منذ ما يزيد عن عقد ونصف من الزمن المغربي، لا حديث في الساحة إلا عن الحقوق والحريات الجماعية والفردية وطي صفحة الماضي والمصالحة وبناء دولة ومجتمع الحداثة والديمقراطية، وصيانة المكتسبات والحوار الاجتماعي وغيرها من المحاور والشعارات الكبرى التي تؤشر على تحرك عجلة اسمها الانتقال إلى الديمقراطية، بعدما كنا في زمن ألا ديمقراطية وزمن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جاء بمقتضيات تقر "لجميع أعضاء الأسرة البشرية بالحق في الكرامة وحقوق متساوية وثابتة تشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم"، وبمجموعة من المبادئ والحقوق والواجبات التي تضمن للبشرية إنسانيتها. وأوصى بأن يكون هذا الإعلان "المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم"، كما أن وجود انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات في دولة ما، ينفي عنها صفة الديمقراطية. الحقوق التي يتمتع بها الفرد ويمارسها طواعية تسمى بالحريات، وتوصف بأنها عامة لأنها من حق الجميع بدون استثناء، ونميز في الحريات العامة بين الحريات الجماعية أو السياسية والحريات المدنية أو الفردية. فالحريات والحقوق الشخصية تعني مثلا، الحق في الحياة و المساواة أمام القانون (..) وحريات الفرد في علاقته مع الجماعة تعني الحق في عدم التدخل في الحياة الشخصية، الحق في التنقل حق التمتع بالجنسية، الحق في الزواج والتملك(..) والحريات الروحية والمدنية والسياسية تعني مما تعني الحق في حرية التفكير والرأي والتدين وحق تأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات... الدستور المغربي في فصله التاسع يضمن و ينص على مبدأ حرية الرأي والتعبير وحرية التفكير بجميع أشكالها، وكذا حرية الاعتقاد والتدين، ولا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون.. رغم ذلك يحدث العكس، فمعظم الحقوق المتعارف عليها في العهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان مكفولة بمقتضيات القوانين المغربية، لكنه رغم ذلك تحدث انتهاكات خطيرة للحريات والحقوق الفردية والجماعية. وإذ نخلد اليوم الذكرى61 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( 10 دجنبر 1948 2009)، لابد أن نتساءل عن أي زمن حقوقي نعيشه بالمغرب، هل هو زمن الانتهاكات؟ هل هو زمن المصالحة؟ هل هو زمن الانتقال؟ هل هو زمن الحقوق والحريات في أسمى معانيها؟ كل الأسئلة مشروعة في زمن حقوقي مغربي غامض ويثير "خلافات" كثيرة حول تقييمه، ووضعه الحقيقي!!! من حقنا أن نتساءل أيضا عن أي ضمانات قانونية وسياسية تخول لنا الحديث عن الحريات العامة بالمغرب؟ المغرب، بلد الفقر والإنسان المقهور، حيث يكثر مؤخرا الخناق على الحريات العامة رغم الانفراج النسبي الذي كان يلوح في الأفق منذ زمن قريب تسجن الأجساد والعقول لرغبتها في فضح الفساد أو للتعبير عن أرائها، وتغلق مؤسسات صحفية لجرأتها، ويمنع الترخيص لجمعيات لمطالبها، ويقمع ويتابع ويتهم وينتهك ويسجن المواطن البسيط لطلبه الحق في الحياة الكريمة وسيادة العدالة، نجد حقا أنفسنا في موقع حرج يعود بنا إلى الزمن المغربي الغابر، زمن الانتهاكات والفضاعات وفي قالب جديد. فرغم المنظومة الحقوقية والقانونية المتطورة شيئا ما، المتوفرة بالمغرب بالمقارنة مع بعض جيراننا، لم يشفع لنا ذلك بأن نتجاوز محن انتهاك الحقوق والحريات ونجد أنفسنا دائما أمام حقيقة صادمة، حقيقة انتهاك الحقوق والحريات بالمغرب بلا هوادة، وفي خرق صارخ للضمانات القانونية المكفولة بمقتضى المواثيق الوطنية والدولية للحقوق والحريات العامة. في هذا الإطار نتساءل لماذا تنتهك الحقوق والحريات بالمغرب رغم وجود ضمانات قانونية تحمي هذه الحريات ؟ لإجابة عن هذا التساؤل، لابد من استعراض بعض الإجابات الفاحصة والمتفق عليها بين بعض الباحثين القانونيين والحقوقيين المغاربة والتي تكشف مكمن الخلل. أولا: الحريات العامة في المغرب تعاني من غموض قانوني وتعسف في التطبيق، فمن خلال بنود قانون الحريات العامة المغربي والظهائر المنظمة لحق تأسيس الجمعيات وإصدار الصحافة, وعقد التجمعات, يمكن استقراء ملاحظات أساسية أهمها تكرار مفهوم الآداب العامة و النظام العام اللذان يعتبران مفهومان معقدان و غامضان في القانون العام, و بالتالي وظفهما قانون الحريات العامة المغربي كآلية للتعسف القبلي على الحريات من خلال النصوص القانونية، فأي فعل كيفما كان يمكن أن يؤوله ويفسره القانون على أنه مس بالنظام العام والآداب العامة. ثانيا: القانون المغربي يتميز بإحالاته المتعددة على السلطة الوصية الإدارية المحلية ( الشيخ – القائد – الباشا – العامل – الوالي...) دون أن يتم بشكل دقيق تحديد مفهوم السلطة الإدارية، مما يجعل هذا المفهوم بدوره معقدا و غامضا. ثالثا: بنود العقوبات و المخالفات المتعلقة بالحريات العامة, تتضمن عقوبات زجرية قاسية قد لا نجد مثيلا لها في القانون الجنائي. رابعا: السلطة الإدارية صاحبة الاختصاص القانوني فيما يخص الحريات العامة التي يفترض فيها الإلمام الجيد بالقوانين المتعلقة بالحريات العامة، نجدها تفتقر إلى هذا الشرط،، كما أن اغلب عناصرها يفتقدون لثقافة الحوار و حقوق الإنسان. منطق الغموض والضبابية الذي يحكم منظومة الحريات العامة بالمغرب جعلها تنتهك بسبب سوء التأويل، وعدم إعمال القانون في منطوقه ومضمونه الصحيح، وعلى هذا الأساس تم منع ومحاكمة العديد من المنابر الإعلامية خلال هذه السنة والسنوات الماضية ( أخبار اليوم، المشعل، الجريدة الأولى...) كما تبقي الحريات والحالة هذه بين مطرقة وسندان التعسفات و الخروقات التي تمارسها السلطة الإدارية, وعناصرها الذين يلجئون إلى تأويلات واجتهادات إدارية فردية لتبرير الشطط في استعمال السلطة, أو ينقادون وراء التعليمات الشفوية لرؤسائهم، مما يفقد تعاملاتهم مع المواطنين قاعدة تعليل القرارات الإدارية بالكتابة. وفي هذا الإطار سنتحدث عن حالة قريبة إلينا توضح بشكل جلي ما تطرقنا إليه، ففي الثاني من شهر مارس 2009 تعرض مناضلوا جمعية المعطلين بالناظور إلى قمع وحشي من طرف السلطات المحلية بالناظور، شكليا وقع في هذا التدخل خرق سافر لقانون الحريات العامة بالمغرب حيث لم يتم مراعاة مقتضيات الفصل 19 من هذا القانون الذي يلزم ممثل السلطة عند تفريق تظاهرة تكون في اعتقادهم غير قانونية بحمل شارات وظيفية و مكبر الصوت من اجل تلاوة لازمة "إننا سنعمل على تفريق التجمهر بالقوة" لكنه لم يتم ذلك وتم التدخل بدون أي إنذار، وما زاد الوضع كارثية هو اعتقال 11 مناضل بما فيهم أعضاء الجمعية ومراسلي جرائد محلية ومواطنين متضامنين، وتم انجاز محاضر لهم تتضمن تهم ومعطيات لا أساس لها من الصحة، من قبيل الانتماء إلى جمعية غير مرخص لها والتجمهر الغير المرخص له، رغم أن فرع الناظور للجمعية يتوفر على سجل بريدي يؤكد توصل باشا مدينة الناظور بملف تجديد مكتب الجمعية بتاريخ 17/06/2008، والقانون المغربي حدد أجال 60 يوم لتسليم الوصل النهائي وفي حالة عدم تسلمه داخل هذا الآجال أو عدم إرسال السلطات لنسخة من وثائق ملف التأسيس إلى مكتب النيابة العامة بالمحكمة المختصة. التي يمكن فيها للوكيل العام "إذا اقتضى الأمر"، أن يصدر "رأياً" في الوثائق التأسيسية للجمعية، واعتراض وكيل الملك في غضون فترة الستين يوماً يعني أن الجمعية غير مُصرَّح بها قانوناً، وفي حالة عدم قيام هاتين الحالتين جاز للجمعية أن تمارس نشاطها وفق الأهداف المسطرة في قوانينها (..) ورغم أن القانون المغربي لا يجرم مجرد العضوية في جمعية غير معترف بها. هذا نموذج قريب فقط كما قلت، أما حالات الخروقات والتعسفات الأخرى التي يعرفها مجال الحريات العامة بالمغرب فلا حصر لها، ولكثرتها أصبحنا لا نتذكر الكثير منها.( انظر على سبيل المثال تقرير منظمة "human rights watch "حول حرية تكوين الجمعيات بالمغرب الصادر في 07 أكتوبر 2009 ) هذا هو زمن الحريات في المغرب المعاصر، قوانين "شبه متطورة" بالمقارنة مع الدول المغاربية الأخرى، وتشبه في صياغتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، لكن الواقع يقول بان هذه القوانين لا صلة لها بالتطبيق وتبقى غامضة رغم أهمية مضمونها، الشيء الذي يفتح المجال لانتهاك حريات الأفراد والجماعات حسب تفسير وهوى المسؤولين الإداريين للقانون. هذا هو واقع الحال في البلاد السعيدة، واقع أصبح يعبر عن مشهد من فيلم رعب، مشهد غير مرغوب فيه، لكنه مألوفا على طول وعرض البلاد، وفي زمن يتغنى فيه الخطاب الرسمي بمشهد ديمقراطي قل نظيره، الشيء الذي يؤكد أن تعامل الدولة مع الحريات في المغرب، يؤطره مبدأ " العصا والجزرة". على أي، ستحل في الأيام القليلة المقبلة السنة الجديدة ( 2960 2010) وستتحرك الأقلام والأصوات من جديد من اجل تقييم وصبر أغوار منجزات وانتكاسات السنة الماضية، وسيكون لموضوع الحريات العامة المقرون بمجال حقوق الإنسان النصيب الأوفر من مساحة هذه النقاشات، وسنقول كالعادة، كل "أسكواس" وحقوقنا في الحياة تنتهك، لكن هذا الواقع الظالم والغامض لن يثني الشعب المغربي عن مواصلة النضال أفرادا ومجموعات حتى تحقيق الديمقراطية المنشودة، وان كانت بصيغة مغربية !! أقول قولي هذا واختم بقول الأديب والشاعر الفرنسي بول فاليري" إن النتيجة تفترس العلة، والغاية تبتلع الوسيلة".