تعيش منطقة الشرق الأوسط حاليا عدة تطورات على المستوى الجيوستراتيجي, حيث إن الانتفاضات الشعبية (حتى لانقول الربيع العربي) لم تكون له آثار على المستويات السياسية لهذه الدول فحسب, بل كانت له أثار على المستوى الإقليمي و على موازين القوى في المنطقة : الولاياتالمتحدةالأمريكية ، روسيا ، الصين ، تركيا ، إيران و إسرائيل. فإذا كانت المصالح هي التي تحكم سلوك الدول, فإن حالة عدم الوضوح و الاضطراب في الأوضاع الداخلية لبعض الدول : سوريا ، مصر تجعل القوى الإقليمية الكبرى تحتاط في تدخلاتها و كذا في إعلان بعض المواقف. لكن دعونا نذكر ببعض المعطيات : أولا : البيت الأبيض مدرك تماما حتمية و ضرورة التعامل مع الإسلام السياسي في البلدان العربية و ذلك راجع لأن مناخ التغيير الجاري في تلك الدول لم يفرز حتى الآن قوى ليبرالية مؤهلة يمكن أن تكون بديلاً عن هذا التيار, كما أن من شأن ذلك أن يساعد على استثمار موافقة تيار الإسلام السياسي على احترام المعاهدات والاتفاقيات خاصة الموقعة مع إسرائيل بما يوفر مزيدًا من الأمن لإسرائيل من ناحية واستيعاب مزايدات هذا التيار على الصيغة التي كانت مطروحة من قبله للتعامل مع إسرائيل مسبقًا، كما أن بعض دوائر صنع القرار الأمريكي ترى أن هيمنة هذا التيار في تلك الدول ربما يسمح بعودة العناصر المتطرفة التي كانت تهدد الأمن القومي الأمريكي من الخارج إلى داخل تلك الدول مما يخفف من حجم التهديدات التي تتعرض لها المصالح الأمريكية في الخارج. و بما أن احد أهم محددات الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط تكمن في الصراع العربي الاسرائيلي يمكن للولايات المتحدة أن تعول على الدور المصري في تأمين إسرائيل و الضغط على حماس للتهيء لصفقة معينة و لنا في الإشارات القادمة من القاهرة خير مؤشر وكذا تعهد مرسي بالتزامه بتعهدات مصري الدولية و باتفاقيات كامب ديفيد . إن المتتبع للسياسة المصرية الآن لابد أن يلاحظ انه يحددها : محاولة التحرك في كل اتجاه دون بوصلة بهدف لفت الانظار عن الفشل الذريع في تدبير البلاد و شؤون العباد داخليا ، و كذا محاولة البحث عن المساعدات و القروض حتى و ان كان ذلك بواسطة صفقات قذرة مثل التي جرت مع ليبيا (على حساب قذاف الدم ). من هنا يبدو ان مصر الان هي مستعدة للعب دور في المنطقة مقابل تأمين بعض المساعدات و القروض و لعل هذا ما يفسر اختراق قطر للدور المصري في المنطقة مقابل وعود القروض و الودائع ( الوديعة القطرية نموذجا ) . و في هذا الاطار يمكن ان تضطلع القاهرة بدور في أي تفاهم بين انقرة و طهران لا سيما بعد تبادل الزيارات بين القاهرة و طهران في الآونة الأخيرة . كما يمكن لمصر أن تضطلع بحلحلة مفاوضات السلام وهنا يمكن أدراج المبادرة العربية التي تم تقديمها مؤخرا لجون كيري التي عبرت عن استعداد العرب لمبادلة الأراضي بين الفلسطينيين و الدولة العبرية . ثانيا : على صعيد الأزمة في سوريا يبدو ان مسألة سقوط نظام الأسد لم يعد سوى مسألة وقت ، والولاياتالمتحدة تدرك ان خليفته لايغدو يكون غير جماعة الاخوان المسلمين في طبعتها السورية حتى و ان كان الموقف الأمريكي المعلن حيال الأزمة السورية يركز على الانتقال السلمي للسلطة ويتبنى فكرة الحوار بين الطرفين ويتحفظ على تقديم السلاح المتطور لقوى المعارضة، فإن هناك تنسيقًا بين واشنطن ولندن وباريس يقوم بمقتضاه الأخيران بتوفير بنية تحتية يمكن أن تسمح مستقبلاً بالتدخل العسكري من خلال إلغائهما قرار حظر تصدير الأسلحة إلى المعارضة؛ فيما تقوم المخابرات الأمريكية بتدريب مجموعات في الأردن وتسليحها ودفعها داخل سوريا لموازنة التنظيمات الجهادية، وحتى تصبح هذه المجموعات طرفًا مؤثرًا في بنية النظام السوري الجديد وتعمل على الحفاظ على هيكل الدولة دون تقسيم بعد سقوط نظام بشار. و في الملف السوري تعتمد الولاياتالمتحدةالامريكية على الدور البارز للحليف التركي لاسيما انه من المتوقع ان تشهد المنطقة مزيدا من التراجع في الدور الأميركي في المنطقة العربية على صعيد النفوذ الاستراتيجي لاعتبارات إقتصادية وأخرى إستراتيجية؛ فالولاياتالمتحدة ستبدأ في التركيز على احتواء الصين، وستوجه كثيرا من امكاناتها الإستراتيجية باتجاه المحيط الهادي، لا سيما مع التوتر مع كوريا الشمالية و تصاعد حدة التوتر بين الصين واليابان حول الجزر المتنازع عليها. من هنا يمكن فهم التفاهم التركي الاسرائيلي الاخير بعد الاعتذار الرسمي الاسرائيلي الذي قدمته إسرائيل لتركيا عن مقتل النشطاء الأتراك على متن السفينة مرمرة قبل ثلاث سنوات. وعودة التنسيق الشامل بينهما . ان الدولة العبرية واعية تماما ان تركيا اضحت لاعبا اقليميا مركزيا في المنطقة بعد الانتفاضات العربية و تدرك حتمية سقوط نظام «آل الاسد» ، كل هذا دفعها إلى السعي لاستعادة العلاقات مع أنقرة بأي ثمن في ظل الاقتناع التام أن تركيا ستكون اللاعب الرئيس على الساحة السورية في مرحلة ما بعد الأسد، وأن ثمة أخطارا عديدة قد تواجهها تل أبيب, إن فيما يتعلق باحتمال تدفق آلاف اللاجئين السوريين أو بتحوّل هضبة الجولان إلى جبهة عسكرية وأمنية ساخنة، كما هو الحال مع غزة وسيناء أو حتى تحول سورية نفسها إلى دولة فاشلة ما يترك آثارا سلبية على مجمل المنطقة ، وبما أن تل أبيب عجزت عن إقامة قنوات مفتوحة مع المعارضة السورية , القيادة المستقبلية لسورية ، فإنها بحاجة إلى طرف ما على تواصل قوي مع تلك المعارضة، وقادر على التأثير على مجريات الأحداث في سورية في مرحلة ما بعد الأسد. و لاشك ان تركيا تملك امكانيات كبيرة في الاضطلاع بدور رئيسي في المنطقة ، حيث لا يزال لتركيا أصول هامة، واقتصاد مزدهر، وأعمال في كافة أنحاء إفريقيا. كما أن للحكومة التركية علاقات وثيقة مع الإخوان المسلمين الذين صعدوا إلى سدة الحكم في تونس ومصر. وهنا نذكر بأنه في زيارة أردوغان إلى مصر في مارس 2012 تم توقيع 11 اتفاقية لزيادة حجم التجارة بين البلدين إلى 5 مليارات دولار أمريكي. و على الصعيد العسكري استكملت البحرية المصرية والقوات التركية البحرية مؤخرًا تدريبات عسكرية مشتركة في شرق البحر المتوسط. وفي تونس أصبحت تركيا بمثابة «شريك استراتيجي للحكومة التونسية،لا سيما ان تونس في ظل مواجهتها تحديات اقتصادية واجتماعية تتطلع إلى الاستفادة من التجربة التركية. ويُذكر أنه ظهرت أيضًا بمثابة حليف رئيسي لتونس من خلال مساعدتها ليبيا في مواجهة التحديات السياسية الداخلية في حقبة ما بعد القذافي ، والتي تشكل مصدرًا رئيسيًا للقلق بالنسبة لكافة البلدان المجاورة. كما وقعت تركيا خطة عمل لعام 2012. دون أن ننسى القوة الناعمة التي أضحت تركيا تتمتع بها ,خصوصا بعد موقف تركيا من القضية الفلسطينية، وانتقادها للأعمال الوحشية التي يتعرض لها قطاع غزة، هذا عمل على إنشاء جسر عاطفيًّ بين العرب و الأتراك، ومن المرجح أن يظل هذا الجسر قائمًا، و يتعزز أكثر خصوصا بعد الموقف من الأزمة السورية . غير أن هذا الدور الفاعل و المتنامي لأحفاد العثمانيين يصطدم بتنافس ايراني و من خلفه روسيا. حيث تعاني العلاقات بين تركيا وإيران من توترات قديمة, غير أن الأزمة السورية جعلت مصالح البلدين في منافسة مباشره كما ترتب على سعي تركيا للعمل مع الحكومة الكردية الإقليمية في مجال تطوير الطاقة في المنطقة الشمالية، ودعمها حقوق السنة في مواجهة حكومة المالكي «الشيعية»، تكوين جبهة موحدة بين إيران والحكومة المركزية العراقية ضد تركيا. إذن من مصلحة تركيا ان تعمل على استقرار المنطقة ،وحتى تستطيع تركيا أن تقطف ثمار الشرق الأوسط الجديد،فهي بحاجة ملحّة للتوصل إلى فهم مشترك لاحتواء الانقسامات الطائفية المتنامية خصوصا مع ايران. تالثا : سقوط النظام السوري سيشكل خسارة كبرى لإيران ،خصوصا انه لايجب قراءة الملف السوري حاليا في معزل عن التطورات الحالية بالعراق واضطراب سيطرة المالكي على العراق و بالتالي ربما تسير الامور نحو خسارة ايران لابرز حليفي لها في سوريا ، و في العراق او على الاقل عدم انفرادها بالملف العراقي التي ظلت لمدة اللاعب الوحيد فيه بعد تخلي العرب عن هذا الملف . اضافة الى حركة حماس و الجهاد الاسلامي بعد تعرض الفلسطينيين لهجمات عنيفة من قبل النظام السوري في مخيم اليرموك ما جعل السياسات الإيرانية على محك الانتقاد الشديد لاسيما وهي التي تنتقد السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في كل من الضفة الغربيةوغزة. دون ان نتجاهل حجم التعبئة و الحشد الطائفي ضد ايران الشيعية لا سيما بعد بروز تأثيرات للاتجاهات السلفية في بعض الدول العربية و كذا على خلفية الدعم الايراني للنظام السوري (العلوي) . لايقف الامر عند هذا الحد فتورط ايران في المسألة السورية واكبه سقوط قيمي لإيران الثورة التي كانت تقدم نفسها على اساس انها نصير للمظلومين (ثورة الخميني). و اذا اضفنا الى كل هذه المعطيات تطورات الملف النووي واحتمالات المواجهة مع إسرائيل والغرب اضافة الى انهاك الاقتصاد الايراني من خلال تشديد العقوبات و كذا فقدان الحليف الاقتصادي السوري. نعتقد ان هذه المتغيرات ستجعل الايرانيين مجبرين على انجاز تفاهم عربي تركي للخروج من هذه العزلة الاقليمية و من اجل كذلك ايقاف الشحن الطائفي اتجاهها و من هنا يمكن تفسير زيارة نجاد الى مصر و خاصة الى الازهر ( قلعة السنة في العالم) رغم اعتراض الازهر على ادوار ايران خاصة في ملف نشر التشيع الذي يشكل حساسية كبرى للأزهر . ان ايران تعي ان الخيار الاسلم هو عقد هذا التفاهم الثلاتي من اجل الحفاظ على مصالحها ، لاسيما انها تعلم ان اذا خسرت سوريا وحوصر نفوذها في العراق، واشتد الحصار الإقتصادي عليها، وبقيت حالة التوتر قائمة بينها وبين محيطها العربي والتركي، فستكون أمام خيارين في ما يتعلق بنزاعها مع الغرب: أحدهما، المضي في برنامج التخصيب، مما يضعها في مواجهة محتومة مع إسرائيل وأميركا؛ والخيار الآخر، أن تسلك سبيل الحوار المباشر مع إدارة أوباما من أجل صفقة سياسية. يدرك القادة الإيرانيون أن إدارة أوباما ليست متحمسة لضربة عسكرية ضد إيران، ويسرها أن تجد مخرجا غير عسكري. وسيسعى وزير الخارجية الأميركي الجديد للبحث عن تفاهم مع إيران يحقق فيه إنجازا سياسيا كبيرا؛ وقد تتعزز احتمالية هذا التفاهم بعد الانتخابات الإيرانية القادمة، خصوصا إذا وصل علي لاريجاني إلى سدة الرئاسة، إذ يعتقد جون كيري أن لاريجاني جدير بالتواصل معه. اننا لا ندعو من خلال هذه الورقة الى تفاهم بين هذه الاطراف يخدم الاطراف الاقليمية الفاعلة في المنطقة : تركيا و ايران على حساب مصالح العرب ، و لكن هو مجرد تحليل لما نعتقد ان الامور ستؤول اليه في هذه المنطقة في المراحل المقبلة م ن خلال المؤشرات القادمة من خلال تحليل سلوكات الفاعلين الاساسيين بالمنطقة . * باحث في الشؤون الاستراتجية