قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... كان للرشيد جارية سوداء اسمها «خالصة»، ومرة، دخل أبو نواس على الرشيد ومدحه بأبيات بليغة، وكانت الجارية جالسة عنده، وعليها من الجواهر والدرر ما يُذهِل الأبصار، فلم يلتفت الرشيد إليه. فغضب أبو نواس، وكتب لدى خروجه، على باب الرشيد: -لقد ضاع شعري على بابكم -كما ضاع در على خالصة... ولما وصل الخبر إلى الرشيد، حنق وأرسل في طلبه. وعند دخوله من الباب، محا تجويف العين من لفظتي «ضاع» فأصبحت «ضاء». ثم مثل أمام الرشيد. فقال له: «ماذا كتبت على الباب؟» فقال: «لقد ضاء شعري على بابكم -كما ضاء در على خالصة»... فأعجب الرشيد بذلك وأجازه. فقال أحد الحاضرين: هذا شعر قلعت عيناه فأبصر...
هارون الرشيد والمرأة البرمكية حُكِي أن امرأة دخلت على هارون الرشيد وعنده جماعه من وجوه أصحابه فقالت: «يا أمير المؤمنين، أقر الله عينك وفرحك بما أعطاك، لقد حكمت فقسطت»، فقال: «من تكونين أيتها المرأة؟» فقالت: «من آل برمك، ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم»، فقال: «أما الرجال فقد مضى فيهم قضاء الله وأما المال فمردود إليك»، ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه وقال: «أتدرون ما قالت هذه المرأة؟» فقالوا: «ما نراها قالت إلا خيرا»، قال: «ما أظنكم فهمتم ذلك، أما قولها أقر الله عينك، أي أسكتها عن الحركة، وإذا سكتت العين عن الحركة، عميت.. وأما قولها وفرحك الله بما أعطاك، فأخذته من قوله تعالى: «حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة»، وأما قولها: «حكمت فقسطت، فأخذته من قوله تعالى: «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا»!... هارون الرشيد ونكبة البرامكة من المعروف أنه كان للبرامكة منزلة عاليه واستحوذوا على الكثير من المناصب في الدولة العباسية وكان لهم حضور كبير في بلاط هارون الرشيد، الذي أرضعته زوجة يحيى بن خالد البرمكي، الذي حفظ لهارون الرشيد ولاية العهد، بعد أن أراد الخليفة الهادي خلع هارون الرشيد، وتولى يحيى البرمكي تربية الرشيد، فأصبح أخا (بالرضاعة) لابنها الفضل بن يحيى البرمكي، الذي حظي بمكانة خاصة عند الرشيد، ويُحكى أن هارون الرشيد والفضل كانا يستجمان في حديقة للأشجار المثمرة، فرأى هارون الرشيد تفاحة فاشتهاها، فدل الفضل عليها، فبدآ يقفزان على الشجرة ليصلا إليها لكنهما عجزا عن قطفها، فجاءت الفضلَ فكرة أن يعتلي ظهر الرشيد ليقطف التفاحة، وهذا ما كان، وبينما هما كذلك، رآهما رجل من آل برمك... وبعد أيام، طلب الرجل مقابلة الرشيد، وقال: «هل لي بطلبين يا أمير المؤمنين؟»، فقال: «آتِ ما عندك»، قال: «أما الطلب الأول هو ألا تعتبرني منذ الآن من البرامكة، فأنا أتبرأ منهم، وأما الثاني فهو ألا تسألني لماذا طلبت منك ما طلبت»، فقال له هارون الرشيد: «لك ما تريد».. ولما تعاظم نفوذ البرامكة وقرر التخلص منهم، ألقى القبض على جميع أفراد العائلة البرمكية وصادر أموالهم وممتلكاتهم وشرد بعضهم وقتل البعض، بينما دخل الكثيرون منهم إلى السجون، فتذكر الرشيد الرجل الذي تبرأ قبل النكبة من البرامكة، فاستدعاه لمعرفة سره، فقال الرجل: «إنه منذ أن رأيت الفضل ممتطيا ظهرك في حديقة التفاح، أيقنت أن نهاية البرامكة قد أوشكت، فتبرأت منهم»، فعفا عنه الرشيد، وكان الوحيد الذي نجا من البرامكة. منزلة جعفر البرمكي عند الرشيد عن مكانة جعفر البرمكي عند الرشيد ما حكاه ابن المهدي، عم الرشيد، وهو إبراهيم المعروف بابن شكلة، وكانت شكلة أمة سوداء، وقد ذكر أن إبراهيم كان أسود، شديد السواد، وكان من الطبقة العليا في صنعة العود قال: «قال لي جعفريوما: يا إبراهيم، إذا كان غد فأبكر إلي. فلما كان الغد مشيت إليه بكرة، فجلسنا نتحدث. فلما ارتفع النهار، أحضر حجاما فحجمنا، ثم قدم لنا الطعام فطعمنا ثم خلع علينا ثياب المنادمة، وقال جعفر لخادمه: لا يدخل علينا أحد إلا عبد الملك القهرماني. فنسي الحاجب ما قال فجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي، وكان رجلا من بني هاشم، ذا ملاحة وعلم وحِلم وجلالة قدر وفخامة ذكر وصيانة وديانة، فظن الحاجب أنه الذي أمره بإدخاله عليهما، فلما رآه جعفر تغير لونه ورآهم عبد الملك بن صالح على تلك الحالة، وظهر له أنهم احتشموه، فأراد أن يرفع خجله وخجلهم بمشاركته لهم في فعلهم فقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم. فجاءه الخادم فطرح عليه ثياب المنادمة، ثم جلس للشراب، فلما بلغ ثلاثا قال للساقي: لتخفف عني فإني ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر فقال له: هل من حاجة تبلغها مقدرتي فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إن أمير المؤمنين علي غاضب، فسله الرضا عني. قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين. قال: علي أربعة آلاف دينار. قال: هي لك حاضرة من مال أمير المؤمنين. قال: وابني إبراهيم أريد أن أشد ظهره بصهر من أمير المؤمنين. قال: قد زوجه أمير المؤمنين بابنته عائشة. قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: نعم، قد ولاه أمير المؤمنين مصر. قال إبراهيم بن المهدي، فانصرف عبد الملك بن صالح وأنا أتعجب من إقدام جعفر على قضاء الحوائج من غير استئذان. فلما كان من الغد، وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر فلم نلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمد بن واسع وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد له النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك وكتب سجل إبراهيم على مصر. فما كان من الرشيد إلا أن قال لجعفر أحسنت. وخرج إبراهيم واليا على مصر من يومه. الرشيد وذقن أبي نواس يحكى أن الرشيد قال لأبي نواس: «بعني ذقنك؟» قال: «بكم؟» قال: «بألف دينار». قال: «بعتك». فقال الرشيد لخازن داره: «ادفع له ألف دينار»، فدفعها له فأخذها وربطها وقال: «يا أمير المؤمنين، خذ ما اشتريت». قال: «لا، ولكن جعلتها وديعة عندك». قال: «فمضى أبو نواس واشتغل بأمره ولهوه، وهو خائف على ذقنه من أمير المؤمنين». قال: «فبينما هو متفكر في شيء يفعله، إذ جاء قاصدا أمير المؤمنين، فوجده في جمع كثير من خواص المملكة وأعوان الدولة، وكان من شأنه أن يجلس بالقرب من أمير المؤمنين، فتحادثوا وتماجنوا فضرط أبو نواس ضرطة مزعجة أزعجت الحاضرين، فضحكوا جميعا وضحك الرشيد وقال له: «في ذقنك يا معرص». فقال له في الحال: «الله أعلم هي ذقن من؟» فقال أمير المؤمنين: «قد وهبتها لك يا ملعون». فأخذها وانصرف وكسب الألف دينار لهذه الحيلة.
أبو نواس وأبيات الاستغفار.. وعن محمد بن نافع، قال للمأمون: «رأيت أبا نواس في النوم بعد موته، فقلت: «يا أبا نواس!» فقال: «لا حين كنيت». فقلت: «الحسن بن هانئ». قال: «نعم». قلت: «ما فعل الله بك؟» قال: «غفر لي بأبيات قلتها عن علتي قبل موتي هي تحت الوسادة». فسألت أهله فقلت: «هل قال أخي شعرا؟» قالوا: «لا نعلم!» إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئا لا ندري ما هو. فدخلت ورفعت وسادته وإذا أنا برقة مكتوب فيها: «يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت أن عفوك أعظم، إن كان لا يرجوك إلا محسن، فمن الذي يدعو ويرجو المجرم، ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم».