بقلم: نعمان الفاضل ربما السؤال الكانطي: ما الأنوار؟ عدّ إعلانا صريحا عن رغبة الفيلسوف الألماني في تحرر الإنسان من كل أشكال الكسل والجبن اللذان يحولان دون أن يفكر بمعزل عن الوصاية والحجر التي فرضت عليه من طرف الآخر. ونقصد بالآخر هنا، أولئك الذين يشغلون المناصب السامية بدء برجل الدين، مرورا بالمستشار المالي وصولا إلى الحاكم العسكري، حيث يرجع سبب ذلك إلى القصور الفكري الذي يعانيه الأفراد بمحض إرادتهم بعد أن حررتهم الطبيعة من الضغوط الخارجية منذ أمد ليس بالقريب. غير أن هذا الوضع المريح (أي وضع الوصاية والحجر) الذي أضحى على نحو ما طبعا لهم، جعلهم قطعانا يسهل استبلادها واستطفالها من لدن أوصيائهم الذين أطبقوا الحراسة عليهم بعناية، كما يفعل بالحيوانات الوضيعة التي لا يسمح لها بالتفكير أو التحرك خارج الحيز المسموح به. وبناء عليه، فقد أدرك فيلسوفنا صعوبة تحرر الفرد بمفرده من وضع الحجر هذا الذي يحرم الإنسان من استخدام عقله الخاص أي تلك الوسائل الآلية أو الخيرات الرمزية التي تصلح للاستعمال السليم لمواهبه الفطرية التي يتطلب اخراجها إلى حيز الفعل صعوبة وعملا شاقا لكون صاحبها لم يأنس بعد التحرك بحرية ما يجعله يسقط غير ما مرة في محاولاته المتجددة التي تعرضه للخجل. ومن ثمة، فقد انتبه كانط إلى هذه الصعوبات التي تواجه الإنسان في سعيه الدائم والمتجدد إلى التحرر الفكري الذي لا يصل به إلى مرحلة الأنوار إلا على مهل وذلك بعد أن ينعم الجمهور بالحرية في التفكير التي يستطيع بموجبها إزاحة نير الحجر والوصاية واشاعة روح التقدير للقيمة الذاتية للإنسان. إن كانط في تركيزه على حرية التفكير فلأنه يجعل شرط الأنوار هو الحرية. ونعني بالحرية هنا: الاستعمال العام للعقل في كل المجالات بما فيها الدين والسلطة والاقتصاد…حيث تتعالى الحرية عن كل تحديد معين قد ينافي التنوير ويحجبه إذ أن الاستعمال العام للعقل عليه أن يكون دائما استعمالا حرا، وهو وحده القادر على مد الناس بالتنوير هذا النوع من الاستعمالات هو الذي يقوم به شخص ما بوصفه عالما يعمل عقله بحرية لا تحدها سلطة خارجية أو واجب ما سوى واجبه الأخلاقي المتمثل في قول الحقيقة تجاه الجمهور الذي يستهدفه بكتاباته، ودعوته المتجددة للجرأة على التفكير دون وصاية الغير. وهذا الاستعمال العام للعقل، لا يتأتى حسب كانط، إلا بالانعتاق من الاستعمال الخاص الذي قد يسمح للإنسان بمهمة مدنية يكلف بها أو وظائف أسندت إليه من شأنها أن تحد من مجال تفكيره وتلزمه بطاعة الأوامر والتوصيات وحتى وإن انطوت على مغالطات لا تغتفر. ومن ثمة، يصبح من الضروري على الفرد ضمن استعماله الخاص للعقل أن يخضع بعض التعاليم لنقد لا هوادة فيه إن تبين له أنها تعمل على فرض الحجر على الأفراد وخصوصا إن تعلقت بالأمور الروحية التي تترتب عنها سخافات لا بعدها سخافات، كما يحدث في مجتمعاتنا العربية المتخلفة الآن، التي يسعى حكامها عبر كهنتهم وتكنقراطييهم إلى تأبيد الوصاية على الشعوب من خلال تقديس شعارات تعود لعصور سحيقة مرجعها في ذلك الخرافة، و غايتها ابعاد النوع البشري عن كل نور جديد بغية الزج به في وضع يمنعه من توسيع معارفه- وخصوصا تلك التي تحظى باهتمامه الخاص- و من تقدمه على سبيل التنوير عموما. إن تساؤلنا عن الأنوار الآن، ربما دفعتنا إليه تلك الضرورة الملحة إلى تحيين عقارب ساعاتنا الفلسفية أملا في تجاوز هذا الوضع المأساوي الذي أضحينا نعيشه حاليا، لما يتسم به من شيوع للفكر المتطرف، المتعطش للدماء الذي يروم بناء مدينة الله من جديد على مفاهيم أسطورية عفّى عنها النسيان منذ أمد بعيد، وتخاطب في ذلك أفرادا ينتمون لعصر كان يصدق فيه الإنسان أي شيء. ولعل رواج هذا الفكر مردّه افتقار الكثير ممن يعيشون معنا اليوم القدرة على اعمال العقل في الأمور الروحية بجرأة دون توجيه من الآخرين، دون أن ننسى العوائق الأخرى التي تحول دون تعميم التنوير كما هو الشأن فيم يتعلق بالتدبير السياسي الذي بات يكشف عن طبيعة عنصرية تقوم على عدم معاملة الانسان ككائن يعلو بحكم كرامته عن أي اعتبار.