إذا ذكر اللهو والمجون عند العرب ذكر مقترنا بعهد هارون الرشيد وإذ ا عَرض الناس للحديث عن الفجور قالوا ذهب زمن الرشيد بثلثيه ، فصار اسمه هذا الملك العظيم مقترنا في أذهان عامة الناس بالعبث والخلاعة و التبذير . وفي "مشهد " حيث يوجد مرقد الإمام الرضا نقشوا أبياتا لدعبل الخزاعي تنال من هارون نيلا قاسيا مؤلما قبران في طوس خير الناس كلهم *** وقبر شرهم هذا من العبر ما ينفع الرجس من قبر الزكي وما *** على الزكي بقرب الرجس من ضرر وتكاد الكثير من الروايات التاريخية تجرد هارون من كل فضل كأنْ لم يحكم أعظم إمبراطورية في عصره وكأنْ لم يعرف العدل والعلم والرخاء الاقتصادي سبيلا إلى دولته ، فهل كان هارون حقا رجسا كما وصفه دعبل؟ إن الغرب اليوم يعرف هارون الرشيد ، وتكاد فكرته عنه وعن الشرق برمته تتطابق مع ما جاء في حكايات " ألف ليلة وليلة " بل إن العالم الإسلامي وتاريخه العظيم يختزل في تلك الصورة النمطية المشوهة المستوحاة من كتاب "ألف ليلة وليلة ". يقول ابن طباطبا متحدثا عن الرشيد " كانت دولة الرشيد من أحسن الدول وأكثرها وقارا ورونقا وخيرا وأوسعها رقعةَ مملكة ٍ، ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء ما اجتمع على باب الرشيد … إنه من أفاضل الخلفاء وفصحائهم وعلمائهم وكرمائهم ". إن الرشيد في كتب الأدب غير الرشيد في كتب المؤرخين المحققين فالأدباء والشعراء تستهويهم الإثارة ويبحثون في ثنايا الأخبار عن النكت والطرائف فيصوغون منها مادة إبداعهم ، فلا عجب أن تحفل أخبار الرشيد عندهم بكل ما يشوه صورته ولا عجب أن يقدموه نزقا لاهيا لتُستكمل في مروياتهم وما خطته أيديهم شروط الإمتاع والمؤانسة ومثل تلك الأحاديث إن كانت تصلح للدعابة والسمر فإنها لا تصلح لكتابة تاريخ سليم، خاصة إذا انحصرت الغاية منها في التسلية ، وأما المؤرخون فتتنوع مواقفهم من هارون بحسب مواقفهم من دولته غير أن حديث المؤرخ أقرب إلى إماطة اللثام عن الحقيقة لالتزامه بسرد الوقائع الكبرى كما حدثت حتى وإن تعسف في تحليل أسبابها وتفسير نتائجها فلا ينكر مؤرخ أن دولة الرشيد كانت عظيمة مترامية الأطراف وأن بغداد في زمنه كانت قبلة للعلماء من مختلف أقطار الأرض، وأنه كان مرهوب الجانب يخطب ملوك عصره وده ويلتمسون رضاه، وأن ثروة دولته كانت ثروة طائلة فلم يتفق لذلك لأمة في عصره ما اتفق لأمته من أسباب الرخاء والعيش الكريم. وبصرف النظر عن عظمة دولته فإن المؤرخين لم يختلفوا حول الكثير من مزاياه الشخصية التي تضع الأحاديث عن مجونه وتهتكه موضع شك وريبة فالرشيد تلميذ العلامة أبي يوسف النجيب و صاحب الإمام الثوري ورفيق ابن الحسن الشيباني، وهو نفسه معدود في زمرة العلماء يناظرهم ويفتح مجالسه لسجالاتهم فيدلي بدلوه ويبسط آراءه، وهذا لا يتيسر لماجن اعتاد حياة اللهو والفجور فإن العلم لا يسلس القياد لمن ألف الدعة والخمول وهذا شأن العلم في العصور المتأخرة فكيف بشأنه أيام ابن الحسن الشيباني والثوري وغيرهما ؟ لا شك أن هارون ظلم ظلما شنيعا ومهما يكن من شأن التهويل الذي صاحب الحديث عن إغراقه في ملذاته فإن إنجازاته العظيمة تقدم صورة أخرى عن هارون غير تلك التي رسمها كتاب الأغاني وقصص جرجي زيدان والروايات الأوربية، إن هارون الرشيد لم يتوقف عن الغزو طيلة مدة حكمه فكان يغزو عاما ويحج عاما وبذلك اتسعت رقعة دولته حتى أنه كان ينظر إلى الغمامة من فوق قصره فيخاطبها قائلا "أمطري حيث شئت فسيصلني الخراج" كان هارون يقود جنوده بنفسه ويرغم خصومه من الروم على أداء الجزية وقد حدث أن اعتلى ملك قليل الخبرة بأمور السياسة عرش بلاد الروم عام 187 ه فكتب إلى هارون مهددا "إن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مكان البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثالها إليها ، لكن ذاك من ضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبلك من أموالها … وإلا فالسيف بيننا وبينك" ، كان رد هارون مختصرا قاسيا، فهو رجل أفعال لا أقوال جاء فيه " من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم …أما بعد فإن الجواب ما تراه لا ما تسمعه " وسار إليه من يومه حتى وقف بباب هرقلة عاصمته فأذله وأخذ منه الجزية ولم يلبث غير يسير من الوقت ثم عاود محاصرة هرقلة وفتحها عنوة ، ومن أعماله الجليلة أنه كان لا يترك أسيرا مسلما في بلاد الروم وكان يبذل في سبيل فكاك أسرى المسلمين الطارف والتليد ، كل ذلك أكسبه مهابة عظيمة في صفوف أعدائه ومحبة خالصة في صفوف أتباعه. وكما كان عظيما في مواجهة خصومه كان عظيما في سائر شؤونه فهو العابد المنقطع للعبادة يقول الخطيب البغدادي متحدثا عن ذلك : " حكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا "، وهو الجواد الكريم إذا ذكِر العطاء يقول الخطيب "كان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم وكان إذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم " ، وهو العالم الذي يضم مجلسه خيرة علماء عصره الحريصُ على إعلاء قيمة العلم في دولته حتى صارت بغداد في عهده عاصمة العلم التي تشرئب إليها أعناق العالمين من كل بقاع الأرض. بعد حياة حافلة بالعطاء توفي هارون الرشيد أثناء توجهه إلى طوس للغزو عام 193ه، بسبب علة ألمت به و لم ينفع معها دواء عن عمر يناهز 45عاما .