قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... طلب الحجاج سعيدا بن جبير، فلما مَثُل بين يديه قال: «ما اسمك؟»، قال: «سعيد بن جبير». قال الحجاج: «أنت شقي بن كسير؟» قال سعيد: «بل أمي كانت أعلم باسمي منك!» قال: «شقيت أنت وشقيتْ أمُّك». قال: «الغيب يعلمه غيرك». قال الحجاج: ل«أبدلنك بالدنيا نارا». قال: «لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً»، قال الحجاج: «فما قولك في محمد؟». قال: «نبي الرحمة». قال: «فما قولك في علي، أفي الجنة أم في النار؟». قال: «لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما». قال: «فما قولك في الخلفاء؟» قال: «لست عليهم بوكيل». قال: «فأيهم أحب إليك؟ «. قال: «أرضاهم لخالقي». قال الحجاج: «فأيهم أرضى للخالق؟».. قال: «علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم». قال: «فما بالك لا تضحك؟». قال: «أيضحك مخلوق خلق من الطين، والطين تأكله النار؟». قال: «فما بالنا نضحك؟». قال: «لم تستوِ القلوب». ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فوضعه بين يديه. فقال سعيد: «إن كنت جمعت هذا لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جُمِع للدنيا إلا ما طاب وزكا»... ثم دعا الحجاج بآلات اللهو، فبكى سعيد. فقال الحجاج: «ويلك يا سعيد اختر أي قتلة تريد؟ « قال: «اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة»، قال: «أفتريد أن أعفو عنك؟». قال: «إن كان العفو من الله بلى، وأما أنت فلا». قال: «اذهبوا به فاقتلوه». فلما خرج من الباب ضحك، فأُخبِر الحجاج بذلك فأمر برده وقال: «ما أضحكك؟ «. قال: عجبت من جرأتك على الله وحِلم الله عليك»... الحجاج والشيخ لما فرغ الحجاج من ابن الزبير وقدم إلى المدينة، لقي شيخا خارجا منها، فسأله عن حال أهل المدينة، فقال: «بشر حال، قتل ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقال الحجاج: «ومن قتله؟». قال: «الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله وتهلكته من قليل المراقبة لله»، فغضب الحجاج غضبا شديدا ثم قال: «أيها الشيخ، أتعرف الحجاج إذا رأيته؟». قال: «نعم، فلا عرفه الله خيرا، ولا وقاه ضرا». فكشف الحجاج عن لثامه وقال: «ستعلم أيها الشيخ الآن إذا سال دمك الساعة». فلما تحقق الشيخ الجد، قال: «والله إن هذا لهو العجب يا حجاج، لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة، أنا العباس بن أبي داود، أصرع كل يوم خمس مرات»، فقال الحجاج: «انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه». الحجاج وأهل العراق خطب الحجاج أهل العراق بعد معركة دير الجماجم فقال: «يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف، ثم أفضى إلى الأسماخ والأمخاخ والأشباح والأرواح، ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج فحشاكم نفاقا وشقاقا وأشعركم خلافا، اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعونه، ومؤامرا تشاورونه وتستأمرونه... يا أهل العراق، يا أهل الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات، إنْ بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون نعمة ولا تشكرون معروفا، ما استخفكم ناكث أو استغواكم غاوٍ، أو استنقذكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا لبَّيتم دعوته وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافا وثقالا وفرسانا ورجالا؟ يا أهل العراق، هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق، ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته ويُذقْكم حَرَّ سيفه وأليمَ بأسه ومثلاته؟». وفي خطبة أخرى لأهل العراق قال: «اتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا أمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب المسجد فخرجوا من باب آخر، لحلَّتْ لي دماؤهم وأموالهم»... وأشهر خطبه كانت عندما ولاه عبد الملك بن مروان إمارةَ العراق، فدخل على غفلة أهلها ودخل المسجد، بعد أن اغتسل وصعد على المنبر فأطال السكوت، ثم قال: «يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، والله إن أمركم كان ليهمنى قبل أن آتى إليكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بى، ولقد سقط مني البارحة سوطي الذي أؤدبكم به، فاتخذت هذا مكانه».وأشار إلى سيفه، ثم قال: «والله لآخذن صغيرَكم بكبيركم وحُرَّكم بعبدكم ثم لأرصعنَّكم رصعَ الحداد الحديدة والخباز العجينةَ... فلما سمعوا كلامه، جعل الحصى يتساقط من أيديهم»... الحجاج وأهل الكوفة قيل إن الحجاج دخل الكوفة في شهر رمضان، ظُهرا، فأتى المسجدَ وصعد المنبر وهو واضع عمامة حمراء ومتلثم بطرفها، ثم قال: «علي بالناس»! فظنه الناس وأصحابَه من الخوارج، فهموا به حتى إذا اجتمع الناس، قام وكشف عن وجهه اللثام وقال خطبة شهيرة له: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا.. متى أضع العمامة تعرفوني.. أمَا والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقق: قد شمرت عن ساقها فشمر، إني والله يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، لا يغمز جانبي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنآن.. ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة، وأجريت إلى الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرها عودا وأشدها مكسرا، فوجهني إليكم، ورماكم بي، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل.. أمَا والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الشفعاء، والزرافات والجماعات، وقالا وقيلا وما يقولون، وفيم أنتم ذاك؟.. والله لتستقيمن على طريق الحق، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده!.. من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وانتهبت ماله وهدمت منزله»... هذه الخطبة من أشهر خطب الحجاج وزرعت في قلوب الحاضرين رعبا وجعلت الجنود تتدافع للالتحاق بجيش المهلب، بعدما كانوا يرفضون ذلك، ثم نزل فدخل منزله ولم يزد على ذلك. الحجاج وعبد الملك بن مروان قال عبد الملك يوما للحجاج: «إنه ما من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فصِفْ لي عيب نفسك». فقال: «اعفني يا أمير المؤمنين» فأبى، فقال: «أنا لجوج حقود حسود». فقال عبد الملك: «ما في الشيطان شر مما ذكرت»... وفي رواية أنه قال: «إذن بينك وبين إبليس نسب». ويُحكى أيضا أن الصحابي الجليل أنس بن مالك اشتكى الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فكتب هذا الأخير إلى الحجاج رسالة جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان، أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد؛ فإنك عبد طمت بك الأمور فسموت فيها، وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية إدًّا، وأردت أن تبورني فإن سوغتكها مضيت قدما، وإن لم أسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله عبدا أخفش العينين، منقوص الجاعرتين، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل؟ يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب، والله لأغمرنك غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فلم تقبل له إحسانه ولم تجاوز له إساءته، جرأة منك على الرب عز وجل، واستخفافا منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلا خدم عزير بن عزرا وعيسى ابن مريم لعظمته وشرفته وأكرمته، فكيف وهذ أنس بن مالك خادم ثماني سنين، يطلعه على سره ويشاوره في أمره ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم مثكل بحتف قاض، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.