رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء        الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    "دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسيرة الخضراء وبعض كواليسها
نشر في الوجدية يوم 06 - 11 - 2010

في شرفة مقر إقامة الرئيس الجزائري، كان هواري بومدين يقيم حفل شواء التهم فيه من اللحم بقدر ما حرّض وفد الأمم المتحدة على تمزيق المغرب، وفي قبو السفارة الجزائرية بمدريد، كان خطري ولد سيدي سعيد الجماني يطالب الجيران بمزيد من الدعم للتخلص من إسبانيا والإفلات من المغرب،
قبل أن يحل بأكادير بعد أيام مبايعا أمير المؤمنين. فيما كان هذا الأخير، من غرفة عملياته بمراكش ثم أكادير، يدير دفة صراع دبلوماسي وعسكري، ويمسك بعصا المايسترو ليحرك مئات الآلاف من المغاربة على إيقاع مسيرته الخضراء؛ متجاهلا خصاصه المتراكم من النوم والراحة البدنية، ومراهنا في يوم 6 نونبر 1975 على مشروع مسيرته التاريخية بعرش أجداده العلويين. بعد أن كان ينظر إليها كنهاية لمشكلة إعادة الصحراء إلى السيادة المغربية عام 1975، تحولت المسيرة الخضراء، التي تحل اليوم ذكراها الثالثة والثلاثين، إلى بداية لمسلسل جديد كانت أطول فصوله حرب ضارية خاضتها القوات المغربية ضد مقاتلين حملوا السلاح نيابة عن جيران و«أشقاء»، وتواصلت حلقاته بحرب استنزاف طويلة كلفت المغرب ملايير الدراهم وسنوات هي مستقبل جيل بكامله.
كان الحسن الثاني يحمل مسؤولية تحرير الجزء الجنوبي من مملكة العلويين، كما تعهد والده محمد الخامس بذلك بعيد تحرير البلاد من معاهدة الحماية التي كانت تربطها بباريس. وبعد مخاضه العسير في مراودة إسبانيا عن هذا الإقليم الشاسع، أفصح الحسن الثاني عن خطته السلمية، والتي دشنها باللجوء إلى هيئة الأمم المتحدة مطالبا إياها بتصفية الاستعمار الإسباني في الجزء الجنوبي من مملكته، وأعقب ذلك بطلب تدخل محكمة العدل الدولية؛ والتي سيشكل قرارها نهاية لمسار سعي الملك الراحل إلى تدويل القضية.
المذكرات الشخصية للدبلوماسي الفرنسي أندري لوين تكشف النقاب عن كواليس التحركات الدبلوماسية التي قادها بتفويض من الأمين العام للأمم المتحدة حينها، النمساوي كورت فالدهايم؛ وينقل لوين تفاصيل لقاءاته المتكررة بالملك الراحل الحسن الثاني والرئيسين الجزائري هواري بومدين والموريتاني المختار ولد داده، علاوة على الجنرال فرانكو بإسبانيا. تفاصيل تكشف كيف أصبح الملك الراحل يرفض مواصلة هيئة الأمم المتحدة تدخلها المباشر في الملف، بعد أن كاد مخطط فالدهايم يتبنى مقاربة الخصمين، إسبانيا والجزائر.
كما ينقل الدبلوماسي الفرنسي درجة التصعيد الجزائري في كواليس تلك المفاوضات، وحجم الاستنفار الدبلوماسي الذي سعى من خلاله الجيران إلى ثني إسبانيا عن المضي في مفاوضاتها مع المغرب، والتي كان الراحل الحسن الثاني يديرها من قصره بمراكش عبر مبعوثيه إلى مدريد، مع إشرافه المباشر على عملية التحضير لإطلاق المسيرة الخضراء؛ مقاوما كل الضغوط الدولية التي أربكها مشروع المسيرة، وباتت ترجو من الملك تعليقها في انتظار الوصول إلى تسوية.
في إحدى شرفات فيلا الرئيس الجزائري الفخمة، التأم المسؤولون المحليون والدبلوماسيون الأمميون حول وجبة لحم مشوي، واصلوا خلالها مناقشة موضوع الصحراء «الغربية». ويتذكر الدبلوماسي الفرنسي كيف كان بومدين يقبل على خروفه المشوي بنهم مكثرا من صب مشروب الشاي بالنعناع، متمسكا بالحدة والصرامة في عرض أفكاره. ذات الوفد الأممي الذي يقوده الأمين العام للمنظمة، كان قد فوجئ يوم 25 أكتوبر حين وجد طائرة مروحية في انتظاره بمطار مراكش التي جعلها الراحل الحسن الثاني «عاصمة» مؤقتة لحكمه، أثناء فترة تحضيره للمسيرة. الطائرة المروحية فاجأت الوفد الأممي باتخاذها وجهة منطقة جبلية محاذية للمدينة الحمراء، حيث يشرف الملك المغربي على تدشين سد جديد أطلق عليه اسم «المسيرة»، وسط حماس شديد لحشد من «رعاياه». فكان على الدبلوماسيين الغربيين أن يقفوا وينصتوا للملك وهو يردد الآية القرآنية: «وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين».
«كان علي أن ألقي خطابا بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب... وعشية ذلك اليوم، كنت أتساءل مع نفسي: ترى ماذا عساي أن أقول في هذا الخطاب؟ وفي المساء، وبعد أن أديت صلاة العشاء، خلدت إلى النوم، فاستيقظت فجأة في منتصف الليل تراودني فكرة نفذت إلى ذهني ووعيي نفوذ السهم. لقد رأيت آلاف الأشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا إذن لا ننظم تجمهرا سلميا ضخما يأخذ شكل مسيرة؟ وهنا أحسست بأنني تخلصت من عبء ثقيل للغاية». هكذا يتحول حدث سياسي وتاريخي استثنائي إلى منامة ملكية حركت ثلاثمائة وخمسين ألفا من المغاربة من جميع جهات المغرب، لقطع آلاف الكيلومترات والزحف على رمال الصحراء لتخليصها من سيادة الإسبان.
يوم خامس نونبر 1975، كان الملك الراحل الحسن الثاني يأمر بتحقيق «رؤياه»، موجها خطابا تاريخيا من داخل بناية القصر الملكي بمراكش قائلا: «غدا ستعبر الحدود، غدا ستبدأ المسيرة، وستطأ أرضا هي أرضك. غدا ستقبل ترابا هو جزء لا يتجزأ من بلادك». لينطلق موكب 350000 مغربي مخترقا حدودا سياسية كانت تفصل جزءا من المنطقة الصحراوية يشمل كلا من الساقية الحمراء ووادي الذهب عن باقي التراب المغربي. اختيار هذا الرقم لم يكن اعتباطيا بقدرما كان يتناسب مع عدد الولادات الجديدة التي سجلتها البلاد في تلك السنة، حسب تفسير الراحل الحسن الثاني. ليتواصل «الزحف» إلى غاية منتصف نونبر، بتوقيع كل من المغرب وإسبانيا وموريتانيا اتفاقية مدريد، معلنين بذلك انسحابا إسبانيا رسميا من المنطقة. لكن بين تاريخ إعلان الحسن الثاني عزمه تنفيذ مسيرته التاريخية وتوقيع هذا الاتفاق، مسيرة أخرى من الصراع الدبلوماسي والتحضير الميداني والإصرار على تحويل المستحيل إلى ممكن.
كان الحسن الثاني يحمل مسؤولية تحرير الجزء الجنوبي من مملكة العلويين، كما تعهد والده محمد الخامس بذلك بعيد تحرير البلاد من معاهدة الحماية التي كانت تربطها بباريس. وبعد مخاضه العسير في مراودة إسبانيا عن هذا الإقليم الشاسع، أفصح الحسن الثاني عن خطته السلمية يوم 26 شتنبر 1975، محملا وزراء ومسؤولين سامين أمانة حفظ سرية الموضوع بشكل مطلق، مع إخضاع زهاء 700 موظف حكومي، في سرية تامة، لتكوين خاص استعدادا لتنظيم المسيرة الخضراء. قبل أن يستجمع الملك الراحل قدراته الخطابية وهيبته الدينية ومكانته السياسية والرمزية، ويعلم شعبه، في خطاب تلفزيوني بث مباشرة على الساعة السادسة والنصف مساء، بأن جزءا منهم سيشد الرحال نحو الجنوب لتحرير التراب.
صراع الأطراف «المعنية»
إسبانيا التي كانت تسعى إلى تقرير مصير الإقليم، عبر تنظيم استفتاء يشارك فيه المسجلون في لوائح إحصاء أجرته بشكل أحادي، تلقت إشارة التحدي المغربي وهي في حال شبيه بالوضع الصحي المتدهور لرئيسها الجنرال فرانكو؛ هذا الأخير سارع إلى دعوة حكومته إلى اجتماع عاجل يوم 17 أكتوبر، خرج منه بقرار دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع. فيما بادرت الحكومة الإسبانية في اليوم الموالي إلى الاتفاق مع الوالي مصطفى السيد، زعيم جبهة البوليساريو، ملتزمة بمنح الاستقلال للإقليم في غضون ستة أشهر، تتدرج خلالها عملية نقل السلطات وتنظيم «الاستفتاء». وبات قادة الجبهة يحاولون ممارسة مهام من قبيل إبداء السيادة مثل زيارة بعض المواقع ووصول كل من محفوظ أحبيبة وابراهيم الغالي إلى مدينة العيون... حيث سيدخلون في محادثات مع الجنرال كوميز ديسالازار، الحاكم العام الإسباني، والذي سرعان ما أعلن البوليساريو ممثلا ل«الشعب الصحراوي»، مجسدا بذلك تخلي مدريد عن مؤسسة «الجماعة».
الملك الراحل لم يترك الأمور تأخذ مجرى الانفلات عن السيطرة وهو المنهمك في التحضير لمسيرته التاريخية؛ حيث خاطب ساكنة الصحراء، عبر البث الإذاعي يوم 23 أكتوبر، معلنا «عفوه عن رعاياه الذين أخطؤوا» وتجاوزه عن الذين ساندوا إسبانيا أو انضموا إلى معسكر جبهة البوليساريو، داعيا إياهم إلى العودة إلى الطريق المستقيم.
فيما واصل مجلس الأمن الدولي انعقاده الدائم على مدار 24 ساعة، كما ينص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، مكرسا أشغاله لتتبع تطورات موضوع الصحراء، كان الأمين العام للأمم المتحدة، النمساوي كورت فالدهايم، مجبرا على التوجه، على وجه السرعة إلى المنطقة وإجراء مشاورات مع الدول «المعنية» و«المهتمة»، العبارة الأخيرة تم اختراعها من أجل إقحام الجزائر بالإضافة إلى الدول المعنية الثلاث: المغرب وإسبانيا وموريتانيا. وكان للمبادرة الأممية هدف واحد: صياغة مخطط تسوية وإقناع الملك الراحل الحسن الثاني بالعدول عن فكرة المسيرة الخضراء.
الناطق الرسمي باسم الأمين العام الأممي، الدبلوماسي الفرنسي أندري لوين، خصص جزءا من مذكراته الشخصية ليسرد تفاصيل كواليس المشاورات التي أحاطت بحدث المسيرة الخضراء، ويبدأ سرده من تأكيده أن ملف الصحراء احتل صدارة الاهتمام الدولي منذ الشهور الأولى لعام 1975، من خلال تدارس الموضوع في كل من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية واللجنة الرابعة للجمعية العامة.
ساعات قليلة قبل ذلك، كان قضاة محكمة العدل الدولية قد أفصحوا عن رأيهم الاستشاري الذي طلبته هيئة الأمم المتحدة حول الموضوع، معلنين أن منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب لم تكن أرضا خلاء قبل ضمها من طرف إسبانيا عام 1884، دون أن تجزم بخضوعها الواضح للسلطة المباشرة للرباط أو نواكشوط، لكنها أشارت إلى روابط البيعة والتبعية الدينية والروحية لأمير المؤمنين؛ إذ لم يكن قضاة المحكمة الدولية يعرفون أن البعد الديني وصفة أمير المؤمنين يمثلان المرتكز الأول لحكم الملك العلوي.
صدور هذا القرار وبث نداء الحسن الثاني كانا كافيين لتدار محركات القطارات والطائرات والشاحنات والسيارات وآليات الدعم واللوجستيك من كل أرجاء البلاد، محملة بالمشاركين والمواد الغذائية والخيام والأعلام والمصاحف؛ لتتخذ أولى المجموعات موقعها في طرفاية يوم 23 أكتوبر، استعدادا لعبور الحدود.
العالم يرتبك أمام مبادرة المسيرة
الانخراط الدولي في تدبير صراع متعدد الأطراف حول الصحراء سوف يتكثف شهورا قليلة قبل موعد الحسم؛ حيث دشن الأمين العام الأممي جولته يوم 9 يونيو، منطلقا من العاصمة النمساوية فيينا متوجها نحو الجزائر، بينما كانت محكمة العدل الدولية تستعد لإصدار قرارها الاستشاري الذي طلبه المغرب حول الصحراء. وفي الجزائر، وجد فالدهايم الرئيس هواري بومدين في استقباله، مستضيفا إياه في فيلته الفخمة المخصصة لكبار الضيوف؛ قبل أن يجتمع الطرفان في غرفة يقول أندري لوين إنها كانت باردة وخافتة الإضاءة، ويشرع بومدين في عرض وجهة نظر بلاده، المتمثلة في حل مشكلة الصحراء من طرف الأمم المتحدة وبعد اللجوء إلى استفتاء لتقرير المصير. «وكنا قد سمعنا ذات الكلام من وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، بمهوبة وحماس كبيرين»، يقول الفرنسي لوين.
وفي إحدى شرفات فيلا الرئيس الجزائري الفخمة، التأم المسؤولون المحليون والدبلوماسيون الأممون حول وجبة لحم مشوي، واصلوا خلالها مناقشة موضوع الصحراء «الغربية». ويتذكر الدبلوماسي الفرنسي كيف كان بومدين يقبل على خروفه المشوي بنهم مكثرا من صب مشروب الشاي بالنعناع، متمسكا بحدة وصرامة في عرض أفكاره. وبعد الغذاء مباشرة، اضطر أعضاء الفريق الأممي إلى تغيير ملابسهم على متن الطائرة المتواضعة (Mystère20) وهي تحلق نحو العاصمة الموريتانية نواكشوط. في هذه الأخيرة، سوف ينعم الأمين العام الأممي بعشاء هادئ في إقامة الرئيس مختار ولد داده؛ هذا الأخير أبلغ الوفد الأممي أن مواقفه متطابقة مع مبادئ المنتظم الدولي، والمتمثلة في الاعتراف بهوية الشعب الموجود بالصحراء، جنوبا وشمالا، باعتباره شعبا واحدا تم تجزيئه، مع اعترافه بالمطالب المغربية حول المنطقة التي ثبتت علاقته الإثنية والتاريخية بها؛ وهو ما كان يقابله المغرب بموقف مماثل حول حقوق موريتانيا في الجزء الجنوبي من الإقليم. والمهم بالنسبة إلى الموريتانيين أن تشرف الأمم المتحدة على أي استفتاء يتم تنظيمه وعدم ترك ذلك للإسبان.
وبعد أن قضى الوفد الأممي أزيد من 9 ساعات في الأجواء بين الجزائر وموريتانيا و8 ساعات من المحادثات في نواكشوط، كان عليه أن يتوجه يوم 10 يونيو نحو الرباط، حيث سيعقد أول اجتماع بين الأمين العام كورت فالدهايم والراحل الحسن الثاني، أعقبه حفل غذاء واجتماع مع الوزير الأول أحمد عصمان، ليخلص الوفد الأممي إلى أن المغرب شديد التمسك بالطابع المغربي للمنطقة المعنية، وتذكيره المتواصل بمطالبه المبكرة منذ 1958 على لسان محمد الخامس، في المحافل الدولية. «مع تدعيم ذلك بمعطيات تاريخية ودينية وقانونية وإثنية واجتماعية واقتصادية وثقافية» يقول أندري لوين. مع ربط مبدأ تصفية الاستعمار بقدسية الوحدة الترابية؛ وهو ما يصطدم، حسب الناطق السابق باسم الأمين العام الأممي، بما خططته أطراف أخرى من ضرورة إحداث دويلة جديدة مطلة على المحيط الأطلسي، من أجل عزل المغرب عن عمقه الاستراتيجي. والتصور المغربي لأي استفتاء لا يخرج عن الصيغة التالية: إشراف أممي مباشر، وحصر السؤال المطروح على الساكنة في الاختيار بين البقاء الإسباني أو العودة إلى «الوطن الأم» أي المغرب.
موائد الطعام التي كانت تقام على شرف الوفد الأممي لم تكن تخلو من دلالات ولم تفلت في أي من المحطات من قراءات وتأويلات الدبلوماسيين الغربيين، فبعد نهم وحدة وانفعال بومدين، وهدوء عشاء ولد داده الذي جلب لضيوفه رغبة في الاستسلام للنوم، وقف الوفد الدبلوماسي على ما اعتبره مفارقة عجيبة حول مائدة القصر الملكي بالرباط: حرص بيّن على إتقان إعداد مائدة الطعام ومستواها العالي من التنسيق والرقي؛ إلى جانب حدة وحماس شديدين من طرف المغاربة في الحديث عن موضوع الصحراء.
غداة ذلك، كان الوفد الأممي على موعد جديد مع التحليق نحو العاصمة الإسبانية، «الذكرى التي احتفظت بها من هذه الرحلة إلى هذا البلد، والذي كان لا يزال يعتبر القوة الاستعمارية في الصحراء، هي ذلك المشهد الذي رأيته يوم 12 يونيو بقصر باردو قرب العاصمة مدريد، للجنرال فرانكو، المنهك والنحيف ذي اليدين المرتعشتين وهما تتناولان أحد الملفات ، لكن، وفي الآن نفسه، المحتفظ بصرامته في الحديث وفي إبداء المواقف، رغم ما باتت تكشفه بزته العسكرية من ضعفه الشديد، لكونها لم تعد على مقاسه»،
يقول لووين.هذا الجنرال الإسباني، الذي أمسك بزمام الحكم ما يقارب أربعة عقود، صرح خلال هذه الزيارة وبكل جرأة بأنه «إذا لم يعد هؤلاء السكان يرغبون في إسبانيا، فمن الواضح أن عليها أن ترحل» وأن تطلب من الأمم المتحدة مساعدتها في ذلك.
بعد أربعة أشهر من هذه الجولة، كانت المعطيات الميدانية قد عرفت تطورات كثيرة، فالمواجهات اشتدت في الإقليم المعني وعلى أطرافه، مخلفة خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجيش الإسباني، وأعدادا متزايدة من الأسرى في الجانبين؛ لتخلص الهيئة الأممية إلى أن التطورات المسجلة تجسد تهديدا حقيقيا للأمن والسلم في الدول المجاورة.
الأمين العام الأممي يدشن سد المسيرة
بالعودة إلى الكواليس الدبلوماسية، قدم السفير الإسباني لدى الأمم المتحدة، يوم 18 أكتوبر، طلبا لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، لمواجهة ما وصفه ب«الاجتياح» المغربي، في إشارة إلى مشروع المسيرة الخضراء. وهو ما استجاب له المجلس ليجتمع يوم 22 أكتوبر زوالا، في جلسته ال1849 منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة؛ مع حضور كل من سفير المغرب –إدريس السلاوي- وسفراء موريتانيا وإسبانيا والجزائر، وتمكينهم جميعا من حق التدخل والحديث أثناء الاجتماع. ليخلص المجلس، بعد جلسة مطولة انطلقت على الساعة التاسعة ليلا من اليوم نفسه، إلى إصدار القرار 377، الذي يكلف الأمين العام الأممي بإجراء مشاورات مع الأطراف المعنية والمهتمة؛ فيما تم استبعاد مشروع قرار وضعه سفير كوستا ريكا، ينص على إلزام المغرب بوقف مشروع المسيرة الخضراء.
وفد أممي جديد يقوده الأمين العام الأممي كورت فالهايم أقلع من نيويورك يوم 25 أكتوبر، ليجد طائرة مروحية في انتظاره بمطار مراكش التي جعلها الراحل الحسن الثاني «عاصمة» مؤقتة لحكمه، أثناء فترة تحضيره للمسيرة. الطائرة المروحية فاجأت الوفد الأممي باتخاذه وجهة منطقة جبلية محاذية للمدينة الحمراء، حيث يشرف الملك المغربي على تدشين سد جديد أطلق عليه اسم «المسيرة»، وسط حماس شديد لحشد من «رعاياه». فكان على الدبلوماسيين الغربيين أن يقفوا وينصتوا للملك وهو يردد الآية القرآنية: «وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين». وفي خيمة نصبت بالقرب من موقع السد، استضاف الحسن الثاني ضيفه الأممي، حيث قدّم إليه وجهة نظره، موضحا أن مبادرة المسيرة الخضراء لا يمكن أنيونس مسكين
«كان علي أن ألقي خطابا بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب... وعشية ذلك اليوم، كنت أتساءل مع نفسي: ترى ماذا عساي أن أقول في هذا الخطاب؟ وفي المساء، وبعد أن أديت صلاة العشاء، خلدت إلى النوم، فاستيقظت فجأة في منتصف الليل تراودني فكرة نفذت إلى ذهني ووعيي نفوذ السهم. لقد رأيت آلاف الأشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا إذن لا ننظم تجمهرا سلميا ضخما يأخذ شكل مسيرة؟ وهنا أحسست بأنني تخلصت من عبء ثقيل للغاية». هكذا يتحول حدث سياسي وتاريخي استثنائي إلى منامة ملكية حركت ثلاثمائة وخمسين ألفا من المغاربة من جميع جهات المغرب، لقطع آلاف الكيلومترات والزحف على رمال الصحراء لتخليصها من سيادة الإسبان.
يوم خامس نونبر 1975، كان الملك الراحل الحسن الثاني يأمر بتحقيق «رؤياه»، موجها خطابا تاريخيا من داخل بناية القصر الملكي بمراكش قائلا: «غدا ستعبر الحدود، غدا ستبدأ المسيرة، وستطأ أرضا هي أرضك. غدا ستقبل ترابا هو جزء لا يتجزأ من بلادك». لينطلق موكب 350000 مغربي مخترقا حدودا سياسية كانت تفصل جزءا من المنطقة الصحراوية يشمل كلا من الساقية الحمراء ووادي الذهب عن باقي التراب المغربي. اختيار هذا الرقم لم يكن اعتباطيا بقدرما كان يتناسب مع عدد الولادات الجديدة التي سجلتها البلاد في تلك السنة، حسب تفسير الراحل الحسن الثاني. ليتواصل «الزحف» إلى غاية منتصف نونبر، بتوقيع كل من المغرب وإسبانيا وموريتانيا اتفاقية مدريد، معلنين بذلك انسحابا إسبانيا رسميا من المنطقة. لكن بين تاريخ إعلان الحسن الثاني عزمه تنفيذ مسيرته التاريخية وتوقيع هذا الاتفاق، مسيرة أخرى من الصراع الدبلوماسي والتحضير الميداني والإصرار على تحويل المستحيل إلى ممكن.
كان الحسن الثاني يحمل مسؤولية تحرير الجزء الجنوبي من مملكة العلويين، كما تعهد والده محمد الخامس بذلك بعيد تحرير البلاد من معاهدة الحماية التي كانت تربطها بباريس. وبعد مخاضه العسير في مراودة إسبانيا عن هذا الإقليم الشاسع، أفصح الحسن الثاني عن خطته السلمية يوم 26 شتنبر 1975، محملا وزراء ومسؤولين سامين أمانة حفظ سرية الموضوع بشكل مطلق، مع إخضاع زهاء 700 موظف حكومي، في سرية تامة، لتكوين خاص استعدادا لتنظيم المسيرة الخضراء. قبل أن يستجمع الملك الراحل قدراته الخطابية وهيبته الدينية ومكانته السياسية والرمزية، ويعلم شعبه، في خطاب تلفزيوني بث مباشرة على الساعة السادسة والنصف مساء، بأن جزءا منهم سيشد الرحال نحو الجنوب لتحرير التراب.
صراع الأطراف «المعنية»
إسبانيا التي كانت تسعى إلى تقرير مصير الإقليم، عبر تنظيم استفتاء يشارك فيه المسجلون في لوائح إحصاء أجرته بشكل أحادي، تلقت إشارة التحدي المغربي وهي في حال شبيه بالوضع الصحي المتدهور لرئيسها الجنرال فرانكو؛ هذا الأخير سارع إلى دعوة حكومته إلى اجتماع عاجل يوم 17 أكتوبر، خرج منه بقرار دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع. فيما بادرت الحكومة الإسبانية في اليوم الموالي إلى الاتفاق مع الوالي مصطفى السيد، زعيم جبهة البوليساريو، ملتزمة بمنح الاستقلال للإقليم في غضون ستة أشهر، تتدرج خلالها عملية نقل السلطات وتنظيم «الاستفتاء». وبات قادة الجبهة يحاولون ممارسة مهام من قبيل إبداء السيادة مثل زيارة بعض المواقع ووصول كل من محفوظ أحبيبة وابراهيم الغالي إلى مدينة العيون... حيث سيدخلون في محادثات مع الجنرال كوميز ديسالازار، الحاكم العام الإسباني، والذي سرعان ما أعلن البوليساريو ممثلا ل«الشعب الصحراوي»، مجسدا بذلك تخلي مدريد عن مؤسسة «الجماعة».
الملك الراحل لم يترك الأمور تأخذ مجرى الانفلات عن السيطرة وهو المنهمك في التحضير لمسيرته التاريخية؛ حيث خاطب ساكنة الصحراء، عبر البث الإذاعي يوم 23 أكتوبر، معلنا «عفوه عن رعاياه الذين أخطؤوا» وتجاوزه عن الذين ساندوا إسبانيا أو انضموا إلى معسكر جبهة البوليساريو، داعيا إياهم إلى العودة إلى الطريق المستقيم.
فيما واصل مجلس الأمن الدولي انعقاده الدائم على مدار 24 ساعة، كما ينص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، مكرسا أشغاله لتتبع تطورات موضوع الصحراء، كان الأمين العام للأمم المتحدة، النمساوي كورت فالدهايم، مجبرا على التوجه، على وجه السرعة إلى المنطقة وإجراء مشاورات مع الدول «المعنية» و«المهتمة»، العبارة الأخيرة تم اختراعها من أجل إقحام الجزائر بالإضافة إلى الدول المعنية الثلاث: المغرب وإسبانيا وموريتانيا. وكان للمبادرة الأممية هدف واحد: صياغة مخطط تسوية وإقناع الملك الراحل الحسن الثاني بالعدول عن فكرة المسيرة الخضراء.
الناطق الرسمي باسم الأمين العام الأممي، الدبلوماسي الفرنسي أندري لوين، خصص جزءا من مذكراته الشخصية ليسرد تفاصيل كواليس المشاورات التي أحاطت بحدث المسيرة الخضراء، ويبدأ سرده من تأكيده أن ملف الصحراء احتل صدارة الاهتمام الدولي منذ الشهور الأولى لعام 1975، من خلال تدارس الموضوع في كل من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية واللجنة الرابعة للجمعية العامة.
ساعات قليلة قبل ذلك، كان قضاة محكمة العدل الدولية قد أفصحوا عن رأيهم الاستشاري الذي طلبته هيئة الأمم المتحدة حول الموضوع، معلنين أن منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب لم تكن أرضا خلاء قبل ضمها من طرف إسبانيا عام 1884، دون أن تجزم بخضوعها الواضح للسلطة المباشرة للرباط أو نواكشوط، لكنها أشارت إلى روابط البيعة والتبعية الدينية والروحية لأمير المؤمنين؛ إذ لم يكن قضاة المحكمة الدولية يعرفون أن البعد الديني وصفة أمير المؤمنين يمثلان المرتكز الأول لحكم الملك العلوي.
صدور هذا القرار وبث نداء الحسن الثاني كانا كافيين لتدار محركات القطارات والطائرات والشاحنات والسيارات وآليات الدعم واللوجستيك من كل أرجاء البلاد، محملة بالمشاركين والمواد الغذائية والخيام والأعلام والمصاحف؛ لتتخذ أولى المجموعات موقعها في طرفاية يوم 23 أكتوبر، استعدادا لعبور الحدود.
القضايا الكبرى توحد الشعوب
كان إعلان تنظيم المسيرة فرصة أخرى اختار فيها الملك الراحل الوقت المناسب لإعلان مبادرته والتعبير عن عشقه المتواصل لاستراتيجية دوكول وقولته الشهيرة: «وحدها القضايا الكبرى توحد الشعوب». حيث بادر الملك إلى الحسم في أمر استرجاع الصحراء من تحت النفوذ الإسباني، مستغلا مرحلة انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية مثل البرتغال وتأزم وضع الجارة الشمالية، حيث عهد الجنرال فرانكو إلى أفول. فالملك الذي كان، قبل ثلاثة أعوام، مهددا بفقدان حياته وعرشه في انقلابات عسكرية، وجد وصفته السحرية وقد وحدت معارضيه بيمينهم ويسارهم خلف قضية جديدة انبعثت من رمال الصحراء، والعسكريون الذين كثرت «أخطاؤهم» باتوا يستطيبون رحلتهم نحو الجنوب، مع إرسال أزيد من نصف تعداد قواتهم إلى تخوم الصحراء.
وفي مراكش التي عاد إليها الوسيط الأممي، الفرنسي أندري لوين، يوم 28 أكتوبر، كان وزير الإعلام أحمد الطيبي بنهيمة في الاستقبال، مرددا عبارات الاعتذار المسبق، لكون الحسن الثاني قد لا يستطيع استقباله نظرا لتعرضه لإنهاك شديد، وخلوده إلى الراحة بقصر المدينة. قبل أن تصل بعثة دبلوماسية وممثلون للسلطات المحلية إلى فندق المامونية حيث ينزل الدبلوماسي الفرنسي، طالبين منه مرافقتهم إلى القصر الملكي. هناك حيث كان عليه الانتظار طويلا في إحدى القاعات «الدافئة والمريحة».
«انتظرت طويلا في تلك القاعة، قبل أن يأتي الحسن الثاني. كان يبدو متوترا ومصابا ببعض الحمّى، لكن نظرته كانت تلمع بلهب دفين وحماس كبير، مرتديا بيجامة داكنة. أثناء مصافحته إياي، أطلق ابتسامة وأخبرني بأنه حرص رغم حالته الصعبة وإرهاقه وأعبائه الكثيرة على استقبالي تعبيرا عن تقديره للأمم المتحدة.
وبعد استعراضه السريع لمعطيات تاريخية، حذرني الملك من أن المنظمة الأممية توشك على إعاقة مسار التاريخ، في حال إفشالها المفاوضات المباشرة بين المغرب وإسبانيا... والمسيرة الخضراء لا تشكل أي تهديد للسلم، إلا إذا تدخل الجيش الإسباني أو العناصر المدعومة من الخارج... فالمسؤولية تقع على الذين سيعمدون إلى استعمال العنف أولا... إصراره وعزيمته كانا مثيرين، نبرة صوته كانت شديدة وكان يحسن اختيار كلماته.
حاولت لعب دور المحامي للدفاع عن المخطط الأممي، وأخبرته أنه إذا كان متيقنا من حقه ومن رغبات ساكنة المنطقة، فإنه لا يعرض نفسه لأي خطر في حال قبوله بالمخطط. لكن ثقة الملك كانت محدودة جدا في نوايا جيرانه الجزائريين، وأولئك الذين يسعون من خلال الهيئات الدولية إلى زرع القلاقل وخلق دويلة جديدة... خلال ثلاثين دقيقة، تبادلنا الأفكار والحجج، توترت الأجواء بيننا فيما قدم إلينا شاي بالنعناع. الملك لا يريد سماع أي شيء عن مخطط فالدهايم فبالأحرى قبول نسخة منه كنت أحملها معي.
في ختام هذا اللقاء، ذهب الملك ليجلس خلف مكتبه تاركا إياي واقفا أمامه، وبملاحظته علامات يأسي، ابتسم وطلب مني الانصراف. «هل أنتم متأكدون من أنكم ستتوصلون إلى اتفاق ثنائي مع إسبانيا؟» قلت له متسائلا. «متأكد تماما» رد الملك. «لكن نفترض استثناء أن ذلك لم يحدث، ألن يكون من الأفضل أن تكون بين يديكم نسخة كاملة من مخطط فالدهايم؟»؛ «حسنا أعطني الأوراق، لكنني لن أتسلمها بيدي، ضعها فوق المكتب. يمكنك، على الأقل، أن تقول إنك أديت مهمتك وأن ملك المغرب قبل السماح لك بتسليم المخطط».
في اليوم الموالي، وجدت زربية مغربية رائعة، والتي بالكاد يمكن دسها بين مقاعد الطائرة... أعتقد أنها كانت أفضل من تلك التي أهديت للأمين العام للأمم المتحدة قبل أيام».
في قبو السفارة الجزائرية
لم يكن الوسيط الأممي بحاجة إلى إقناع الجزائر بقبول المخطط الأممي، لأنه كان مؤسسا على تصورها للموضوع. لينتقل لوين، بعد توقف بالجزائر، إلى مدريد يوم 30 أكتوبر. هناك حيث سيتلقى، بعيد لقائه مع المسؤولين المحليين، مكالمة مفاجئة من السفير الجزائري، يدعوه فيها إلى تناول وجبة العشاء في إقامته، موضحا أنه سيجد فيها شخصيات مهمة. استجاب لوين للدعوة، وتناول الطعام رفقة السفير الجزائري ووفد دبلوماسي حل بمدريد لإعاقة أي اتفاق مع المغرب. لكن المفاجأة كانت بعد العشاء، حين غادر الجميع مائدة الطعام واحدا تلو الآخر، ليعود السفير طالبا منه مرافقته لرؤية شيء هام، مستدرجا إياه إلى الطابق تحت الأرضي، حيث وجد ستة أشخاص يجلسون فوق سجاد ويرتدون جلابيب ويخوضون في نقاش ساخن مع الجزائريين، يتعلق الأمر بنواب برلمانيين صحراويين بالكورتيس الإسباني، جاؤوا حسب ما ترجمه السفير الجزائري للدبلوماسي الأممي للمطالبة بتخليصهم من السلطة الإسبانية، شريطة تخويلهم زمام الأمور عبر استفتاء.
يوم 02 نونبر، وفيما كان 350000 مغربي يحتشدون في طرفاية استعداد للانطلاق في تحطيم الحدود، حل الأمير خوان كارلوس –سوف يتوج ملكا لإسبانيا في 30 نونبر- بمدينة العيون متفقدا أفراد الجيش الإسباني المرابطين هناك، مؤكدا أوامر بالرد المسلح والفوري في حال اختراق الحدود من طرف المغاربة.
على الجانب المغربي، كانت قوات الجو والمظليين تتولى إمداد المشاركين بأكياس القمح والمؤونة عبر إلقائها فوق مواقعهم بطرفاية، مستعملين طائرات التموين العسكري C-130 التي تسلمها المغرب حديثا من الولايات المتحدة؛ بينما جلبت آلاف الأطنان من الماء والوقود برا. وبلغت تكلفة العملية إجمالا 80 مليون فرنك فرنسي حسب وزارة المالية المغربية، دون احتساب الكلفة غير المباشرة، أي التي لم تخرج من ميزانية الدولة رسميا.
و في معسكراتهم المؤقتة بطرفاية، كان المشاركون يتبعون نظاما أقرب إلى الانضباط العسكري، وتوزعوا على مجموعات وخيام محكمة التدبير، مأكلهم خبز وسردين معلب، وأجواء مرح شبيهة بالخرجات التخييمية ملأت أوقات فراغهم. ودافع معنوي قوي كان يذكي حماس مزارعين مياومين وعاطلين خرجوا من واقع بئيس يدفعهم إلى الحلم بأمل قادم من الصحراء، فيما كان بعضهم لا يضمن حصوله على قطعة خبز وعلبة من السردين كلما حل وقت الوجبات الغذائية. ليصدر قرار أممي جديد يوم 02 نونبر دائما، داعيا الأمين العام إلى مواصلة مساعي الوساطة.
عاد الفرنسي أندري لوين بناء على ذلك إلى المغرب، ليحل هذه المرة بمطار أكادير يوم 4 نونبر؛ استقبله وزير الخارجية أحمد العراقي، قبل أن ينتقل إلى القصر الملكي لمقابلة الحسن الثاني. هذا الأخير بدا أكثر إصرارا من المرة السابقة، فالمسيرة الخضراء مبادرة سلمية تعبر عن حقوق مشروعة ووحدة وطنية، وهي سوف تتم في جميع الأحوال. و«بقدرته الكبيرة على قراءة الأفكار، فهم الحسن الثاني بسرعة ما أرمي إليه من خلال وساطتي. وقد تكون صفته كرجل استراتيجي هي ما قاده إلى تبني فكرة جعل المسيرة عملية رمزية، أي تنفيذها دون تركها تتحول إلى مجزرة». المسيرة ستتم إذن ب«موافقة أممية» شريطة عدم تجاوزها بضعة كيلومترات بعد الحدود القائمة، عكس ما أعلن في البداية من بلوغها مدينة العيون، عاصمة الإقليم.
وقبل أن يغادر الدبلوماسي الفرنسي الأممي، طلب الملك الراحل من وزير الإعلام مرافقته إلى جناح آخر بالقصر الملكي؛ حيث الحاج خطري ولد سيدي سعيد الجماني، رئيس مؤسسة «الجماعة» التي كانت تمثل الصحراويين لدى الإسبان؛ والذي قدم لمبايعة الملك. وأثناء الندوة الصحفية التي عقدها الجماني بحضور دولي مكثف، تذكر الوسيط الأممي أن الأمر يتعلق بالنائب الصحراوي ذاته، الذي كان يتحدث في قبو السفارة الجزائرية بحماس كبير.
بعد المسيرة، الحسن الثاني ملك مطلق
التوقيع على اتفاقية مدريد في 14 نونبر 1975، وتفوق التيارات الإسبانية المفضلة للمغرب على جبهة البوليساريو، والضغوط الأمريكية والفرنسية المتخوفة من دولة صحراوية اشتراكية، بالإضافة إلى تنازلات مغربية بشأن سبتة ومليلية، عوامل كلها ساعدت الحسن الثاني على دفن مشاكله الداخلية في رمال الصحراء. وجملة واحدة من قرار محكمة العدل الدولية، تقول بوجود روابط البيعة بين السلطان المغربي وقبائل الصحراء، كانت كافية ليعلن الحسن الثاني إرسال قطعة من شعبه لتعبر الحدود التي وضعتها إسبانيا مشيا على الأقدام ودون سلاح.
وفي لحظة اختار فيها الراحل عبد الله إبراهيم الابتعاد عن غالبية رفاقه من قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مؤديا إلى ظهور ما يعرف بمجموعة الرباط ومجموعة الدار البيضاء، ستكون سنة 1975 موعدا لميلاد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول مجموعة الرباط، لتفتح صفحة جديدة في علاقة ممثلي اليسار بالقصر، بإعلانهم القطيعة مع الخيار الثوري.
فبعد نجاح المسيرة، بحث الحسن الثاني عن معادلة تمكنه من تحقيق أمرين: الاستمرار في الممارسة الفعلية للحكم، مع إعادة بناء المؤسسات الدستورية. والوسيلة كانت هي إدخال المعارضة في التشكيلة الحكومية، مع ضمان أغلبية موالية داخل البرلمان. ولتحقيق ذلك، سوف يحدث نظام الحسن الثاني حزبا جديدا جمع «المستقلين» المقربين من القصر والمشكلين للأغلبية في البرلمان، وعلى رأسهم صهر الملك، أحمد عصمان الذي تقدم المسيرة الخضراء.
وشهورا قليلة بعد المسيرة، أعلن الملك الراحل تنظيم انتخابات جديدة، شارك فيها، لأول مرة، شيوعيو المغرب تحت اسم حزب التقدم والاشتراكية. لكن الأغلبية آلت إلى «المستقلين» كما سلف الذكر، ومن بين مكونات المعارضة، لم يكن غير حزب الاستقلال مستعدا لدخول حكومة صاحب الجلالة بأقل المطالب، ليبقى هذا الحزب موزعا بين ولائه للقصر وقناعات أبعد ما تكون عن تلك الموجودة خلف أسواره، ليجد نفسه سنة 1977 وسط كوكبة من التكنوقراط، وبات أمينه العام محمد بوستة يتلقى ضربات وانتقادات المعارضة في كل ما يتعلق بحقيبته للشؤون الخارجية وملف الصحراء.
أقوال الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء
«...استدعيت وزير التجارة ووزير المالية وقلت لهما: إن شهر رمضان قد يكون قاسيا، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب الاحتياط تخزين كمية من المواد الغذائية؟ حتى إذا وجدنا أنفسنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة على سعر ثابت لها. فأجابا: بكل تأكيد، وما هي الكمية التي يتعين تخزينها؟ فقلت لهما: تموين يكفي لشهر أو شهرين؛ ولم يفطنا لشيءن وهذا ما كنت أرغب فيه. واستدعيت بعد ذلك أولئك الذين سيصبحون، إلى جانبي، المسؤولين الثلاثة عن المسيرة الخضراء، وهم الجنرال أشهبار الكاتب العام لإدارة الدفاع، والجنرال بناني من المكتب الثالث، والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع. وبعد أدائهم اليمين بعدم إفشاء السر حتى ولو لم يكونوا متفقين على ذلك، شرحت لهم أن عددا من المشاركين في المسيرة سيصل إلى ثلاثمائة وخمسين ألف نسمة. فقالوا مستفسرين: لماذا كل هذا العدد؟ فأجبتهم: إن المسألة في غاية البساطة. فهناك ثلاثمائة وخمسون ألف مغربي ومغربية يولدون كل سنة، وبالتالي فإن هذا العدد ليس بالأهمية التي قد تؤثر على عدد السكان. وقد الهبت الفكرة على التو حماسهم وشرعوا في العمل بدون كاتبات أو أجهزة حاسوب، وكانوا يحررون كل شيء بأيديهم، حيث كان يتعين إحصاء كمية الخبز اللازمة لإطعام ثلاثمائة وخمسين ألف شخص، وعدد الشموع الضرورية لإنارة الخيام. وهكذا عملنا –نحن الأربعة- في سرية تامة حتى مطلع شهر أكتوبر. وهنا كان لا بد من الإسرار إلى الحكومة بذلك، وكذا إلى عمال الأقاليم حتى يفتحوا في الوقت المناسب المكاتب لتسجيل المتطوعين... لأن كتم السر كان أسهل بين أربعة أشخاص، أكثر منه بين ثلاثين. فما بالكم إذا أفشي السر لأزيد من أربعين عامل إقليم، ولاسيما أن تسريب هذا السر كان سيكون مميتا وكانت ستكون له انعكاسات وخيمة على الصعيد الدولي...
«...وجهت خطابا إلى شعبي أعلنت فيه عن تنظيم المسيرة الخضراء. وقبل أن أتم خطابي، وكان ذلك في الساعة الثامنة والنصف مساء في بهو مفتوح النوافذ، بدأت أصداء الصيحات المتعالية من الأحياء المجاورة للقصر بمراكش تصل إلى مسامعي. ففي كل مدن وقرى المملكة، خرج الناس إلى الشوارع يهتفون ويصيحون: «نحن متطوعون»».
«لقد انهمكنا في إعداد الأغطية والمواد الغذائية، والأدوية اللازمة لثلاثمائة وخمسين ألف شخص، كما اشترينا لهم خزانات مطاطية لحفظ الماء حتى لا يعانوا من أي نقص فيه. ولم يحدث، في أي وقت من الأوقات، أن عرفت الأسواق خصاصا بسبب عدم التمكن من نقل الطماطم أو اللحوم مثلا. وكنت أنام قليلا، لكنني كنت أشعر بحيوية ونشاط ربما لم أحس بهما من ذي قبل. لقد كنت فخورا بشعبي. كما كنت، في نفس الوقت، أعي جيدا بأنه لو سارت الأمور على خلاف ما كنت أتمناه لكان ذلك بمثابة كارثة أتحمل تبعتها وحدي».
«كان الأمر يتعلق برهان سيكولوجي يتوقف عليه كل شيء، حيث كنت أعرف أن فرانكو وحاشيته عسكريون. فإذا تصرفوا كعسكريين حقيقيين فما كنت أخالهم يطلقون النار على ثلاثمائة وخمسين ألف مدني عزل. وفي المقابل، إذا تصرفوا كسفاكي دماء... والواقع أنه ابتزاز فظيع، لكنه ابتزاز مباح لا يعاقب عليه أي قانون... في عديد من الخطب التي وجهتها آنذاك، كنت أحذر المشاركين في المسيرة من أننا قد نجد حقول ألغام ومصفحات، وقد نواجه مدفعيات فوهاتها مصوبة نحونا. فخلال الشهرين اللذين كنت أهيئ فيهما للمسيرة الخضراء، كان هاجس واحد هو شغلي الشاغل. وكان يتمثل في ذلك السؤال الذي مافتئت أردده على مسامع جميع محاوري: ترى هل سيشبه الشباب المغربي المدلل الآن بمظاهر التقدم آباءه؟ هل ستكون له كامل الشجاعة لمواجهة الدبابات؟...».
نصف مليون متطوع
في مستهل عقد السبعينيات، كان عثور إسبانيا على احتياطي هائل من مادة الفوسفاط سهل الاستخراج والاستغلال، باعثا على التفكير في إحداث دويلة جديدة، تستجيب لمطلب التحرر الذي بات سكان المنطقة يعبرون عنه سلميا وحربيا، وتقييد تلك الدويلة باتفاقيات وعلاقات للتعاون تضمن لها الاستفادة من الثروة المكتشفة في أراض شاسعة لا يتعدى عدد سكانها 70000 نسمة.
فيما كانت سنة 1975 حافلة بالضربات الناجحة للحسن الثاني، أولاها صعود استثنائي لمشاعر الوطنية وتمحورها حول شخص الملك «المجاهد» العائد إلى إثارة موضوع استعادة الأجزاء المحتلة من مملكته. وثانيتها حدث المسيرة الخضراء، والثالثة توقيع اتفاقية مدريد التي تعني انسحاب إسبانيا من الصحراء، لكن أيضا، منحا لإقليم وادي الذهب للجارة موريتانيا. بالإضافة إلى «أفراد فرقتهم المصالح والإيديولوجيات والحسابات التكتيكية، تذكروا فجأة زمنا كانوا يعملون فيه يدا في يد. اللاوعي يشتغل في كل واحد منا، إرادة الوحدة كانت في جدول الأعمال، ولم تكن تنتظر إلا إشارة تسمح لها بالظهور»، يقول عبد الله العروي في أحد مؤلفاته.
لكن مؤلفات غربية وملاحظين أجانب ينسبون فكرة المسيرة إلى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، هنري كيسينجر أو أحد مساعديه على الأقل، والذي ألهمته حشود المتظاهرين في جنوب إفريقيا ضد نظام الميز العنصري، فكرة المسيرة السلمية. لكن «المسيرة الخضراء لم تكن فقط حدثا سياسيا، كانت شيئا آخر. ماذا إذن؟ ليس سهلا إيجاد الوصف المناسب...»، يقول العروي متأملا قبل أن يقدم على الإجابة عن تلك التساؤلات.
يومان فقط بعد النداء الملكي، تقدم 362000 شخص لتسجيل أنفسهم في لوائح المشاركين، ليبلغ عددهم يوم 21 أكتوبر 524000. وتم اختيار المشاركين عن طريق القرعة بعد أن فاق عدد المتطوعين العدد المطلوب، وكان أول تحرك باتجاه نقطة الانطلاق يوم 21 أكتوبر بإشارة من الوزير الأول أحمد عصمان، حيث غادرت قافلة من 20000 مشارك من بلدة قصر السوق –الراشيدية حاليا- على متن 409 شاحنات، ليصلوا بعد يومين إلى طرفاية، على بعد 25 كيلومترا من الحدود، ليبلغ عدد الملتحقين بهم 145000 يوم 28 أكتوبر؛ وسط تعبئة شاملة واستثنائية، أوقف معها المكتب الوطني للسكك الحديدية نشاطه مخصصا قطاراته لمهمة واحدة: إيصال المشاركين إلى غاية مدينة مراكش؛ قبل أن تتولى زهاء 8000 شاحنة وحافلة نقل المشاركين جنوبا، محفوفين ب230 سيارة إسعاف و470 طبيبا.
ذكريات من آخر ليالي الزحف
وسط التطورات الدولية المتلاحقة، كان هناك إحساس غامض لدى المغاربة بأن شيئا ما سيحدث قريبا، وهو ما صدقته الصيحة التي انطلقت من مدينة مراكش يوم 16 أكتوبر. ومدينة مراكش ستظل منذ هذا الخطاب مركزا لقيادة العمليات التنظيمية المواكبة لهذا الحدث؛ خاصة ما يتعلق بالاستعدادات اللوجيستيكية. وكانت إذاعة مراكش وجهة لكل الباحثين على تفاصيل العملية، من صحافة أجنبية وعربية ووطنية. وقد تعبأ الفنانون المغاربة بشكل استثنائي من أجل المساهمة في التوعية وشحذ الهمم في أفق المسيرة الخضراء. وأروع ما أنجبته الأغنية المغربية كان بهذه المناسبة، فيما كان ترقب كبير يسيطر على المشاركين، ترقب يخالطه الخوف.. الخوف مما ينتظرهم من مجهول. هاجس كان يتملك حتى الصحفيين بمن فيهم الأجانب. ورغم تحليق بعض الطائرات بين الحين والآخر فوق المكان الذي رابط فيه المشاركون قبل تجاوزهم للحاجز، إلا أن التنظيم ظل محكما ومنضبطا لما تم التخطيط له. وكان في كل خيمة فقيه أو مرشد ديني، يسهر على حسن أداء الواجبات الدينية، وإسداء النصيحة والمشورة، والحرص على الالتحام والانسجام والتآخي بين المشاركين.
وصلنا في وقت متأخر من الليل إلى النقطة التي كان على المسيرة أن تتوقف عندها، أي موقع أبطيح، حيث توجد الأسلاك الشائكة رمزا للحاجز الذي علينا تجاوزه، لكونه يفصل بين الأرض المحررة والأرض المستعمرة، ما جعل المغاربة يسارعون إلى غرس الأعلام الوطنية فوق الرمال بمجرد تجاوزهم للحاجز. فقد كان حقا مشهدا دراميا من الدراما الواقعية. وكان مطلوبا من كل الصحفيين المرافقين للمسيرة أن يرجعوا فورا، فكانت لي فرصة البقاء رفقة الزميل محمد الخياط والتقني إدريس العسري، فرصة قضاء الليلة رفقة المجموعة التي مكثت هناك. فكانت ليلة رائعة؛ حيث بدت لنا السماء وهي تعانق الرمال، فكان يمكن لأحدنا أن يقبل القمر وأن يقتطف له نجمة من السماء. كل الوفود العربية المشاركة افترشت الرمال وأخذوا في الاسترخاء، بينما سارع المشاركون المغاربة إلى نصب الخيام، مرددين أهازيج مختلف مناطق المغرب؛ وكل ألوان الطيف الموسيقي المغربي. تبدد كل الخوف الذي كان يتملك المشاركين، وأخذوا في طبخ الطعام واستمرت الأجواء المرحة طيلة الليلة الأخيرة قبل العودة. وما ظل يحز في نفسي منذ ذلك الحين، أنني لم أحصل على وسام المسيرة فيما حصل عليه جل المشاركين وبعض ممن ساهموا في تغطية الحدث انطلاقا من الإدارة المركزية، أي انطلاقا من مكاتبهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.