ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حريمي: هارون الرشيد ، الخليفة الفاتن

كلما فكرت في الحريم، يحلق خيالي اتجاه القرون الأولى من تاريخ الإسلام. بعد موت الرسول محمد في السنة الحادية عشرة هجرية (632 ميلادية). تعاقبت دولتان على حكم العالم الإسلامي : الأمويون (750-661) وعاصمتهم دمشق، ثم الدولة العباسية (1258-750) التي اختارت بغداد مركزا لحكمها. لا يقل، عن 51 خليفة حكموا خلال هذه الحقبة الزمانية، إلا أن الاسم الذي يقفز إلى ذهني من بينهم جميعا، هو هارون الرشيد. اسم، جعل العرب يحلمون منذ القرن التاسع IX. يتمثل أحد عوامل ذلك، في مزجه السحري بين خصائص فيزيائية وذهنية، اتصف بها : كان هارون الرشيد شابا وسيما، رياضيا، ذكيا، وأيضا مثقفا جدا له طموحات كبيرة على المستوى العسكري. تميز، بخبرة حربية وقدرة عظيمة على ممارسة شؤون الحكم. لكن، مع كل ذلك يبدو بأنه كان عاشقا كبيرا. لم يزعجه الوقوف على انكساراته حينما يتحول إلى عاشق. يمارس حبه، بنفس التوقد الذي يظهره على جبهات المعارك، ويعبر إراديا عن الأحاسيس التي تلهمها إياه عشيقاته. بل ذهب به الأمر إلى غاية الاعتراف، بأن رجلا مغرما قد يجازف بافتقاد سلطته أمام النساء. هذا الاعتراف بالضعف، يعد أحد أكبر مفاتنه. من منكم، لم يصبه رعب التحول إلى موضوع للسخرية، حينما يكشف عن حبه لامرأة، لا تبادله أي شعور. ثم، يقف بطريقة متضايقة متجمدا خلف تجاوزاته ؟ هارون الرشيد، لم يرهبه الوقوع في مثل هاته الوضعيات الحساسة.
تظهر حكاية استلهمته في كتاب "ألف ليلة وليلة"، مثل زوج تعيس خدعته وخانته جارية خائنة، قامت بإغراء أحد موسيقييه الخصوصيين كان يمر في الشارع. هكذا دعته للالتحاق بها، ولتسريع الأمور ألقت له بسلم من نافذة القصر كي يتسلق.
ولد هارون الرشيد يوم 16 فبراير 766 (146هجرية) براي Rayy، المدينة الفارسية والتي لازالت أطلالها قائمة إلى يومنا على بعد كيلومترات من جنوب طهران الحالية. وحسب كل الشهادات، كان جميلا دون أن يجعله ذلك سطحيا أو مزهوا. إنه في جميع الأحوال خليط نادر للبحر الأبيض المتوسط. مؤرخوا الحقبة أغلبهم رجال وصفوه كما يلي : "لون جلده فاتح جدا، طويل، يشع منه وقار كبير وفصاحته تبهر. كما أنه ضليع في العلوم والأدب". كان يظن بأن رشاقة الجسد تتعلق بتلك التي للفكر، وبالتالي تعهد بنمو أحدهما وكذا الآخر.
يعتبر هارون الرشيد "أول خليفة حوّل إلى معطيات جماهيرية، ألعاب البولو Polo، ومباريات الرماية بالقوس، ثم كرة المضرب، ويقدم مكافآت للمتفوقين في هاته التخصصات الشعبية. كان أول خليفة عباسي مارس لعبتي الشطرنج والنرد. ويبدي إعجابه اتجاه أمهر اللاعبين مع منحهم تعويضات. بهاء ورخاء حكمه، جسد ما يسمى في تلك الحقبة "الأيام الذهبية". لكن، لو اكتفى هارون الرشيد بكونه فقط لاعبا ممتازا في الشطرنج، فسيُنسى بسرعة كما هو حال اليوم أغلب أغنياء البلدان البترولية المنغمسون في الملذات. ذلك، ما أدركه الخليفة وهو يتوقف عن اللعب للانكباب على العمل.
تعتبر كلمة "وسط" مدخل أساسي للحضارة العربية، وهي تدل على الطريق المعتدل بين طرفين نقيضين. لقد، تعلمنا منذ الطفولة الحفاظ على التوازن بين العقل واللذة، الفكر والجسد. وعلى النقيض من المسيحية التي فصلت بشكل قاطع بينهما، من خلال التسامي بالفكر مقارنة مع الجسد، تميز الإسلام بموقفه الكوني المتوازن جدا. لم يقف هارون الرشيد، عند حدود الاعتناء بملذاته بل : "يؤدي بانتظام واجباته كحاج بالموازاة مع خوضه لحرب مقدسة. فقد شيد آبارا وصهاريج وكذا مآوي على امتداد الطريق المؤدية إلى مكة (...). عمل، على تعزيز الحدود، وتعمير كثير من الحواضر،وتحصين مدن عدة، أنجز مشاريع هندسية لا تحصى، كما شيد منازل للضيافة.
إن الحاكم الجيد، يضع مصلحة شعبه في مقدمة اهتماماته ولا يتردد في فتح خزانة ماله قصد مساعدة أصحاب الحظ السيئ : ((سنة 189 (810 ميلادية)، أدى فدية عن الأشخاص الذين وقعوا أسرى عند الرومانيين (البيزنطيين)، بحيث لم يعد لديهم أي مسلم أسير)). بل وحتى هذا لا يشفع إعادة تولية الخليفة عبر القرون، فمن الضروري أن يكون قائدا حربيا كبيرا : "سنة 190، تمثل من جديد هيرقليس فانتشرت قواته على كل الأراضي الرومانية"، تلك، معركته ضد العالم المسيحي، تحول معها إلى بطل إسلامي. لقد، ردد تلاميذة جيلي رسالته الشهيرة إلى الإمبراطور البيزنطي "نيسفور" (Nicéphore) : ((بسم الله الرحمن الرحيم، من خادم الله، هارون الرشيد، أمير المؤمنين إلى نيسفور كلب الرومان. حقا، فهمت تعابير رسائلكم ولديّ جوابكم. لن تسمعوه، ولكنكم سترونه بأعينكم". وبالفعل، سيجد "نيسفور" أمامه جيشا متحركا. يحيل موضوع هذه الرسالة على معاهدة وقعت عليها الإمبراطورة إيرين (882-797) أمّ نيسفور وذلك بعد غزو هارون لبيزنطة. سيرفض، الإمبراطور الجديد بعنف مضمون الوثيقة، فكتب إلى الخليفة : "من نيسفور ملك الرومان إلى الرشيد ملك العرب، ما يلي : هذه المرأة رفعت شأنكم وكذا أخوكم و أبوكم إلى رتبة ملك، وانحدرت هي إلى صف الرعية. أما، أنا فسأعيدكم لموضعكم وسأغزو أراضيكم ومدنكم إذا لم تسددوا ما أدته لكم هاته المرأة. الوداع". اشتد الغضب بأمير المؤمنين، بحيث قرّر قيادة جيشه بنفسه وعدم التراجع قبل تحقيق انتصار شامل : "توغل الرشيد داخل الأراضي الرومانية دون توقف. يقتل، يسلب، يغنم، يحطم،
ويقضي على الأقوياء إلى غاية وصوله الطريق الضيقة التي تفضي إلى القسطنطينية. لكنه سيكتشف بأن "نيسفور" قطع الأشجار واعترض بها الطريق ثم أشعل
النار فيها (...). بعث "نيسفور" إلى الرشيد بمجموعة هدايا واستسلم بإذلال، ثم أدى ضريبة الجزية عن نفسه وعشيرته".
لكن أيضا، لو بقي هارون الرشيد مجرد محارب، فلن يظل عالقا بالذاكرة. بل، يتجلى الأمر في قدرته على وقف المعركة والابتهاج بالحياة ثم الالتفات إلى ملذاته المرهفة والشبقية. والتي جعلت منه بطلا حقيقيا. لقد كرّس لها شبابه (كان يبلغ من العمر 21 سنة حين توليته العرش، وتوفي عن سن 42 سنة).
هذا الوجه الرومانسي لشخصيته، أخذ صورة خالدة جراء الروايات الكثيرة
التي تداولها الحكواتيون العموميون ببغداد، وهم يكتشفون باستمرار "ألف ليلة وليلة".
المرأة الأولى، التي أحبها هارون الرشيد وهو في سن السادسة عشرة، كانت ابنة عمه زبيدة، أميرة متكبرة. تم، الاحتفال بزواجهما داخل القصر الأسطوري المسمى : الخلود. يقول، ابن خلدون أحد مؤرخي الفترة الأكثر اتزانا : "لقد تقاطر الناس من كل الأمكنة. وبهذه المناسبة وُزعت مبالغ مالية لم يشهد لها الإسلام من قبل مثيلا". كثيرة هي الوثائق، التي تطرقت إلى تفاصيل شغف الرشيد بزبيدة والبذخ الذي أحاطه بها.
يروي المسعودي : " لقد كانت الأولى التي تناولت الطعام في أواني من الذهب والفضة، تزينها أحجار نفيسة. الملابس الأكثر نعومة بالنسبة إليها، تلك التي نسجت بحرير متعدد الألوان يسمى "واشي" حيث مقياس واحد يساوي 50 ألف دينار. هي، الأولى التي اصطحبتها حراسة تتكون من ذكور تعرضوا لعملية
خصاء وعبيد يصطفون بجوانبها يمتثلون لأدنى أوامرها ويطبقون إشاراتها. هي، الأولى أيضا التي استعملت محملا فضيا من الأبنوس وخشب الصندل، مع أقفال من الذهب والفضة. ابتكرت موضة النعال المزركشة بأحجار ثمينة وكذا
المصابيح ذات الإنارة الرمادية، وهي نماذج ستنتشر داخل كل البلد".
على الرغم من خيلاء زبيدة وعشقها للترف، فقد أظهرت اهتماما كبيرا بالوسط ومعطيات التمدن : بالتالي، كانت مصدر إلهام بناء الأحواض المتواجدة على الطريق الرابطة بين بغداد ومكة، من أجل تسهيل السفر إلى الحج. بخلاف،
المؤرخين العرب المعاصرين، الذين يبغضون النساء وتعميهم نزعتهم المحافظة، فإن نُظرائهم إبان العصور الوسطى، لم يجدوا أية مفارقة بين زوجة للخليفة،
بقدر ما هي جميلة ومتغنجة، تخوض أيضا في القضايا العمومية وتهتم بوقائعها الدقيقة.
تعلق هارون الرشيد، بزبيدة، لم يمنعه حينما تبوأ العرش أن يضع رهن إشارته جواري، من كل بقاع العالم : "جاء في شهادة لأحد كُتّاب الأخبار :
"توفرت للرشيد ألفي جارية بعضهن يتقنّ فن الغناء (...) لكن أغلبهن يتزينّ بالجواهر". ولأنه في هذه الحقبة، لا يمكن لمسلم أن يستعبد مسلما آخر (وهو ما لم يحدث أيضا بعد ذلك) فأغلبية الجواري قدمن من بلدان تعرضت للغزو منذ عهد قريب، وبالتالي فهي أجنبية. تبرز، مواهبهن مع ما يحملنه من أشياء غريبة وكذا خاصيتهم الثقافية. لكن، حتى تصبح الجواري مغنيات، يتحتم عليهن
الخضوع لتكوين صعب : فإلى جانب التقنيات الصوتية والآلية، يجدر بهنّ إتقان اللغة العربية وبنائها النحوي المعقد، في أفق تنافسهن مع نجمات محليات
مثل الجارية "فضل" باعتبارها النموذج الأعلى الذي يُحتذى به فهي مثال للمغنيات العربيات طيلة قرون : "كان جلدها داكنا، تمتلك معرفة أدبية واسعة (أديبة)، جارية بليغة وصاحبة مهارة رائعة على مستوى الردود السريعة". روايات أخرى، استحضرت قدرتها على تضليل محاوريها من خلال تلاعبها بالكلمات وإذهالهم بتشكلات لسانية غير متوقعة. موهبة، تقدر حتى أيامنا في الأمسيات العربية :
"تعتبر "فضل" من بين أجمل مخلوقات الله. كان خطها رائعا، وتفوقت على أقرانها بفصاحتها ما إن تتكلم، ثمن تهيئ بوضوح دلائلها حينما تنخرط في نقاش...".
باستثناء صعوبات إتقان اللغة العربية، أمام كل جارية تتوخى اقتفاء نموذج جارية محلية كما هو مثال "فضل"، فأن تكوني أجنبية في بلاط العباسيين لم
يشكل قط عائقا. بالطبع شجعت الحضارة الإسلامية التعدد ونظرت إيجابا لكل ما هو أجنبي وكافأت كل من يتكلم لغات مختلفة وتردد على ثقافات شتى. في ظل سلطة العباسيين : ((أتى العلماء والسياسيون والشعراء والمؤلفين من مناطق عديدة. هكذا نعثر إتنيا على كل الأجناس، البيض، السود وكذا الملونين. أما بخصوص الديانات، فنجد المسلمين إلى جانب اليهود والمسيحيين وكذا الصابئة والزرادشتيين. ثم، بموازاة العربية نسمع الأرمينية والفارسية والتركية. إن استثمار التباينات باعتبارها امتيازات والتعامل مع ما هو أجنبي كلحظة طارئة تتعزز معها المتعة، أعطى لبغداد هذا التنميق الكوني، الذي ضمن لها إشعاعا استمر طيلة قرون)). كتب، جمال الدين بن الشيخ : "بلغ ثمن مغنية متميزة 3000 دينار، وتحددت الأجرة السنوية لشاعر مثل ابن زيدون في 500 دينار. أما، البنّاء فيكتسب درهما واحدا في اليوم. وبدرهم، يمكننا شراء ثلاث كيلوغرامات من الرغيف".
وبقدر ما تكون الجارية مهذبة، تسعد أكثر سيدها وتزداد قيمتها. ذلك، ما حدد أهم مميزات الحريم العباسي أثناء العصر الذهبي. تجار العبيد يدركون
نمط النساء القادرات على إرضاء الخلفاء. مثلما هي حالة المأمون، ابن هارون الرشيد وخليفته " لقد سمعت تاجرا للعبيد، يقول ما يلي : أظهرت للمأمون أمَة موهوبة في نظم الشعر والبلاغة، مثقفة جدا، تتقن لعبة الشطرنج، طلبت بخصوصها 1000 دينار. فأجابني، بأنه سيدفع الثمن المطلوب بل وأكثر، إذا استطاعت الرد على قصيدة هجاء ارتجلتها جارية أخرى". كان الخليفة المأمون، يحب خاصة ممارسة لعبة
الشطرنج صحبة امرأة قبل توجهه إلى الحرب، بغية شحذ ذهنه، ومنح ذاته اهتزازت "ظنا منه بأن التباري بين لاعبين، لا يمكن أن يصير ملتهبا إلا إذا تداخلت فيه الأجساد والأنفس معا". نعرف، بالتأكيد اليوم مع كل التحاليل التي نتوفر عليها حول الإغراء المذهل للرياضة، وكذا البعد الإيروسي الذي ينطوي عليه التنافس. لكن في حقبة الخليفة المأمون، فمثل هذا المفهوم للعبة الشطرنج يمكنه أن يدهش أكثر من واحد. إن، ما يجذب الخلفاء نحو رغباتهم الشبقية، طبعا، هو استعداد المرأة للمواجهة
والمنافسة على قدم المساواة، وليس انهزامها وخضوعها القبلي. مادام، أن رباط الحب يشبه عند هؤلاء الخلفاء مجالا للصراع يشكل الارتياب قاعدته الوحيدة التي تدير الصلة بين الأطراف. يصعب إذن، تخيل هؤلاء الخلفاء المبتسمون، ينطقون كلمة "الحريم"، لكن ما يدهشنا شيئا ما، توفر العرب على مائة كلمة تعني "أحبك" بينما لا تتضمن اللغات الأخرى إلا واحدة.
في القرن الرابع عشر XIV، أخذ الكاتب ابن القيم الجوزية على عاتقه مشقة حساب عدد التعابير العربية التي تشير إلى كلمة "أحبك" ثم استجمعها في عمله : روضة المحبين.
برؤية بارعة، بين ابن القيم الجوزية أن مثل هذا التفتق ليس بالضرورة إشارة جيدة. فالعرب، حسب رأيه، لا تبذل مجهودات كثيرة إلا لتسمية الأشياء المعقدة والصعبة على التناول أو الخطيرة. على كل حال، حينما تتعدد الكلمات لتناول كل تحققات ظاهرة ما، فمن أجل تخليدها. مع ذلك، كثيرة هي الكلمات المحصية التي تحيل على الحب كسبيل إلى الخبل الذهني أو التيهان. نجد كذلك، الحديث عن القفزة في الفراغ (الهوى)(2). أيضا، اقتُرن الحب غالبا هنا بالحمق (جنون، ولع...) أو أقصى أنواع المعاناة (حُرقة، شجن...). مع ذلك، فأجمل الاكتشافات التي وقفت عليها بين طيات قائمة الجوزية والتي وجدت فيها عزاء وأعطتني أملا هي التعابير الإيجابية، وقد بينت الحب في صيغة صداقة متميزة، حيث يقودكم الود إلى الحوار (المحبة) وينسج بين الشركاء ألفة عذبة. وخاصة، حسب الجوزية، فإن الإحساس بالحب يفوق مفعولة تأثير الفياغرا Viagra (وأضيف أرخص ثمنا) لأنه يبعث فيكم القوة والطاقة.
الحب مصدر المقدرة ...، إن مفهوم مألوف لدى الروحيين ولاسيما المتصوفة. لكن أيضا، النسبة لنا جميعا أصحاب التطلعات الروحية المتواضعة جدا.
وفق تصور ابن حزم، رجل سياسة وخبير في القانون الإسلامي خلال القرن الحادي عشر XI، والذي كرس دراسة لأسرار العواطف، فإن الحب يعمل على تحويلكم إلى درجة أن يدهشكم ذلك حقا : "إن رجلا عاشقا، سيبلور إمكانياته حتى أقصى الحدود، وبشكل لم يكن يتصوره قبل ذلك (...) في أفق أن يبدو ملائما وتتوجه الرغبة إليه". ثم، يتابع : "كم هي المرات التي نشاهد فيها بخيلا يفتح كيس نقوده، والشرس يبسط حواجبه، والجبان يسرع للمعركة، والأحمق يبيح بكلمة عاقلة، والفظ يتصرف كإنسان نبيل، ثم رث الثياب هو يتقمص دور المتأنقين، والأخرق يصبح دقيقا، والشيخ يستعيد فتوته، أما الورع فيصير سافلا، والخجول يستعرض ذاته، كل تلك الأشياء تحدث بالحب !". ينقلك الحب إلى ما وراء حدودك، نحو آفاق لم تفكر فيها قط. كثيرة، هي كلمات ابن القيم الجوزية التي وصفت الحب باعتباره هياما، خطوة إلى المجهول، مغامرة في أرض غريبة. وكما، أن المغامرة مجازفة بالنسبة للجميع، فالأمر يزداد حدة عند الخليفة : لذلك، فإن هارون الرشيد لم يفسح المجال للصدفة كي تصنع له غرامياته. لأنها منظمة ومصممة مثلها مثل المعارك. من أجل اختراق عالم الأحاسيس العاشقة دون تعذيب ولا اضطراب، يجب أن نستبقي للذة منطقة زمان استثنائي، ونتهيأ لها كما نحضر لحفل ديني. لكن، إدراج اللذة في إطار برنامجه المقدس، لا يعني زحلقة يوما أو يومين للراحة أيام سفر مثقل بالأعمال. على النقيض، الأمر يعني فقط تغييرا للأوليات، التخطيط لأسبوعين قصد الاستجمام وربطها عند الاقتضاء بسفر الأعمال. ذلك، ما استوعبته على الأقل، وأنا أدرس كيف كان هارون الرشيد يرتب مجلسه، "لحظة متعته".
الهوامش :
(1) Fatéma Mernissi : le Harem Européen, éditions, le Fennec, 2003, PP 135/146.
(2) يقابله في الإنجليزية fall in love، أما مع الفرنسية فنجد تعبير "Tomber amoureux".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.