الديمقراطية عندنا توصل الكل إلى الوزارة الأولى والحكومة والبرلمان وحتى مقاعد الاستشارة، وتصبح بذلك الخريطة السياسية عندنا غير خاضعة لأي منطق أو موضوعية ولا تحتكم لغير المصادفات التي قد تصبح سعيدة كما الحال اليوم بالنسبة لحزب الاستقلال. أما الأحزاب عندنا فهي تتنافس على المقاعد بمفهوم الحقائب الوزارية والدبلوماسية والمناصب المواتية وغيرها، وتتسابق من أجل الوصول إلى النخلة بمفهوم عدد المقاعد الذي يسمح بالمشاركة في الحكومة، وعندما تصل إلى النخلة تختلف على البلح، وقد تتغير فقط الأسماء فتصبح النخلة هي الحكومة وتصير الحقائب الوزارية هي البلح... واليوم وبعد مؤتمر حزب الاتحاد الاشتراكي الذي أوصل وزير العدل في الحكومة الحالية عبد الواحد الراضي إلى الكتابة الأولى للحزب، لا حديث للشارع المغربي سوى عن الحكومة المقبلة وعن تشكيلتها المعدلة أو المنقحة بعد انسحاب الاتحاد الاشتراكي منها، والحقيقة أنه لا يكاد يمر يوم دون أن تطالعنا الصحف بتعليقات ومقالات تصب كلها في اتجاه واحد مفاده أن الوزير الأول المعين لم يعد قادرا بالنظر لسنه وحالته الصحية والفضائح التي راكمها على خلق التجانس المطلوب لا في الحكومة الحالية ولا في تلك المرتقبة. طبعا من الناحية الديمقراطية إن اعتبرنا هذه الانتخابات تحمل هذه الصفة، ما دامت نسبة العزوف كانت تتجاوز 63 بالمائة، فإن الملك طبقا للمادة 24 من الدستور عين وزيرا أول منبثقا من النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع، وبالتالي فإن الوزير الأول المعين تم تعيينه من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد وليس على الأغلبية، ما دامت حصة 52 مقعدا لا تشكل حتى ثلث هذه الأغلبية التي تتطلب 163 مقعدا، والحال بعد تحالف حزب الأصالة والمعاصرة مع حزب التجمع الوطني للأحرار، أن التحالف الجديد أصبح يشكل الفريق الأول في قبة البرلمان، ما قد يجعل الأمور تتغير موضوعيا، وإن كانت عمليات الحل والترحال والتكتلات الجديدة هي التي أوصلت الفرق البرلمانية لهذه النتيجة وليس صناديق الاقتراع... مشكلة الشخص المعين هنا قد لا ترتبط بالمؤسسة الملكية بقدر ما ترتبط بالأحزاب و هياكلها التي لم تستطع تكوين أطر من طينة ادريس جطو، كما أنها لا زالت تعول على زعامات هرمت ولا يهمها من مصلحة الوطن غير الحقائب الوزارية والامتيازات وخدمة الأقارب وبعض "مناضلي الحزب"، وهذا لا ينفي أن حزب الاستقلال يضم بين صفوفه وزراء شباب قدموا صورة إيجابية عن العمل الحكومي والحزبي، ولكنهم ربما لم يبلغوا النضج الذي يسمح بتوليهم رئاسة الحكومة أو أن صراع الأجيال داخل حزب علال الفاسي حال دون وصولهم لخوض تجربة تظل مهمة بالنسبة للمغرب وللجيل الجديد من صناع القرار. وبالعودة للحكومة المرتقبة التي قد يقود فرقتها المنقحة للمرة الثانية عباس الفاسي فإن كل المؤشرات توحي بأنها لن تكون قادرة على السير بنفس سرعة الحكومة السابقة التي كان يرأسها ادريس جطو، وأنها حتما تحمل في أحشائها وخلاياها جينات الموت السريع، ويتضح أن حرارة عواطف الأحزاب تتغير حسب المصالح والحقائب، فعندما يتعلق الأمر بالحكومة تلبس الأحزاب جلد الثعبان الصحراوي فتحب بعضها البعض، وتدافع عن رصيدها، لكنها ما تلبث أن تتحول إلى زواحف قطبية تعض بعضها البعض كما كانت قبل تشكيل الكتلة أو الأغلبية الحكومية، أو كما سوف تصبح في الانتخابات الجماعية المقبلة المقررة يوم 12 يونيو 2009... المطلوب في وزراء الحكومة المقبلة سرعة الأداء واتخاذ القرار، فالمغرب ضيع ما يكفي من الوقت وأكثر، وبالعودة للحكومة المنتظرة فإن ما سوف يفرقها أكثر مما سوف يجمعها، فلا قائد الاوركسترا قادر على نهج الأسلوب الحداثي والسريع في تناول الملفات الكبرى والسفريات المكوكية ذات الفائدة للوطن، وهو الأمر الذي بات يوقع لمغرب العهد الجديد، ولا الأحزاب التي سوف تشكل هذه الحكومة قادرة أن تتنازل لصالح المواطن والوطن عن بعض الحقائب وبعض الامتيازات، وقد عايشنا هذا منذ الإعلان عن الوزير الأول الذي يرأس الحكومة الحالية، حيث ارتفعت أصوات تطالب بإنصافها وتتوعد بعدم التنازل عن حقها كما كان حال حزب التجمع الوطني للأحرار، وأخرى تطالب بنفس الحقائب التي كانت لديها لمواصلة ما حققته من انجازات كما كان حال الحركة الشعبية المنسحبة من هذه الحكومة، فيما ذهبت أحزاب أخرى في اتجاه التخلي عن الحقائب التي سببت لها النكسة كما هو حال حزب الاتحاد الاشتراكي الذي يعتزم الانسحاب في اتجاه موقعه الأصلي في المعارضة، وهو ما قد يحرج أيضا حزب التقدم والاشتراكية المرتبط بالكتلة... وبغض النظر عن صراعات الأجنحة داخل كل حزب، ولغة الزبونية والعائلة وتبادل المصالح وكل المعادلات التي قد تسقط أسماء لا تتوفر لا على كفاءات ولا على رصيد أو تاريخ سياسي، فإن التجانس المطلوب داخل الحكومة المرتقبة سوف يكون صعب المنال، وبالتالي لا يمكن الحديث عن أغلبية منبثقة من صناديق الاقتراع لسببين بسيطين، أولهما أن نمط الاقتراع لا يسمح بإفراز أغلبية واضحة ما دامت الانتخابات باللائحة و تجرى في دور واحد، وأيضا لأن كل حزب من الأحزاب التي شكلت الحكومة السابقة دخل حلبة السباق على المقاعد لوحده وليس متكتلا، ولهذين السببين يمكن إضافة شرعية الفريق الأقوى الحالي بعد تكتل أصدقاء المنصوري وعالي الهمة، وبالتالي فالحديث عن أغلبية برلمانية اليوم يجرنا للحديث عن خمسة أحزاب على الأقل تختلف إيديولوجياتها وخطاباتها من اليمين إلى اليسار مرورا بالوسط، ويكون التحالف الذي يقوده الوزير الأول المعين غير متجانس للمرة الثانية، ولم يحدده الحزب القائد للأوركسترا في برنامجه السياسي قبل دخول الانتخابات، والأصل أن المواطن من حقه قبل التصويت على أي حزب أن يعرف مع من سوف يتكتل هذا الحزب، حتى يكون الخيار واضحا فقد يصوت المواطن لصالح حزب على أساس ألا يتكتل مع حزب آخر قد يعتبره لا يخدم مصالحه، إلا أنه يكون مرغما ودون إرادته على التعامل مع حكومة مشكلة من أحزاب قد لا يربطه بها غير البر والإحسان.. لكنها الديمقراطية على الطريقة المغربية ويمكن توقع كل شيء فيها، ويبقى المواطن المسكين يترقب خيطا رفيعا من الماء في صحراء من حكومات العطش، واحدة تقتل بسم الشعارات، وثانية بقهر الامتيازات، وثالثة بخشبية الخطابات وحكومة رابعة تقتله ببطء الانجازات، وفي الأخير نجد أنفسنا أمام ضحايا ليسوا كلهم ضحايا النجاة بالضرورة، ضحايا هم مواطنون قتلوا في ظروف غامضة ولم تتمكن النيابة العامة من معرفة القتلة، وسجلت الجريمة ضد مجهول اسمه واحدة من تلك الحكومات المكررة... خلاصة القول وحتى لا نضيع الوقت في صب الماء على الرمل، نكتفي بالقول أن هذه الحكومة، وتلك المرتقبة إن كانت فقط منقحة، سوف يكتب لها أن تحمل جينات الموت، ولن لن تستطيع أن توقد تحت الماء النار.