتحدث في العلم عن المادة بل المواد التي نعيش فيها ونعيش بها. وننزل في قياسها إلى وحدات، نحن نصنعها، من المتر إلى الملي متر، إلى مليون جزء من الملي متر، إلى عشرة ملايين جزء من الملي المتر. ونحن نستطيع أن نتصور المتر، والملي متر، وعُشر الملي. ثم بعد ذلك يأخذ التصور يعجز، فيقوم العلم يبدل من العجز قدرة، ومن الضيق فسحة، ومن الدنيوات الصغيرة الضئيلة دنيوات عظيمة، بما يبتدعه من آلات تكبر الصغير وتضخم الضئيل. وكان الله قادرا أن يجعل من عيون البشر مجاهر ترى إلى حدود هذا الصغر، ومن خيال الإنسان قدرة تلم بأطراف هذا العَماء. ولكن شاء الله غير ذلك. وأعطاه بدل ذلك العقل، وأعطاه الحيلة، فأخذ يكشف عن تلك الأشياء الصغيرة التي خرجت عن دنياه، فأحلها من دنياه محل الواثق بها. فالعالم إذا قال أن ذرة الإدروجين قطرها كذا عشر مليون ملّي متر، فهو في الوثوق فيما يقول كالجغرافي حين يقول ان نهر كذا طوله كذا ألفا من الكيلومترات، أو كالفلكي حين يقول ان القمر يبعد عن الأرض نحوا من 240.000 ميل. ونعود نقول إن الله كان قادرا أن يجعل من عيون البشر آلات أحدّ بصرا، وأذهب عمقا. ولكن ظني أنه لو فعل ذلك لوقع الإنسان بسبب هذا الابصار العميق في حيص بيص، ولَلَفته من دقائق المادة ألف شيء وشيء مما لا حاجة إلى الوعي به في كل خطوة من خطوات الحياة. إن عين الإنسان فيها من البصر القدر الذي يفي بحاجات الحياة ومطالب العيش ولا يبلبلها. أو إن شئت قلت إن عين الإنسان فيها من قصور الابصار، ولا أقول العمى، ما يحجب عن الإنسان تطفل الأشياء، وهي ألوف، على وعيه، في حين لا حاجة به إليها. ومن المتر نصعد إلى الأمتار العشرة، فالمائة، فالألف، فهذه هي الكيلومتر. أو نصعد من الياردة إلى الميل وهو 1760 ياردة، أو هو 1609,344 من الأمتار، فهو أكثر من كيلومتر ونصف. والميل لفظ فرنسي، أو هو لاتيني قديم Mille، ومعناه الألف. وقد عنوا به ألف خطوة. وقالوا عشرة أميال، ومائة ميل، وألف ميل. وقدروا محيط الأرض فكان نحو 24.000 ميل. وكان في هذا البعد كفاية لقضاء حاجات أهل الأرض. ولكن ما لبث أن خرج الإنسان عن الأرض يقدر أبعاد السماء. فكان بُعد القمر عن الأرض نحوا من 240.000 ميل، وبعد الشمس عن الأرض نحو 93 ألف ألف ميل، أي 93 مليون. والشمس أقرب نجم إلينا، ولهذا لا تظهر لنا نقطة بيضاء في الليل كما تظهر النجوم. فإذا ذهبنا من نجوم السماء إلى ما هو أبعد، زادت أرقام هذه الأبعاد. فإذا وصلنا إلى ألف مليون، سمى الفرنسيون والأمريكان هذا الرقم بليون Billion. أما الإنجليز والألمان فالبليون عندهم هو مليون مليون. على أن هذا الرقم يتضاءل ولا يفي بالقياس عندما يمضي الإنسان بين النجوم يقيس أبعادها في أغوار السماء، إذن وجب أن يكون عنده وحدة للقياس أعظم، فكانت السنة الضوئية. والسنة الضوئية هي اسم لمسافة عظيمة نتخذها وحدة للقياس عندما نتحدث عن النجوم، وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة. والضوء يقطع 186.000 ميل في الثانية الواحدة، فهو يقطع في السنة على التقريب 6 مليون مليون ميل 6.000.000.000.000، أو يقطع بالقياس المتري 9.461.000.000.000 كيلومتر. وهي أرقام بعيدة عن التصور الإنساني المألوف. وإلى هنا ينتهي القياس أو تنتهي وحداته الكبرى، فهذا الكون هو أوسع شيء في دنيانا. ولكن أبعاده تتعاظم فترة من بعد فترة من الزمان حتى ما يكاد الإنسان يثق بأنه سوف يصل يوما منه إلى نهاية يقف عندها القياس. وقد حسبوا المسافة بين الأرض وأبعد مجرة رأتها أكبر تلسكوب معروفة فوجدوا أنها تبعد بمقدار ألفي مليون سنة ضوئية. فهذا ما كان من الإنسان عندما أراد أن يقيس مكانه، وما به من أبعاد، تتحدد بها أشياء وأشياء. إنه بدأ فاعتمد على الطبيعة، وما بها من ثوابت. فمراجع الأقيسة لابد أن تكون ثوابت. وهو كذلك اعتمد على الطبيعة في قياس زمانه. نظر في الطبيعة التي يعيش في أحضانها فوجدها حاضرة تلبي مطلبه. يتبع... *.*.*--*.*.*--*.*.* والله الموفق 2015-02-19 محمد الشودري