في حياة الصحافي لحظات تنتفي فيها نقاط التماس بين الذات و بين الموضوع، خاصة عندما يصنع ثقل الموضوع و قوته لحظة تاريخية و إنسانية فريدة، كانت المسيرة الخضراء بالنسبة للصحفي الألماني مراد كوسروف لحظة مفصلية في حياته المهنية و الإنسانية، و محطة رئيسية في رحلته، هو المشاء بين الشرق و الغرب، بحثا عن الذات. " كانت المسيرة الخضراء فكرة عبقرية لاسترجاع الصحراء المغربية و تكريس الوحدة و إعادة اللحمة التي كانت تربط على مر التاريخ بين أقاليم شمال المملكة وجنوبها، لكنها، كانت بالنسبة لي كصحفي ألماني، يقول مراد كوسروف، كشفا جديدا لجوانب أساسية في تكوين الشخصية المغربية، فالمسيرة الخضراء أبرزت شعبا مقداما مؤمنا بحقه، شغوفا بالحرية، سمحا كريما، مضيافا يتقاسم ذات اليد مع الآخرين، و تلك هي المميزات التي كان يتحلى بها المشاركون في المسيرة الخضراء، تضامن و تآزر و نكران ذات و إيثار و وطنية حقة "، و كانت كلها هي ذات القيم التي وجد فيها كوسروف نفسه.. وأضاف الصحفي و الكاتب الألماني، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن المسيرة الخضراء " أظهرت لي شعبا ميالا بالطبع إلى السلم، يفهم أمور دينه ويمارس شعائره بوسطية و اعتدال، و فق مذهبه السني المالكي، دون مغالاة أو تشدد، و لكن في انفتاح وثقة و تفاؤل"، مشيرا إلى أن المغاربة جبلوا على ذلك على مر التاريخ. و لاحظ أن التنظيم الدقيق و المحكم الذي جرت فيه المسيرة الخضراء بمشاركة 350 ألف مغربي، 10 في المائة منهم نساء، و الانخراط التلقائي لكل المغاربة، كشفت جوانب أخرى مشرقة للشخصية المغربية. وكان السيد كوسروف ضيفا على لقاء نظمته السفارة المغربية في برلين بمناسبة الذكرى الخامسة و الثلاثين للمسيرة الخضراء المظفرة، حيث ألقى أمام ثلة من السياسيين و المسئولين و الصحفيين الألمان، عرضا استعاد فيه ذكرياته كصحفي و مصور واكب أطوار تنظيم المسيرة الخضراء، ومسارها و أجواء التعبئة الجماعية الشاملة التي كانت تعبر عنها كافة شرائح المجتمع المغربي للمشاركة في مسيرة سلمية استعاد بها المغرب جزء من ترابه الوطني كان يرزح تحت الاحتلال الإسباني. وأضاف الصحفي الألماني، الذي اختار الاستقرار في المغرب منذ بداية ستينيات القرن الماضي، أن المسيرة الخضراء، التي يحتفل المغرب بذكراها اليوم السبت، وحدت شمال المملكة بجنوبها وأطلقت دينامية تنموية كبيرة، اقتصادية و اجتماعية. و أبرز أن النهضة الكبيرة التي شهدتها المملكة، توجت بالإصلاحات السياسية العميقة و المقدامة التي أطلقها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وفي مقدمتها تعزيز مسار الديمقراطية وحقوق الإنسان و ترسيخ المساواة بين الجنسين، من خلال مدونة الأسرة. وقال الصحفي الألماني إن " قضية الصحراء انتهت بمجرد تنظيم المسيرة الخضراء"، مشيرا إلى أن " استمرار الجزائر في معاكسة الوحدة الترابية للمغرب، و عرقلة أي تسوية سياسية متفاوض بشأنها، نابع من رواسب عقلية الحرب الباردة التي عفا عنها الزمن". وأكد أن مبادرة الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية التي اقترحها المغرب، مبادرة " جريئة وجدية" و " تمثل الحل الأمثل للنزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية". و نظم السيد كوسروف، في قاعة العروض بالسفارة المغربية في العاصمة الألمانية، معرضا للصور من أرشيفه الشخصي حول المسيرة الخضراء، وهي صور تؤرخ، بعين احترافية، لتفاصيل هذه الملحمة المغربية الكبيرة، كما تروي لحظات تاريخية عاشها كافة المغاربة في جميع أقاليم المملكة، في الوقت الذي كانت تتحرك فيه جموع المشاركين في المسيرة الخضراء للالتحاق بإخوانهم في الصحراء و معانقة جزء عزيز من ترابهم الوطنيو السيد كوسروف من مواليد برلين، توجه سنة 1960 إلى العيش في المغرب و قد ناهز عمره 20 سنة، حيث استقر في البداية بتطوان، ثم لاحقا بآكادير، اشتغل في القسم السياسي لمؤسسة (دويتشه فيله) الإعلامية الألمانية وراسل العديد من الصحف و المجلات، و ألف كتبا عديدة باللغة الألمانية، كما أصدر أخرى بالاشتراك مع كتاب آخرين، حول تاريخ المغرب و الثقافة المغربية. ومن مؤلفات كوسروف، الذي يكن حبا جما للمغرب، " أرض الأحلام،، يوميات شرقية " و " المغرب الرائع، كان حتى كان .." و " مشاء بين الشرق و الغرب " و معجم للأمثال المغربية، مترجم من الدارجة إلى الألمانية.