تعودت بعد كل نهار شاق، أفلت شمسه و غاب نوره، و بعد صلاة العشاء أن أطلق العنان لرجلي و أتمشى بعيدا عن الناس في وحدة علها تكون خير رفيق لي و خير جليس، كانت تنتابني حالة من التأمل آنذاك، و جمالية لا يحس بها إلا من عاشها و خاصة إذا نظرت إلى السماء و رأيت النجوم و كأنها لآلئ تسطع أو درر تلمع. و في يوم و أنا على تلك الحال استرعى انتباهي طيف كثيرا ما رأيته، لكن في غمرة ما أنا فيه لم أعر الأمر ذلك الانتباه البالغ، و خاصة وقوفه في ذلك المكان، كانت فتاة في السابعة من عمرها على ما يبدون رثة الملابس، شاحبة الوجه، لكن لمست في عينيها شيئا لم أعهده، بريقا يدل على التحدي و المثابرة، و كانت تمسك شيئا بيدها. دنوت منها لأتعرف عليها و كتمن تبتسم كل مرة أكلمها فيها، سألتها عن سبب وجودها هنا كل يوم فأخبرتني لتجلس و تلعب، و علمت أيضا أن والها قد توفي و أنها تعيش مع أمها و أخوين لها في منزل هو أشبه بالكوخ قرب المكان الذي أرتاده، و لم تكمل الحديث فما امن رأت أخاها الأكبر يخرج حتى هرعت مسرعة و دخلت إلى البيت. عدت أدراجي و في نفسي عدد من الأسئلة و الاستفسارات التي تمنيت لو تجيبني عنها دفعة واحدة، و بقيت تلك الليلة أفكر فيها، و في اليوم التالي ذهبت إلى نفس المكان المعتاد، فوجدتها أيضا هناك و كأنها قدري، وما إن رأتني حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة مشوبة بحزن دفين، سألتها عن اسمها، فقالت لي: "عائشة "، و اغتنمت الفرصة لأسألها عن سبب الحزن الذي يعلو وجهها، فقالت لي بأنها تتمنى لو تدرس، و ما أذهلني حقا ليس هو الجواب لكن الدافع لها و هو أنها تود أن تقرأ القرآن لكنها لا تستطيع، و تذكرت حالي أنا الذي أنعم الله علي بالقراءة و قليلا ما تلوت كتاب الله، بل و القليل القليل ما تدبرت معانيه، ثم طلبت مني طلبا أصابني بالذهول و قالت لي أنه الوحيد، و لم يخطر ببالي أن يطلب مني أحدهم مثل ذلك الطلب، قالت لي أعلمها أن تكتب عبارة " أحب الله " يا الله كلمة أدخلت في قلبي رهبة و خشوعا، من عائشة هاته ؟!!! أهي قدر ساقه الله إلي ليذكرني بمعاني نسيتها، أم مخلوق من الملائكة في صفة إنسان؟؟!!! بقيت معها تلك الليلة مطولا أعلمها كيف تكتبها بقلم كانت تحمله معها دوما، و أكتب الكلمة و هي تراني كيف أفعل، و بقي الحال يتكرر لمدة ثلاثة أيام، وبعدها انشغلت بأمور و لم أذهب رغم أني كنت متأكدا أنها كانت تنتظرني و بهد مرور أربعة على غيابي ذهبت و أنا متيقن أني سأراها، و عندما ذهبت وجدت المكان تعمه وحشة كبيرة و رهبة ووجدته خاليا من الحركة، وليت أدراجي و أملي أن أجدها، فعزمت أن أذهب إلى بيتها، و فعلت. طرقت الباب فخرجت والدتها و ما إن رأيتني حتى علت وجهها نظرة تعجب و قالت لي: أنت!! نعم أنا لكن كيف عرفت و من أخبرها، ثم استطردت أن عائشة وصفتني لها و كأنها تصورني، و أعطتني ورقة، قالت لي أن عائشة تركتها لي، و عندما سألتها عنها، أجهشت بالبكاء فعلمت أن الأمر فيه شئ، سألتها مرة أخرى عنها فقالت لي أن عائشة ماتت. عائشة ماتت و أفل نجم كثيرا ما تعلمت منه، لكن لا أدري لم لم أبكي، ليس لأني لم أحزن لكن لأن الدموع لم تشأ أن تخرج أو لأنها كانت تنتظر شيئا لتفعل. عدت الى البيت و أنا أفكر في كل ما وقع، سبحان الله ما هذا؟؟!! و ماذا وقع؟؟!! تذكرت ابتسامتها و نظراتها و طريقة كلامها وفي غمرة ما أنا فيه... تذكرت الورقة التي أعطتني إياها والدة عائشة، فتحتها، يا سبحان الله ما هذا!!! أجمل كلمتين علمتهما لأحد، لقد فعلتها و كتبت " أحب الله ". و تذكرت قوله صلى الله عليه و سلم: ﴿ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ﴾ .