اقتحمت ساحة النضال الحقوقي في المغرب مؤخرا أنشطة تكشف خطورة الانزلاقات التي يمكن أن يفضي إليها عدم استيعاب مبادئها الأساسية وانفلاتها من التأطير الجمعوي المسؤول. وهو ما يهدد بضرب مكتسبات النضال الحقوقي بالمغرب في الصميم ويفرغه من مضمونه. وبالرغم من أن موضوع الحريات الفردية كان دائما حاضرا في أدبيات ونضالات الفاعلين في مجال حقوق الإنسان إلا أن بعض موضوعاتها المطروحة اليوم وأشكال النضال من أجلها، يفقدها نوعا من الإجماع النسبي الذي تمتعت به على الدوام، و يجعلها مجرد ردة فعل في أوساط العلمانيين عن انتكاسة مشروعهم المجتمعي في ضل التدافع الذي عرفه المغرب خاصة في العقدين الأخيرين. ويمكن تمييز ثلاثة مراحل دالة في معركة الحريات في المغرب والتي أفضت إلى تلك الانتكاسة. و يعكس النضال الحقوقي فيها ناتج معادلة جدلية الحقوقي والسياسي. المرحلة الأولى هي مرحلة ما قبل تعيين حكومة اليوسفي الصراع السياسي في أغلب هذه المرحلة كان صراع وجود بين الدولة من جهة والأحزاب والمنضمات الحقوقية والنقابية من جهة ثانية. و كان تركيز النضال الحقوقي فيها على الحقوق الأساسية (الفردية والجماعية)المرتبطة بالقرار السياسي للدولة بشكل أساسي. مثل حرية الرأي والتعبير؛ حرية تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات والانخراط فيها، حرية التجمع والإضراب والتظاهر، حرية الصحافة... ويجب التأكيد أنه في هذه المرحلة تأسست قاعدة الحريات والحقوق التي ينعم بها المجتمع المغربي اليوم. وفي أواخر هذه المرحلة حاول العلمانيون طرح مطالب تتعلق بقيم المجتمع وهويته، وسجلت تحركات كان أهمها ما تعلق بمطالب تغيير بنود قانون الأحوال الشخصية، غير أن هذه المحاولة اصطدمت بتحرك الإسلاميين وبقرار الملك الراحل. هذا الأخير عين لجنة علمية أدخلت بعض التعديلات عام 1993 على ذلك القانون بعد أن حسم الخلاف الذي نشب بين الإسلاميين واليسار معلنا أنه بصفته أميرا للمؤمنين فلن يحل ما حرم الله ولن يحرم ما أحل الله. المرحلة الثانية تمتد من تعيين حكومة اليوسفي إلى 10 أكتوبر 2003 بعد تعيين حكومة اليوسفي واطمئنان جبهة العلمانيين إلى حسم معركتها مع الدولة حول السلطة، حاولت تلك الجبهة استثمار قوتها في المؤسستين التنفيذية والتشريعية لتمرير مشروعها المجتمعي الذي اصطدم برفض قوي من المجتمع. ويمكن اختزال صورة هذه المرحلة في مخاض انطلق يوم الجمعة 19 مارس ,1999 حين ألقى الوزير الأول الأسبق عبد الرحمن اليوسفي خطاباً في فندق هيلتون بالرباط قدم فيه خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية أمام الرئيس العام المساعد للبنك الدولي ووفد من الصحافيين، وهي الوثيقة التي حاول العلمانيون تمرير مشروعهم المجتمعي، بالجملة، من خلالها. وانتهى هذا المخاض، بعد جدل كبير واحتجاجات قوية، بميلاد مدونة الأسرة. وهي المدونة التي حسمت الصراع لصالح المجتمع وقيمه وهويته ومرجعيته. المرحلة الثالثة تمتد من 10 أكتوبر 2003 وتستمر إلى اليوم شهدت هذه المرحلة انحرافا للمطالب الحقوقية تحت مسمى الحريات الفردية. وهذا الانحراف كان بمثابة ردة فعل على النقطة التي سجلها المجتمع من خلال مودونة الأسرة والإجماع الوطني الذي اكتسبته، وكذا الدعم الخارجي المتمثل في مباركتها من طرف المنظمات الحقوقية الدولية والأممية ومن طرف الدول الكبرى، واعتبارها رائدة في موضوع المرأة بالعالم الإسلامي. في هذه المرحلة تغيرت إستراتيجية النضال الحقوقي بعد فشل إستراتيجية الدفع بالجملة لاعتماد المشروع الشامل الذي جسدته خطة حكومة اليوسفي. وتم اعتماد ما يشبه حرب العصابات من خلال غزوات جزئية تستهدف في كل مرة قضية معينة أملا في التطبيع مع تلك المطالب المتطرفة وطمعا في إنهاك الجبهة الدينية والمدنية المحافظة وفي إضعاف موقف الدولة أمام ضغوطات المنتظم الدولي وابتزازاته المعروفة. ورافقت هذه التحولات في الإستراتيجية، تحولات سياسية كبيرة تمثلت بالأساس في ظهور تصدعات في أوساط اليسار واتجاه المتطرفين منهم نحو الغلو في المطالب الحقوقية. و بظهور الفاعل السياسي الجديد والمتمثل في مشروع الهمة بكل مكوناته الحزبية والجمعوية والإعلامية. كردة فعل على مكاسب نضال مدونة الأسرة التي حسبت سياسيا لصالح العدالة والتنمية. وتقوم الإستراتيجية الجديدة، التي يطغى عليها طابع ردود الفعل ، ولتسجيل اختراقات متراكمة، على استغلال بعض الأحداث ( معركة الشواذ، معركة فتوى تزويج القاصر، معركة فتوى الخمر للريسوني، ...) أو استغلال بعض المناسبات (مثل رمضان للمطالبة بالحريات الفردية من خلال تغيير الفصل 222 من القانون الجنائي!). أو افتعال المناسبات (مثل إعلان المطالبة بالمساواة في الميراث، أو الدعوة إلى تقنين الإجهاض...) وتميزت هذه المرحلة بظهور مشروعين إلى حد الآن يجسدان اليأس العلماني المتطرف بامتياز: نداء من أجل الدفاع عن الحريات الفردية في يناير 2008 و يهدف إلى تأسيس جبهة الدفاع عن الحريات الفردية بالمغرب. وحركة مالي (الحركة البديلة من أجل الحريات الفردية) التي ظهرت في شتبر 2009 وتنشط خصيصا في رمضان من خلال شعار حرية الإفطار العلني في رمضان، وتأسست على خلفية الانتقادات التي وجهت إلى الفعاليات التي أصدرت نداء الحريات الفردية. ويكشف المنعطف الذي عرفته المطالب الحقوقية المتطرفة الذي جسدته الحركتين عن حقيقتين : الأولى أننا أمام مشروع سياسي علماني يوظف ملف حقوق الإنسان لتحقيق أهدافه. الثانية أن الأنشطة التي تتم في إطار المطالبة بالحريات الفردية هي أبعد ما تكون عن منطق المطالب الحقوقية وأنها غارقة في خرق القانون واستفزاز المشاعر العامة. الثالثة أن وظيفتها تتلخص بالأساس في: -1 خلق أجواء توحي بهضم الحقوق استقواء بالخارج وإضعافا لموقف الدولة والقوى المحافظة في المجتمع. -2 استفزاز الإسلاميين ودفعهم إلى الوقوع في أخطاء يتم استثمارها إعلاميا. -3 فتح أكثر من جبهة غير نضامية يصعب التعامل معها في غياب إطار مسؤول ومخاطب يعتمد الحوار الفكري. ولنا عودة إلى مناقشة مسمى مطالب الحريات الفردية لاحقا.