ساري عرابي في تحليل السياسات الراهنة لنظام عبد الفتاح السيسي، تُطرح أفكار كثيرة تحاول فهم السياسات المحيّرة لهذا النظام، والتي كان آخرها التصويت في مجلس الأمن لصالح مشروع القرار الروسي بخصوص سوريا، أي التصويت بما يتعارض مع موقف السعودية، الداعم والممول الأهم لنظام السيسي. محاولات فهم السيسي تبدأ تلك الأفكار، من تفهم هذه السياسات على اعتبار أن السياسية مرجعية ذاتها، ولن تحكمها إلا المصالح، حتى وإن تعارضت مع القيم الأخلاقية التي يُفترض أن تطبع السياسات البينية ما بين مصر والسعودية، بيد أن هذه الأطروحة لا تتمكن بشكل كاف من بيان المصالح المتحققة من معارضة نظام السيسي لأكبر داعميه ومموليه العرب، في موضوع كالتصويت الأخير. يقدّم البعض، لمنح هذا التحليل الوجاهة، ولإبراز المصلحة التي تقوم عليها مواقف نظام السيسي الأخيرة، رؤية مفادها أن أميركا تقترب من التخلي عن السعودية، وأن النخبة الأميركية منقسمة حيال الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وأن هذا الدور في طور التراجع لصالح روسيا والقوى الإقليمية، وإذن فليس ثمة ما يحمل السيسي على الالتزام الوفي بالمركب السعودي. هذا التحليل، الذي يحاول أن يحترم قدرات السيسي الذهنية، يغيب عنه أن تصويت مصر في مجلس الأمن، غير مؤثّر بالمرة، أي أن الأثر الفعلي للتصويت منعدم، وبالتالي يظلّ الأثر المعنوي الذي يُفترض بصاحب قدرات ذهنية محترمة، ألا يهدره فيما يضرّه ولا ينفعه، أي في إثارة حفيظة السعودية دون فائدة جدّية تعود عليه من ذلك. تقول الأفكار التي تحاول فهم سياسات السيسي، أشياء أخرى كثيرة، بعضها صحيح، كنزعة الابتزاز التي يتّسم بها هذا الأخير، وعدائه الأصلي للإسلاميين، وبالتالي انحيازه الطبيعي إلى جانب نظام بشار الأسد، الذي يعني سقوطه فوز أعدائه الإسلاميين، كما يعني سقوطه سقوط الحل العسكري الأمني الذي تنهض عليه سياسات السيسي الداخلية، لكنّ ذلك ليس كل شيء، مما يحرّك السيسي. فتش عن "إسرائيل" هذه الأفكار التي تقول كل شيء، إلى درجة المبالغة في تصوير علاقات نظام السيسي بإيران، وأخذ كل العوامل الإقليمية بعين الاعتبار، تُهمل -وعلى نحو عجيب- العامل الإقليمي الأهم، وهو "إسرائيل"، التي تحاذي مصر، وترتبط معها بعلاقات دافئة، سياسية وأمنية واضحة، إلى درجة التماهي -بما يمسّ الضمير العربي- في بعض الملفات. في الموضوع السوري تحديدا، كان عبد الفتاح السيسي قد صرّح قبل عام تقريبا، للمذيع في CNN وولف بليتزر، بشكل واضح ومباشر وبما لا يحتمل التأويل، بأن سقوط نظام بشّار الأسد يعني انهيار جيشه ووقوع عتاده العسكري في يد "الإرهابيين"، مما يشكّل تهديدا للبنان والأردن و"إسرائيل". لكن ماذا لو لم يصرّح السيسي بذلك، وماذا لو كانت هذه التصريحات مجرّد محاولة للنفاذ إلى العقل الغربي من خلال أولويته القصوى في المنطقة "إسرائيل"، بمعنى أنه يستخدم "إسرائيل" للتأثير على الموقف الغربي، ولا ينطلق في الأساس من رؤية إسرائيلية؟! مثل هذه الافتراضات تصحّ، لو لم يكن لدى السيسي إلا هذا التصريح الذي يجعل فيه حرصه على أمن "إسرائيل"؛ أساس موقفه من الموضوع السوري، ولكننا لم نكن بحاجة إلى هذا التصريح، لضمّ "إسرائيل" إلى أدوات تحليل سياساته الخارجية، وحتى الداخلية. لم يَترك عبد الفتاح السيسي من قبل مساحة لأي تأويل آخر لسياساته، حينما صرّح قبل أكثر من سنتين، لقناة فرانس24، بأن إجراءات نظامه في سيناء، تهدف إلى حماية أمن "إسرائيل" من أي هجمات محتملة، وهنا ينبغي التذكير بأن هذه الإجراءات تمثّلت في تدمير مئات المنازل، وتهجير آلاف المواطنين، وحيث لم يقتصر التهجير القسري على رفح المصرية، بل امتدّ إلى الشيخ زويد والعريش. إن الحديث هنا، عن نظام يقوم بعمليات تهجير شاملة لمنطقة شمال سيناء، ليس لأي سبب آخر سوى الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، وقد كانت إجابة السيسي تلك على سؤال انطلق من التأكيد على تقارب إسرائيلي مصري غير مسبوق، ومستفسرا إن كان السيسي يرى ك "إسرائيل" ضرورة القضاء على حركة حماس، فكانت إجابته على ذلك النحو! والحديث مرّة أخرى، عن قتل وتهجير وتدمير منازل ومزارع آلاف المصريين داخل سيناء، استجابة للضرورات الأمنية الإسرائيلية، وهو ما يكفي لفهم إجراءاته بحق غير المصريين، ولاسيما الفلسطينيين، الذين أحكم حصارهم في غزّة، واتخذ ضدهم موقفا واضحا لصالح "إسرائيل" في عدوان العام 2014. يدحض ذلك أي نظريات تحمّل حركة حماس مسؤولية إجراءات السيسي ضدّها، دون أن نحتاج إلى تصريحات وزير البنى التحتية والطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس التي قال فيها إن السيسي غمر الأنفاق مع قطاع غزة بالمياه "بناء على طلب من إسرائيل". لقد تفوّقت إجراءات السيسي ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، على تلك التي انتهجها مبارك، إذ قام السيسي بتدمير كامل الأنفاق التي تربط غزّة بالعالم الخارجي، وهجّر مدينة رفح المصرية لإنشاء منطقة تعزل غزّة عن سيناء، ولكنه تفوّق أيضا على كل أنظمة كامب ديفد السابقة، في رؤيته التصفوية للقضية الفلسطينية. لا تتسع المقالة لاستعراض أكبر لجهود نظام السيسي في تصفية القضية الفلسطينية، أو في بيان علاقاته الحميمة مع "إسرائيل"، أو في التدليل على العلاقات السرية التي باتت أكثر انكشافا، كما عبّرت عن ذلك الصحافة الإسرائيلية أثناء زيارة سامح شكري، وزير خارجية السيسي للقدس، ولكن الشاهد قائم هنا، على فاعلية الدور الإسرائيلي في صياغة سياسات نظام السيسي الخارجية والداخلية. إن التحليل الإسرائيلي لا يختلف أبدا عن تحليل السيسي للموضوع السوري، وهو ما أدركه النظام السوري منذ البداية، كما عبّر عنه رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، في بدايات الثورة السورية، حينما قال لصحيفة نيويورك تايمز "لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا"، وفي الفترة نفسها، قال بشار الأسد للفنان السوري، جمال سليمان، "إن إسرائيل لا تريد إسقاط النظام". والتحليل باختصار كما قال السيسي، إن سقوط النظام السوري، يعني تزايد احتمالات اتساع الفوضى في الدول المطوّقة ل "إسرائيل" (سوريا والأردن ولبنان) وبالتالي احتمال تمدّد الفعل العسكري من تلك البلاد إلى فلسطينالمحتلة. وإذا كانت علاقات السيسي ب "إسرائيل" بالشكل الموصوف في هذه المقالة، وكانت رؤيته مطابقة لرؤيتها بخصوص الموضوع السوري، وهي الرؤية التي يؤكّدها النظام السوري، فكيف يصحّ إغفال العامل الإسرائيلي في تحليل موقف السيسي من الموضوع السوري، وهو العامل الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار دائما، نظرا لمحورية الدور الإقليمي ل"إسرائيل"، ولموقع مصر من هذا الدور. الاستثمار الخاطئ التباين السعودي المصري في الموقف من الموضوع السوري، كان حاصلا منذ البداية، ولكنه كان متواريا في الخلف لصالح أولويات أخرى أسّست للدعم السعودي لنظام السيسي، في خطأ إستراتيجي قاتل، توقّع بأن يكون السيسي مثل مبارك، ولم يأخذ بعين الاعتبار العامل الأهم في صياغة مواقف السيسي، أي "إسرائيل"، والتغيرات السياسية والاقتصادية الهائلة، والتي لن تجعل بدورها السعودية في هذه الفترة، كما كانت في فترة مبارك. وثمة فارق مهم جدّا هنا بين التعاطي السعودي، وتعاطي نظام السيسي مع العامل الإسرائيلي، فإذا كانت الطبيعة المحافظة للسياسة السعودية، إلى جانب التحالف التاريخي مع الولاياتالمتحدة الأميركية، يساهم إلى حدّ كبير في رسم السياسات السعودية الخارجية، فإن الانطلاق من الرؤية الإسرائيلية هو الذي يحدّد سياسات نظام السيسي. وبالتالي من غير الممكن أن تفترق سياسات نظام السيسي عن الرؤية الإسرائيلية، حتى لو افترقت عنها في مكان ما السياسة السعودية، ومن هنا يتكشف الاستثمار الخاسر، لاسيما إن كان سخيّا، في نظام يفتقر إلى الإرادة الحرّة، ويتبع إلى مرجعية أخرى، هي غير داعميه ومموليه والمستثمرين فيه. صحيح أن الموقف من الدور الإسرائيلي ينبغي أن يكون مبدئيّا، ولكننا نتحدث في حدود السياسة الواقعية التي تنتهجها السعودية، إذ تستثمر استثمارا خاطئا في نظام يأخذ منها لصالح غيرها، ويبني أدواره لا على أساس مصالح المستثمرين فيه، ولا حتى على أساس الانتفاع المتبادل، وإنما بالتبعية لمرجعية أخرى، قد تتعارض مصالحها في مكان ما مع مصالح المستثمرين. بالرغم مما يبدو صعودا لخلاف حقيقي بين السعودية ونظام السيسي، كان مكتوما منذ مجيء الملك سلمان، ومرّ بتقلبات كثيرة، فإنّ الارتباك ما زال هو الحاكم في تحديد شكل العلاقة الصحيح من هذا النظام، وذلك لعدم إدراك الفارق الجوهري ما بين نظامي مبارك والسيسي وموقع "إسرائيل" من ذلك. وإذا كانت الغفلة عن العامل الإسرائيلي خطأ المستثمر في الأساس، فإن غيابها عن المحلل السياسي استمرار في نفس الخطأ.