حينما قال هارون الرشيد قولته الشهيرة وهو متكئ على جنبه حيث كانت سحابة في السماء تسير «اذهبي حيث شئت، فسوف يأتيني خراجك»، كان ذلك يعني أن هذا الخليفة العباسي الذي ورث «عرش» جعفر المنصور، قادر على بسط نفوذه وسلطته في أرجاء العالم. ولذلك استطاعت دولة بني العباس أن تمتد إلى أوروبا وآسيا، بعد أن وضع هارون الرشيد نصب عينيه توسيع الدولة الإسلامية التي تركها الأمويون ووصلوا بها إلى الأندلس غربا. ولا غرابة أن يقال عن هارون الرشيد إنه «كان يحج عاما ويغزو عاما». كما كتب عنه أحمد بن خلكان في كتابه وفيات الأعيان: «كان من أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك. ذا حج وجهاد، وغزو وشجاعة ورأي» غير أن وجه الرشيد هذا كرجل حرب وسلطة، ثم كرجل تقوى ودين، لا يستقيم أمام الروايات التي جعلت منه أسطورة قوامها حياة البذخ واللهو وعشق النساء، لدرجة أن هذه الصورة أضحت أقوى وأكبر من كل الصور الأخرى التي عرف بها هذا الخليفة، وتلك التي تحدث عنها ثقات المؤرخين من الطبري والمسعودي وابن خلكان، أو ما كتبه الجاحظ أو ابن عبد ربه. لذلك يعتبر الكثير من الدارسين أن صور المبالغة في رسم هارون الرشيد، كانت تشبه في الكثير من الحالات حكايات ألف ليلة وليلة الغرائبية. بين صور عشقه لجواريه وندمائه، وبين ورعه وتقواه، لا يزال الخليفة العباسي هارون الرشيد يملأ الدنيا ويشغل الناس. ولا غرابة أن مظاهر البذخ وعشق النساء لا تزال تلتصق باسمه حتى في عصرنا الحالي، على الرغم من أن الأمر لم يكن غريبا على مجتمع حداثي وقتها، كما هو المجتمع العربي على عهد بني العباس. قيل إنه كان يتوفر على أكثر من ثلاثة آلاف جارية سباها جيشه من مختلف بقاع العالم. غير أن عشقه لم يكن إلا مع زوجته زبيدة، التي سيكون لها شأن كبير في الحياة السياسية، تماما كما هو شأن والدته الخيزران. لكن هذا لم يمنع الرشيد، كغيره من الخلفاء، من الظفر بأكثر من جارية ظلت تملأ قصره الفسيح. ولعل من أشهرهن كانت «خالصة» حيث ظل يقضي بصحبتها وقتا كثيرا. وفي إحدى المناسبات زاره شاعره وجليسه أبو نواس في قصره، وقال للحاجب: قل للخليفة إنني أريد مقابلته. فذهب الحاجب للخليفة الذي كان وقتها عند «خالصة» وأخبره، ولم يخرج الخليفة لمقابلة شاعره. فقال أبو نواس للحاجب أخبر الخليفة أنني عند الباب أريد مقابلته. فدخل الحاجب مرة أخرى وقال للخليفة، ولكن هارون الرشيد لم يخرج، فتألم أبو نواس وخرج وكتب على سور القصر لقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع عقد على خالصة وحينما علم الخليفة بهذا، أمر الحرس أن يحضروا أبا نواس. لكن عندما مروا على السور، قام أبو نواس بتعديل بسيط يعلى البيت ثم دخل. فقال له الخليفة : إنك قد أسأت للخليفة ولخالصة، ويجب أن تنال عقابك. فقال أبو نواس : حاش لله أن أسيء إليك أو إلى خالصة، بل أثنيت عليكما. وإذا لم تصدق فاقرأ البيت بنفسك. فلما قرأ هارون الرشيد البيت وجده : لقد ضاء شعري على بابكم كما ضاء عقد على خالصة ضحك هارون وأمر له بعطاء. فقال الحرس : يا مولاي إنه غير في البيت حين أتاك. فقال هارون أنا لم أكافئه إلا لأنه هو الذي غير في البيت .لقد مسح أبو نواس الجزء السفلي من حرف «ع» في كلمة ضاع ليصبح «ضاء». ومن أشهر جواري الرشيد ماردة، أم ابنه المعتصم، ودنانير، وهيلانة اليونانية، التي حزن عليها حزنا كبيرا حينما ماتت وقال فيها شعرا منه أف للدنيا وللزينة فيها والإناث إذ حثا الترب على هيلانة في الحفرة حاث كما أن أمه خيزران، كانت من قبل جارية لأبيه جعفر المنصور الذي أعجب بها وتزوجها. ولا غرابة في قصر كبير كان يقيم فيه الخليفة قيل إنه كان أشبه بمدينة يطلق عليه «قصر الخلد» كان قد بناه جده جعفر المنصور في غرب نهر دجلة. وبهذا القصر أجنحة خاصة منها واحد لأمه الخيزران، وآخر لأختيه علية، التي كانت تعرف بقرضها للشعر، والعباسية التي أحبت القائد جعفر البرمكي. ولأن لهذا العالم من الجواري نظامه الخاص، فقد عرف عن هارون الرشيد أنه أعطاه ما يكفي من العناية والاهتمام، خصوصا وأن أغلب كتب التاريخ تتحدث عن رقم يفوق الألف جارية من مختلف الأجناس كانت تحت تصرف الخليفة. لقد روت كتب التاريخ كيف أنه كان يملك ألفين من الجواري، منهن 300 جارية للغناء والطرب فقط. وفي إحدى المناسبات طرب هارون الرشيد من عذوبة صوت المغني، فألقى على الحاضرين 6 ملايين درهم. وفي مناسبة أخرى، أعجب بصوت المغني، فعينه واليا على مصر. خلف هذه الصورة، التي تكاد تصبح نمطية عن هارون الرشيد، تختفي صورة القائد والخليفة. لقد كانت سفارة «شارلمان» ملك الفرنجة من أشهر السفارات التي ترتبط بعلاقة خاصة مع الخلافة العباسية. وفي إحدى المناسبات، جاءت لتوثيق العلاقة بين الدولتين. فأحسن الرشيد استقبال الوفد، وأرسل معهم عند عودتهم هدايا قيمة، كانت تتألف من حيوانات نادرة، منها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، وساعة كبيرة من البرونز المطلي بالذهب مصنوعة في بغداد. وحينما تدق ساعة الظهيرة، يخرج منها اثنا عشر فارسا من اثنتي عشرة نافذة تغلق من خلفها. وقد تملك العجب شارلمان وحاشيته من رؤية هذه الساعة العجيبة، وظنوها من أمور السحر. كما تختفي صورة الورع والتقوى والإيمان، لخليفة عباسي قيل إنه كان يغزو عاما ويحج عاما. وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ: «يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة. فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به. تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، ووطئه للناس توطئة». قال مالك: «فو الله لقد علمني التصنيف يومئذ. ظل يحترم العلماء ويجلهم. وفي ذلك حكايته مع أبو معاوية الضرير الذي قال: استدعاني الرشيد إليه ليسمع مني الحديث. فما ذكرت عنده حديثا إلا قال: صلى الله عليه وسلم على سيدي. وإذا سمع فيه موعظة، بكى. فأكلت عنده يوما، ثم قمت لأغسل يدي، فصب الماء علي وأنا لا أراه . ثم قال يا أبا معاوية: أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا. قال: يصب عليك أمير المؤمنين. قال: أبو معاوية فدعوت له. فقال الخليفة: إنما أردت تعظيم العلم. وقد كتب السيوطي وغيره أن هارون الرشيد كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة، إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة . وكان يحب أهل العلم، ويعظم حرمات الإسلام، وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه سيما إذا وعظ. وقال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان عظني قال: «لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف». كما عرف عنه أنه كان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم. وقال له ابن السماك يوما: «إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك. فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، والوقوف بين الجنة والنار حين يؤخذ بالكَظَم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبة تقبل ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال». فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته. فقال يحيى بن خالد له : يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة. قال الفضيل: استدعاني الرشيد يوما وقد زخرف منازله وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها، ثم استدعى أبا العتاهية فقال له «صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم» فقال: عش ما بدا لك سالما في ظل شاهقة القصور تسعى عليك بما اشتهيت من الرواح إلى البكور فإذا النفوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنا ما كنت إلا في غرور قال فبكى الرشيد بكاء شديدا، فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال له الرشيد، «دعه فإنه رآنا في عمى فكره، أن يزيدنا عمى». ولما آذن هارون بالرحيل، أمر بحفر قبره في حياته، وحمل حتى نظر إليه. فجعل يقول: «إلى هنا تصير يا ابن آدم» وهو يبكي. ثم أمر أن يوسع عند صدره، وأن يمد من عند رجليه. أما الشاعر الذي رثاه فلم يجد من قول غير أن يردد : غربت في الشرق شمس فلها عيني تدمع ما رأينا قط شمسا غربت من حيث تطلع .