-1- منذ خمسة عشر قرنا حتى الآن، والعرب ما زالوا يحكمون بنير الطغاة والعتاة. لم تضأ السماء العربية بالحق والعدل والحرية إلا في سنوات متقطعة، تقطع المطر في الصحراء العربية الشاسعة. كان التاريخ السياسي العربي أجدب، قاحلا، ماحلا من العدل والحق والحرية، مليئا بالظلم، والطغيان، والسرقات، والعدوان. ولم يكن فيه غير تلك الواحات ”العمرية“ الصغيرة المتباعدة من الحق والعدل، والتي جاءت رياح طغيان واستبداد الصحراء العربية المترامية العاتية فطمرتها، وساد ”الطوز“ (رمال الصحراء التي تهب في بداية الصيف) الديكتاتوري العاتي العرب زمنا طويلا، فتحولت الخلافة الكلاسيكية المطلقة المدعمة ب”الحق الإلهي“ وبنظرية ”الجبر“ التي جاء بها الأمويون إلى النظام الديكتاتوري العربي العاتي الآن، بكافة صوره الحزبية والعسكرية والقبلية. فما هي أوجه الشبه بين ماضي الخلافة الكلاسيكية ذات الحكم المطلق، وبين الديكتاتورية العربية القائمة الآن بكافة صورها الثلاث : الحزبية والعسكرية والقبلية ؟ -2- كانت الخلافة الكلاسيكية تعني الحكم المطلق. فالخليفة الكلاسيكي كان يمسك بالسلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومن هنا جاء الاستبداد والظلم الذي كان يقويه السلطان والمال في الوقت نفسه. وكان الخليفة هو ”ظل الله على الأرض“ كما قال الخليفة المنصور، وهو الأمين على بيت المال الذي هو مال الله، باعتباره ظل الله وخليفة رسول الله، كما قال معاوية بن أبي سفيان. والخليفة المعاصر، الآن يفعل الشيء ذاته. بيده السلطات الثلاث، وإن بدت هذه السلطات - ظاهريا - مستقلة ومنفصلة عن الخليفة، ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، وإنما كلها بيد الخليفة المعاصر. وما انتشار الاستبداد الحالي في العالم العربي إلا نتيجة لذلك. وفي هذا يقول السيد العلوي عن الخلافة المعاصرة في كتابه (أضرار الحكم القبلي في دول الخليج العربية، 2003) ”لقد اعتمدت الديكتاتوريات على مر التاريخ على فلسفات واهية لتبرير احتكارها للسلطة وحرمان الآخرين، كالحق الإلهي في الحكم، وكحق الأسرة والسلالة. في القرون الغابرة وفي القرون المتأخرة، تنامت فلسفة المجموعة الطليعية والريادية التي تقود الأمة ولو بالقهر إلى تطورها المأمول على مختلف الأصعدة. ونشأت على ضوئها الدول الشمولية، وتحورت في شكل سياسي عبرت عنه بوضوح دول الحزب الواحد. وقد حاولت مختلف هذه الصور التلبس بالدين عندما ترى احتياجا لذلك، فتوظيف الأحاديث والمفاهيم الدينية من أجل تبرير وصولها إلى إسقاط والسلطة واحتكارها لها. إلا أن أقبح الفلسفات في نظري هي فلسفة الحق الإلهي في الحكم المنحصر في شخص بعينه أو أسرة بعينها اعتمادا على جدلية كاذبة، تتمحور حول ادعاء أن الله تعالى خص هذه الأسرة بالحكم والسيطرة على القرار، وأن باقي الأسر أو التشكيلات أو الأمة بأسرها عليها التسليم والرضي بذلك، ولا يجوز لها العمل على تغيير هذه الرغبة الإلهية“. -3- لو دققنا الفكر في معنى الرشد الذي أطلق على عهد الراشدي (632-661م) لوجدنا أن الرشد كان يعني ”الحرية دون إكراه“. أي عدم إكراه الناس على الإيمان، وعدم فرض الايدولوجيا الإسلامية فرضا على الناس. أي لا إكراه في الدين، ولا في السياسة أيضا. والدين في الحضارة العربية سياسة، والسياسة هي الدين. فالإسلام ليس دينا أولا ثم دولة ثانيا، ولكنه دين سياسي أولا وآخرا. والإسلام دولة أولا، ثم دين ثانيا. والدليل أن أول عمل قام به الرسول بعد هجرته إلى المدينة، أن أقام ”دولة المدينة“ قبل أن يبدأ بنشر الدين فيها، وأشرك في هذه الدولة العرب المسلمين، والعرب الكفار، واليهود أيضا. لقد حقق الرسول بذلك، أول دولة علمانية في تاريخ العرب، وهي ”الدولة اللادينية“ المكونة من مسلمين وكفار ويهود. فكانت أول دولة في الإسلام ”دولة سياسية“، وليست ”دولة دينية“. والفتوحات الاسلامية التي تمت بعد ذلك، جاءت من هذا المنطلق السياسي، وليس الديني. وهي فتوحات عسكرية سياسية بكل المقاييس، أكثر منها فتوحات دينية. وتلك واحدة من أهم مبادئ الديمقراطية الإنسانية، وهي إتاحة الحرية للفرد لكي يؤمن بما يشاء ويكفر بما يشاء، حيث ”لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي“ (البقرة، 256/2). إذن، فقد كانت الديمقراطية تعني الرشد في جزء من العهد الراشدي. وبدلا من أن يطلق على عهد الراشدين، العهد ”الديمقراطي“، أطلق عليه العهد ”الراشدي“. علما بأن حروب الردة التي قام بها أبو بكر خلال العامين من حكمه، ولم يكن بعض الصحابة مؤيدين لها، ومنهم عمر بن الخطاب، أنقصت من التطبيق الديمقراطي بمعنى الرشد. ولعل عهد عمر بن الخطاب (634-644م) هو العهد الوحيد الذي يتسم بالرشاد (الديمقراطية) أكثر من أي عهد راشدي (ديمقراطي) آخر. وبعد العهد الراشدي لم يكن هناك رشاد (ديمقراطية)، وامتد عهد الغي (الديكتاتورية العائلية والقبلية) منذ عهد معاوية بن أبي سفيان إلى الآن، باستثناء واحة الحرية والديمقراطية التي أتاحها لمدة سنتين حكم الخليفة الأموي الثامن، عمر بن عبد العزيز (717-720م). لقد قال مفكرون إسلاميون مستنيرون كالمفكر السوري جودت سعيد في كتابه (الإسلام والغرب والديمقراطية)، ص152) من أن ”في المسلمين الآن عجزا ديمقراطيا حقيقيا يفقأ العين. فهم في الحاضر برفضهم للديمقراطية واعتبارها كفرا، إنما يلجأون إلى الغي من دون الرشد لحماية الإيمان الخرافي الذي هم فيه. والسبب أن في المسلمين الآن جهلا وظلاما واختلاطا، ليس في الشباب المتحمس غلى درجة الانتحار فحسب، وإنما في أشياخ الدين الذين ينتحرون بالبرودة والعجز عن الفهم والخوف من الرشد والاحتماء بالغي“. -4- لقد حاولت الفرق الإسلامية السياسية الكلاسيكية كالخوارج والمعتزلة وغيرهما طرح تصور مثالي للخلافة، لم يؤخذ به في العصور الخلافية الكلاسيكية. بل إن ما حدث هو عكس ذلك، حيث تمت مطاردة هذه الفرق، واضطهادها، واعتبارها فرقا معارضة للنظم السياسية، يجب القضاء عليها. وما حصل في الخلافة في العصر الحديث هو نفسه. فقد حاولت فرق إسلامية سياسية معاصرة كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وغيرهما طرح مفهوم الخلافة الإسلامية للتطبيق السياسي الفعلي كبديل للديمقراطية الغربية المطبق جزء صغير منها في العالم العربي للتزويق السياسي فقط، ولكنها فشلت في ذلك وتم اعتبارها من الفئات المعارضة والخارجة على القانون ونظام الدولة. ومن هنا يتبين لنا أن الخلافتين الكلاسيكية والمعاصرة لم يتم تطبيقهما كما ترى وتريد الأحزاب السياسية الإسلامية، ولكن كما يريد الحاكم، وبما يتماشى مع مصالحه الشخصية، وبما يضمن له ولأسرته طول الحكم، وصونه. -5- كانت حقوق المرأة في العلم والتعليم مغيبة في الخلافة الإسلامية الكلاسيكية. فلم يتم تعيين المرأة في منصب حكومي رفيع إلا في عهد عمر بن الخطاب الذي ولى امرأة (الشفاء بنت عبد الله العدوية) شؤون ”حسبة السوق“ في مكة، وهو ضرب من الولاية العامة، كما يقول الإمام ابن حزم في (المحلى). كما كانت أم سلمة زوجة الرسول مستشارة للأمن القومي الرسولي، وهي التي أشارت على الرسول بعقد (صلح الحديبية) المشهور، رغم معارضة أصحابه. وكانت حفصة بنت عمر بن الخطاب مستشارة الخليفة ابن الخطاب لشؤون المرأة. وبعد هذا العهد، لم نسمع للمرأة شأنا في دولة الخلافة الكلاسيكية، وكرست المرأة للخلف والعلف فقط، وإن كانت المرأة العربية قد لعبت دورا مهما في الفرق السياسية الإسلامية المعرضة، كفرقة الخوارج، كما لعبت دورا مهما في الأدب العربي. وحين جاءت الخلافة العثمانية، لم نسمع صوتا للمرأة التي اقتصر دورها داخل أسوار القصور على الخلف والعلف، ونشأ مصطلح ”الحريم“ العثماني الذي كان يعني الجواري والسراري التابعات للسلطان العثماني. وبلغت المرأة في الخلافة العثمانية أدنى وأحط درجات الإنسانية والعلم والعمل. وفي الخلافة المعاصرة، لم يتحسن وضع المرأة كثيرا حتى الآن. وما زالت في كثير من البلدان العربية لا تتمتع بأي حقوق سياسية أو اجتماعية، ولا تمارس الأعمال التي يقوم بها الرجال سواء بسواء. كما حُرمت من التعليم، وبلغ عدد النساء الأميات في العالم العربي أكثر من ستين مليون امرأة، حسب تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية لعام 2002. وهذا كاف لوضع المرأة العربية في قاع العالم، وفي أسفل السلم، كما أشار التقرير المذكور. -6- ما زال موضوع الشورى والخلاف عليه في الخلافة المعاصرة، هو كما كان عليه في الخلافة الكلاسيكية. فقد انقسم الفقهاء الكلاسيكيون فيما بينهم حول هذا الموضوع. فمنهم من اعتبر الشورى ملزمة للخليفة، ومنهم من اعتبرها مُعلّمة، للحاكم ان يأخذ بها أو يدعها. وفي الخلافة المعاصرة الآن، ما زال هذا الخلاف مستعرا. ففريق كالشيخ خالد محمد خالد ومحمد الغزالي وغيرهما يقولون بوجوب إلزام الخليفة بالشورى، وبما تشير. وفريق آخر كالشيخ عبد العزيز بن باز الشعراوي والقرضاوي ومعظم شيوخ المؤسسة الدينية الرسمية التابعة للدولة، يقولون بان الشورى مُعلّمة وليست مُلزمة. ويبدو أن العرب والمسلمين لم يحسموا أمرهم في قضية الشورى بعد، هل هي مُلزمة أو مُعلّمة، منذ عهد معاوية بن أبي سفيان حتى الآن ! -7- كان علماء الدين في الخلافة الكلاسيكية هم أصحاب القرار الفعليين، وهم الذين يستشارون فقط من دون بقية الشعب وفئاته الأخرى. وكان هؤلاء العلماء والفقهاء هم الذين يحتكرون ”الاجتهاد“ وتفسير الدين، بالطريقة التي يرون أن الحاكم سوف يرضى عن هذا التفسير المريح له ولحكمه. وكانت تفسيرات هؤلاء العلماء والفقهاء، ترفع فورا للحاكم، دون أن يكون للشعب رأي فيها. وللخليفة الكلاسيكي أو العصري أن يسمح بالاجتهاد الديني أو يغلقه، كما فعل آخر خلفاء بني العباس، أبو احمد بن عبد الله المستعصم بالله (1242-1258م) الذي أوقف ”الاجتهاد“، وما زال ”الاجتهاد“ موقوفا حتى الآن في الخلافة المعصرة، عملا بقاعدة ”ما أغلقه السلف لا يفتحه الخلف“. وفي الخلافة المعاصرة، يتم العمل ذاته، ولعل كثيرا من المشاهد التلفزيونية تذكرنا بهذه الصورة الكلاسيكية لأهمية ورفعة مقام الفقهاء والعلماء من رجال الدين فقط، وهم يحيطون بالحاكم. وفي الدول ذات النظام الجمهوري، أو ذات النظام الملكي المتقدم قليلا، يبقى علماء الدين والفقهاء يعملون من وراء الستار، دون أن يظهروا جليا على سطح الحياة السياسية. ولا يقدمون الفتاوي الشرعية اللازمة إلا إذا كلب منهم ذلك. وكما كان الفقهاء وعلماء الدين يُعينون من قبل الحاكم في الخلافة الكلاسيكية، فكذلك يتم الأمر الآن في الخلافة المعاصرة. -8- كان العلماء والفقهاء في الخلافة الكلاسيكية يُطلقون على الخليفة ألقابا دينية تبجيلية تقديسية كثيرة، لكي يلقوا خوف الهيبة ورعبها في قلب الشعب. فكانوا يطلقون على الخليفة ألقابا مثل : أمير المؤمنين، خليفة رسول الله، خليفة الله على أرضه، المنصور، المعتصم بالله، الواثق بالله، المعتمد بالله، المعتز بالله، المهتدي بالله، المعتمد على الله، المعتضد بالله، المكتفي بالله، المقتدر بالله، القاهر بالله، الراضي بالله، المتقي لله، المستكفي بالله، المطيع لله، الطائع لله، القادر بأمر الله، القائم بأمر الله، المستظهر بالله، المسترشد بالله، الراشد بالله، المقتفي لأمر الله، المستنجد بالله، الناصر لدين الله، الظاهر بأمر الله، المنتصر بالله، المعتصم بالله.. الخ. كذلك فقد أطلق العلماء والفقهاء على الخلفاء المعاصرين ألقابا شبيهة منها دينية ومنها قومية كخادم الحرمين الشريفين الذي كان أول من أطلقه العثمانيون، الإمام، السلطان، صاحب الجلالة، صاحب الفخامة، صاحب السيادة، صاحب السمو، أمين القومية العربية، الخلد الذكر، بكل القومية العربية، بطل التحرير، الأب، القائد، الضرورة، الحارس، قائد المسيرة، المنقذ، بطل القادسية، المهيب، الزعيم، رافع لواء الإسلام، رافع لواء العروبة.. الخ. -9- كانت الخلافة الكلاسيكية في حكمها وفي أحكامها متناقضة مع نفسها. ففي حين كانت تدعي أنها تحكم باسم الإسلام وباسم العدالة الإسلامية، كانت ظالمة لشعبها ورعاياها. وفي حين أن الخليفة الكلاسيكي، كان هو المؤتمن على مال الله كما كان يدعي كان هو السارق والناهب الأكبر لبيت المال، دون حساب أو عقاب. وفي حين أن الخليفة كان هو المؤتمن على دين الله، فقد كان معظم الأحيان هو الخارق، وهو المخالف لتعاليم الله في شتى نواحي الحياة. والخليفة المعاصر الآن، يقع في تناقضات كثيرة، إضافة للتناقضات التي كان يقع فيها الخليفة الكلاسيكي. فمن تناقضات الخلافة المعصرة الآن، إنها تجيز الربا بالقانون وتمنع الخمر بالقانون. وكلا الربا والخمر محرمان شرعا. فكيف يتفق هذا مع ذاك ؟ ومن تناقضات الخلافة المعاصرة الآن، أنها تبيح العمل للبنوك الإسلامية التي هي ربوية في حقيقتها، حيث أنها تتعامل مع النظام البنكي العالمي الربوي، وتودع أرصدتها في هذه البنوك العالمية الربوية، فيختلط الحلال بالحرام، حسب شرائع ”إسلام الفقهاء“ القديم والجديد. -10- كان المال الخاص للخليفة الكلاسيكي مختلطا بالمال العام. وكان ”بيت المال“ هو صندوق الخليفة. ولا يعلم أحد كم يصرف الخليفة وكم من الأموال ينهب من ”بيت المال“. وكان راتب الخليفة ومصروفاته هو وعائلته من أسرار الدولة التي لا يعرفها أحد سواه. والخليفة في الخلافة المعاصرة يفعل الشيء ذاته. فمن من يعلم رواتب الملوك ورؤساء الجمهوريات العرب، وكم هي مصروفاتهم السنوية هو وعائلاتهم. وكما كان الخلفاء في الماضي لا يؤدون الزكاة، ولا أي ضريبة أخرى، فكذلك يفعل خلفاؤنا في العصر الحديث. فلا أحد منهم يدفع ضريبة أو زكاة للخزينة العامة، كما قال السيد العلوي في كتابه (أضرار الحكم القبلي في دول الخليج العربية، 2003). ولقد ربطت الخلافة الكلاسيكية بين المال وبين الدين. واعتبرت أن حكّمها في المال العام (بيت المال) هو أساس حفظ كيانها السياسي الديني. لذا، فقد كان الخليفة دائما هو وزير المالية الإسلامي الحقيقي (أمين بيت المال) ولا رقابة عليه مطلقا فيما يقبض، وفيما يدفع. كذلك كان الأمر الآن بالنسبة للخلافة المعاصرة. فالخليفة المعاصر في العالم العربي هو وزير المالية الحقيقي، رغم وجود وزير مالية آخر، هو عبارة عن محاسب وظيفته التدوين فقط، والبصم فقط، وليس المحاسبة الفعلية عمّا يدخل وعمّا يخرج من أموال. ولا أحد يعلم كم هو المصروف السنوي للخليفة المعاصر. على عكس الدول الديمقراطية الغربية التي تعلن عن راتب الحاكم ومصاريفه، كما تعلن عن دفعه للضرائب المتوجبة عليه، بإظهار صورة سند دفع الضريبة المتوجبة عليه في الصحافة علنا، لكي يكون المثال الصالح للجميع.