زغلول النجار، عمرو خالد، صفوت حجازي، وجدي غنيم والبقيّة في الطريق.. كوكبة من الدعاة تتوافد تباعا على تونس، ومع ارتفاع حدّة الخطاب وصرامة المُحاجّة لدى الداعية ترتفع الأعداد التي ترتاد خطبه ومحاضراته، والمتابع للمشهد سيكتشف سريعا بأنّه ليس أمام جماهير عطشى للرقائق والمواعظ تتوق إلى نفحات الإيمان النديّة ومجالس العلم الغضّة التي طمستها جائحة تجفيف المنابع، بل هو أمام جماهير منهمكة في المغالبة ، ذلك لأنّ جلّ الجموع المتدفقة حينا والمتدافعة أحيانا نحو أفنية القاعات وأبهاء المساجد.. لا تطلب المعلومة الدينيّة والكلمة النافذة إلى القلب بقدر طلبها لألفاظ قويّة وشهب من الجمل الناريّة التي يمكن أن تغالب بها حالة من الاستفزاز أوجدها صائلا مخالفا بل مناقضا لها، هذه الجحافل التي يُشكّل الشباب سوادها الأعظم سوف تمضي بعيدا في بحثها عن دعاة حناجرهم أقوى وألسنتهم أطول وكلماتهم أحدّ حتى يتمكّنوا من ترجيح الكفّة أمام مشاهد سينمائيّة لا تعترف بالله ولا بسيدي وأمام مقاطع تلفزيّة عمدت إلى صورة "الربّ" فجسّدتها، وأمام صحف متحررة اتسع صدرها إلى صدور الشقراوات وتفسّحت صفحاتها في نشر اللحم الأحمر في الأكشاك وعلى قارعة الطريق وأمام حالة إعلاميّة ما فتأت تقرع طبول الفشل متطوعة لخدمة نخبة تسعى جاهدة لإتلاف أيّ محصول تنمويّ أو سياسيّ، وإن كانت هذه النخبة تعي جيدا ما هي بصدده الآن فإنّها لا تملك قطمير وعي بنتاجه وتداعياته على مستقبل بلادنا. إنّ ما يحدث اليوم في تونس هو أمر في غاية الخطورة، فنحن أمام ثلّة من المراهقين السّياسيّين استهوتهم لعبة الأزرار القاتلة وتملّكهم سراب من الغرور فصوّر لهم اعتقادهم القاصر أنّه مثلما يمكنهم إشعال النّار يمكنهم كذلك التحكم في مساحة الحريق والتحرّك به في الاتجاهات التي يريدونها وكذا تحديد إقامته وإخضاعه للتوقيت الذي يتماشى ونزواتهم السّياسيّة، ولو أطفأوا نار الحقد وأضاءوا نور بصيرتهم لاقتنعوا بأنّ ما تسببه أعقاب السجائر قد تفشل في السيطرة عليه فرق مدججة من رجال الإطفاء المَهَرة ، لهذا ومن أجل أن نتجنّب الأسوأ، على بعض المبادئ الدنيا التي لا غنى لنا عنها أن تسود داخل المجتمع وتُعمّم على مكوّناته ونسيجه ، ولعلّ أهمّ ما يجب التوافق عليه أنّ الاختلاف والخلاف والتبيان والتنافر وحتى الكره والتباغض كل هذه المعاني وإن اجتمعت وتعاضدت لا يجب بحال أن تكون مؤهلة لسحب الشرعيّة والعبث بتركيبتها وإعادة إنتاجها بأشكال مشوّهة تغلب عليها الانتهازيّة ومبدأ "أنا أو الطوفان". لقد أنفقت البشريّة قرونا ، وقدّمت ملايين القرابين من أجل أن تصل إلى صيغة سلسة ليّنة تفرز بموجبها الجماهير طبقتها الحاكمة ، وقد ترقّبت تونس طويلا دورها من هذا المنتوج البشري الفعال حتى أدركت محطة الرابع عشر من أكتوبر فمن الصنهاجيّين إلى الموحّدين ومن الحفصيّين إلى الحسيّنيين وصولا إلى البايات والمراقبين والزعيم والجنرال ..وأهل هذه البلاد يحلمون بلحظة رحلوا ولم يدركوها ، وأدركناها نحن اليوم، اختُزلت أحلامهم في حلمنا لكن بعض قومنا يصرّون على تبذير هذه اللحظة وطمس مزاياها وإخبات بريقها. إنّ كل المحاولات المشبوهة لإيجاد بدائل لخيارات الجماهير ولتمييع دور الصناديق ستكون عواقبها جدّ وخيمة، وكل الذين يجهّزون خلطات ومستحضرات بديلة للشرعيّة يجب عليهم أن يتيقنوا أنّهم بفعلتهم تلك يكونوا قد دفعوا أطرافا أخرى لتسرع بدورها في إعداد خلطاتها ومستحضراتها وإن كانت بعض النخب اعتلت منصّات الإعلام والفضاءات النقابيّة والثقافيّة وشرعت في قصف الشرعية فإنّ نخبا من نوع آخر اعتلت منصّات المنابر وشرعت في قصفهم وقصف الشرعيّة معهم، والذين سيطروا على منابع المجتمع المدني ولوّوا عنقه ثم استعملوه من أجل خلق شرعيّة بديلة مشوّهة سيواجَهون بمن يسيطر على منابع المقدّس ويلوي عنقه من أجل خلق شرعيّة تحشد لنفسها كوكبة من النصوص الموجّهة وتستعمل المقدّس لتضفي القداسة على فعلها. كل تلك الجماعات والأفراد والهياكل المسكونة بهاجس إعادة التأسيس وتحييد ثقافة وتركيب أخرى واجتثاث سلوك وزرع آخر وتقليم الهوية والتخفف من ركائزها وتأهيلها لاستقبال الغريب والشاذّ أو شحنها بجرعات ثقيلة ومركزة.. كل هؤلاء وأولئك لم يقدّروا هذا الشعب حق قدره وأسرهم الغرور حين اعتقدوا أنّ الشعب الذي شكّل ثقافته وهويته من عمق التاريخ وجمعها بهدوء عبر حقب طوال بإمكانهم اليوم تفكيك ما أنتجته القرون واستبداله بما أنتجته أذهانهم في لحظة خمره أيديولوجيّة ذات جرعات عالية وفي غفلة من أبسط أبجديات المنطق والمعقول. وحده احترام هذا الشعب سيمكّننا من إنجاز العبور وليس من بديل أمام الجميع إلا المزيد من تثمين واحترام وتبجيل إرادة الجماهير وعلى كل مكوّنات المجتمع أن تتدافع برفق من أجل الصالح العامّ وأن لا تقدّم نفسها على أنّها سفينة النجاة الوحيدة راكبها ناج وتاركها هالك ولابد من التأكيد على ثقافة الاحتكام إلى الشعب وتثبيت ذلك في العقول والقلوب والقطع النهائي مع البدائل الإلتفافيّة، فالذين أسّسوا لداء النسخ ويتسابقون اليوم لنسخ شرعية الجماهير بشرعيّة الحداثة والتنوير هم بذلك يقدّمون الذرائع على طبق من ذهب للآخر كي يستعمل فهمه للمُقدّس في نسخ الجميع. إنّ الرايات الحمراء التي تجتهد اليوم في إسقاط رايات الشعب هي من حيث لا تشعرتستفز وتستدرج وتُهيّيج راياتا خضراء داكنة تلك التي تُجمل ولا تُفصّل، تتحرك فلا تقف إلا إذا أتت على الأخضر واليابس.. يا أنتم هنا في تونسنا فتنة نائمة.. لعن الله من أيقظها.