المغاربة يجسدون وحدة أرضهم وقيادتهم وشعبهم في مسيرة هي الأكبر في تاريخهم هيثم شلبي (كاتب وصحفي فلسطيني) بعد مرور خمسة وثلاثين عاما على المسيرة الخضراء باتجاه الصحراء المغربية التي كانت مستعمرة إسبانية، والتي قام بها زهاء 350 مغربي من مواطني شمال المغرب بتاريخ السادس من نوفمبر 1975، في مسيرة تضامن ووحدة أبرزت تلاحم هذين الجزءين من المملكة المغربية، جاء الدور صباح الأحد الثامن والعشرين من نوفمبر على مواطني الصحراء أن يحجوا شمالا نحو مدينة الدارالبيضاء من أجل تأكيد التحام جزئي الوطن، لمن لا زال يراوده بقية من شك في تمسك المغاربة بكامل ترابهم الوطني. وسواء صدقت تقديرات المنظمين بوصول عدد المشاركين إلى ثلاثة ملايين، أم توقعات السلطات المحلية بتواجد مليونين ونصف، يبقى الأكيد أن قيمة العدد على ضخامته وأهميته، تتضاءل أمام الروح التي كانت سائدة في كل شبر من جنبات شارع محمد السادس أكبر شوارع العاصمة الاقتصادية للمغرب، شيبا وشبانا، نساء وأطفالا، ربات بيوت وزعماء أحزاب سياسية، فنانون وناشطون حقوقيون، باعة متجولون وطلبة مدارس وجامعات، كلهم اندمجوا في غناء جماعي شجي: "العيون عينيا، والساقية الحمراء ليا"، كان الصدق والحماس هو العنوان الذي لا تخطئه عين ولا يلتبس على أذن، صدق أبلغ من كل البيانات التي تصاغ في مثل هذه المسيرات. هذا الحماس بلغ ذروته الأخرى عندما كان الغناء يتجدد مع مكبرات الصوت التي تردد النشيد الخالد: "صوت الحسن ينادي بلسانك يا صحرا، فرحي يا أرض بلادي أرضك صبحت حرة، مرادنا لازم يكمل بالمسيرة الخضرا". لقد كان واضحا لكل حاضر لأكبر مسيرة في تاريخ المغرب، ليس فقط من المغاربة بل ومن العرب والأجانب الذين يدركون قدسية قضية الصحراء بالنسبة للمغاربة، ويشاطرونهم الإيمان بعدالتها، أن هذه الملايين الحاضرة والتي تكبدت مشاق السفر من جميع مدن وقرى المغرب على اتساعه، تمثل من لم تسعفه ظروفه بالحضور، ويجسدون فعلا لا قولا وحدة المغرب، وأن "أرضه أصبحت حرة"، وهو أمر لا رجعة عنه مهما كلف ذلك. هذا الدرس ربما كان الأبرز من سلسلة دروس جسدتها المسيرة الكبرى، يمكن استعراض أهمها كالتالي: الأول: أن الصحراء مغربية، مبدأ حاسم واضح نهائي لا رجعة فيه، والإيمان به راسخ في وجدان خمسة وثلاثين مليون مغربي في شمال المغرب وجنوبه، شرقه وغربه، وأن هذه الملايين مستعدة لدفع ثمن إيمانها بوحدتها الترابية. ثانيا: أن المعزوفة التي وضع نوتتها العاهل المغربي الملك محمد السادس، حامل إرث المسيرة الخضراء، والمتجسدة في مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية، وإن كانت ترجمتها تتم عبر القنوات الدبلوماسية، إلا أن الناس العاديين ليسوا مجرد مستمعين لها ومتفرجين عليها، وإنما عازفين ومغنين أصليين، ومشاركين بحماس في أداء ما هو منوط بهم من أدوار. ثالثا: أن محاولة إنشاء دويلة هزيلة في الصحراء تضم عددا من السكان أقل من المشاركين في مقدمة مسيرة الدارالبيضاء، هو أمر إما أن البوليساريو ومتبنيها وداعميها يدركون استحالته ومع ذلك يعاندون، وتلك مصيبة، أو لا يدركون ذلك (وهو أمر مستبعد) وساعتها المصيبة أعظم. رابعا: وأمام الإيمان الحقيقي بوحدة المغرب أرضا وشعبا في ظل ملكية متجذرة عبر التاريخ، ليس أمام خصومه لدى جيران الشرق أو الشمال إلا الإنصات لصوت العقل، ومحاولة الانسجام مع صوت الضمير والمنطق والحق، والتعايش مع حقيقة المغرب الموحد، الذي يشكل بوحدته عنصر قوة لجيران الشرق، وعنصر استقرار لجيران الشمال. خامسا: أن المناورات الصغيرة من قبيل إرسال أفراد عصابات إجرامية لإثارة القلاقل والشغب، أو المناكفة عبر استصدار توصيات غير ملزمة للتحقيق في أكاذيب فندتها المنظمات الدولية التي زار ممثلوها مسرح الأحداث، وسمعوا وشاهدوا ما جرى، لن يفيد إذا ما استحضرنا أجواء الوحدة الحقيقية التي جسدتها المسيرة، بين قيادة البلاد، طبقتها السياسية، مجتمعها المدني، وباقي أفراد شعبها. سادسا: أن تداعي ثلاثة ملايين لتلبية نداء مسيرة وطنية أعلن عنها قبل يومين فقط، يعتبر أكبر استفتاء يظهر إيمانهم الراسخ بعدالة القضية موضوع الدعوة (مغربية الصحراء والتنديد بمناورات المناوئين لها)، التفافهم حول العرش الذي يوجه دفتها، واستعدادهم لتقديم ما تطلبه منهم حكومتهم، أحزابهم، جمعياتهم وباقي هيئاتهم التمثيلية بخصوصها. لقد كرس المغرب نفسه بمسيرة الأحد الكبرى أنه بلد المسيرات المليونية، أكبر مسيرات على مستوى العالم دعما لقضية الشعب الفلسطيني في مناسبتين على الأقل، أكبر مسيرة احتجاج ضد الحرب على العراق، أكبر مسيرات للتضامن مع المرأة وضد اعتماد المقاربات الغربية في وضع القوانين المقننة لحياتها، والآن، أكبر مسيرة عفوية يعبر الناس عبرها عن وعيهم بوحدتهم، وتمسكهم بكيانهم، والتفافهم حول عرشهم وسلطتهم، وهو حشد يصعب تصوره بهذه الضخامة وللتعبير عن هذا الهدف (لاسيما الاتفاف حول عرشه في خدمة قضاياه الوطنية) في بلد آخر غير المغرب. إن من شأن التأثير المباشر لهذه المسيرة أن يدعم محليا المفاوض الحاضر في مانهاست وباقي المحافل الدولية مدافعا عن وحدته الترابية وخيار الحكم الذاتي وسيلة وحيدة لحل الصراع المفتعل حول صحرائه، ومن شانه خارجيا أن يحبط خصومه ويمنعهم من محاولة اللعب على وتر التفرقة بين المغاربة رؤساء ومرؤوسين عندما يتعلق الامر بقضيتهم الوطنية، ليتبقى لهم ساحة الألاعيب الإعلامية الصغيرة. ومما يزيد من حدة إحساس خصوم المغرب بالخسارة، هو أنهم على النقيض منه تماما، يوجدون الآن في أقسى درجات التناقض والتخبط وعدم الانسجام، فالبوليساريو لا تستطيع الوقوف في وجه تفسخها على المستوى القيادي، وتشتت أهواء الصحراويين في مخيمات تيندوف والحمادة، بينما تزيد مناكفات الحزب الشعبي الإسباني من نزيف شعبيته لاعتمادها وسائل بعيدة عن النزاهة والمصداقية والأخلاق، عبر تغطيات إعلامية مفبركة، ووقائع ثبت زيفها. إن الحاضر لمسيرة الدارالبيضاء المليونية، لا يسعه إلا الاطمئنان على مستقبل وحدة المغرب الترابية وبقائه كيانا موحدا أرضا وقيادة وشعبا، وأن لا سبيل لإطفاء الفرح الذي كان باديا في العيون تترجمه الحناجر المدوية: "فرحي يا أرض بلادي أرضك صبحت حرة"، لأنه لا سبيل مطلقا لاستبدال حريتها بأي عبودية لأي كان.