بمكالمة النصف ساعة الهاتفية التي أجراها مع نظيره التركي أردوغان يوم 22 مارس الماضي بحضور الرئيس الأميركي أوباما، أذاب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو جفاء الأعوام الثلاثة بين أنقرة وتل أبيب. فخلال هذه المكالمة -التي كانت الأولى من نوعها بعد فوز نتنياهو بالانتخابات الإسرائيلية عام 2009 - اعتذر الأخير عن مهاجمة جيشه للسفينة التركية مرمرة، التي شاركت بأسطول الحرية الهادف إلى كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة نهاية يونيو عام 2010، وأسفر عن مقتل تسعة نشطاء أتراك. وهو ما اعتبره أردوغان نصرا مؤزرا، يستوجب الترحيب، وإعادة علاقات بلاده مع إسرائيل إلى سيرتها الأولى. ومن بين دوافع شتى أجبرت أنقرة وتل أبيب على هذا التصالح الفوري، برز جليا تأثير الربيع العربي، الذى أربك مصالح ومشاريع أطراف مثلث العلاقات التركية الإسرائيلية الأمريكية، وحملها على إعادة حساباتها. استنفار أمريكي رغم أن مساعيها لإعادة الدفء للعلاقات التركية الإسرائيلية لم تتوقف منذ حادث أسطول الحرية، لكونها مهندس وراعي تلك العلاقات منذ نشأتها عام 1949، فإن جهود واشنطن في هذا الصدد قد اكتسبت زخما هائلا بعد انطلاق الربيع العربي، وتفاقم التداعيات السلبية للثورة السورية، والتي نكأت -بدورها- جراحا أمريكية مع خصوم إقليميين ودوليين من أمثال روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، إضافة إلى التيارات والتنظيمات الإسلامية المناهضة لواشنطن. فبينما أعطت مواقف القوى الكبرى حيال الثورات العربية إيحاءات بانبعاث الحرب الباردة بين واشنطن وكل من موسكو وبكين، جدد دور إيران في تلك الثورات مخاوف جمة من طموحاتها الإقليمية وتطلعاتها النووية، بالتزامن مع استفحال الخطر النووي الكوري الشمالي إثر تجدد التوترات بين الكوريتين، وتهديد كوريا الشمالية بضرب جزر هاواي الأمريكية بالصواريخ الباليستية بعيدة المدى. وبناء عليه، طالب أوباما نتنياهو خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة بضرورة إنهاء الأزمة مع تركيا قائلا: «أريد أن أرى حليفي أمريكا الإستراتيجيين الشرق أوسطيين في خندق واحد». وفي المجرى ذاته ، صبت عبارات صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، مؤكدة أن تركيا وإسرائيل والأردن هم أعمدة الاستقرار الثلاثة في منطقة أربكها الربيع العربي، مشيرة إلى خطة تعدها إدارة أوباما للتعاطي مع مخرجات الأزمة السورية عبر تنسيق بين أمريكا وهذا المثلث، تتطلع خلاله واشنطن إلى استثمار التفاهم التركي الإسرائيلي لهذا الغرض، فضلا عن منع إيران من امتلاك السلاح النووي، علاوة على تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويعتقد خبراء أمريكيون أن الثورات العربية وما تلاها من اعتداءات على السفارات الأمريكية في ليبيا ومصر، ثم تنامي احتمالات انتشار تنظيم القاعدة في تونس وليبيا واليمن، قد عزز المخاوف من أن يغدو صعود الإسلام المعتدل على خلفية الثورات العربية مجرد مرحلة انتقالية قبل انقضاض الإسلام المتطرف -المناوئ لواشنطن- على السلطة في تلك البلدان. فلقد لوحت تلك الأحداث -وغيرها- لواشنطن بانتكاس مشروعها الرامي إلى تأمين مصالحها الإستراتيجية في المنطقة بعد أفول عهد الأنظمة الموالية لها، عبر دعم وصول «الإسلام المعتدل» إلى السلطة في بلدان الربيع العربي. وفي مسعى منها لإعادة هندسة المنطقة بما يحمي مصالحها ويخدم إستراتيجيتها العالمية الجديدة، أصرت إدارة أوباما على إتمام المصالحة بين تركيا وإسرائيل، بغية إعادة إحياء التحالف الإستراتيجي بين الشركاء الثلاثة، توطئة للاستفادة من قدراتهم المشتركة في التعاطي الناجز مع ما قد تتمخض عنه الثورات العربية من مفاجآت وتحديات. تراجع إسرائيلي يمكن فهم التحول المفاجئ في الموقف الإسرائيلي من قضية الاعتذار لتركيا في ضوء الدوافع والغايات الكامنة وراءه. فبالإضافة إلى عدم استطاعة تل أبيب تحمل الكلفة الإستراتيجية الباهظة للقطيعة مع الحليف الأبرز لها في المنطقة، حيث لم يتسن لها تحقيق مآربها من الاستعاضة بعوائد التقارب مع اليونان عن ثمار التحالف الإستراتيجي مع تركيا، كان الربيع العربي وما تأتى عنه من صراع في سوريا هو المحرك الأهم. وأيا كانت مآلاتها، طوت الثورات العربية بين ثناياها هواجس شتى لإسرائيل. فبقدر ما أثلج صدرها ذلك الهدر والنزيف المتواصل في قوة وأرصدة الدول العربية جراء الأعراض السلبية لتلك الثورات، استبدت بالإسرائيليين مخاوف جمة جراء احتمالات تفشي الفوضى في تلك البلدان بما يمهد السبيل لتغلغل تنظيم القاعدة في ربوعها، ويمكنه من السيطرة على بعض الأسلحة المتطورة من الصواريخ الباليستية والمضادة للطائرات، علاوة على الرؤوس الكيماوية والبيولوجية. كذلك، انتاب إسرائيل قلق عميق من إمكانية تحول الربيع العربي إلى شتاء إسلامي، بصعود تيارات إسلامية متشددة ومعادية لها إلى السلطة في الدول التي سقطت أنظمتها، الأمر الذي اعتبره الجنرال أيال أيزنبرج -المسؤول عن الدفاع المدني- نذيرا باندلاع حرب شاملة لا تخلو من احتمالات استخدام أسلحة دمار شامل، خصوصا إذا ما سقط نظام بشار الأسد. واستشهد أيزنبرج بالمواجهات التي وقعت على حدود وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل بالجولان المحتل. واقتصاديا، أجج الربيع العربي تساؤلات مثيرة بإسرائيل، حيث لمست صحيفة «الإندبندنت» البريطانية في الشعارات المرفوعة خلال المسيرات الاحتجاجية التي شهدتها إسرائيل على وقع الربيع العربي -وكانت الأضخم في تاريخها- شعورا بالإحباط لدى كثير من الإسرائيليين. وعلى غير المعهود، سئم أبناء الطبقة الوسطى مطالبات المسؤولين لهم بتحمل الأعباء الاقتصادية للاحتياجات الأمنية، في الوقت الذي لا يتورع آخرون عن تكديس الثروات والتنعم بالامتيازات . أما في حالة نجاح الثورات العربية، فتخشى إسرائيل من أن يمهد ذلك السبيل لبناء دول عربية أكثر ديمقراطية وقوة واستقرارا، وأشد ميلا للتخلي عن التبعية لواشنطن، وتنويع علاقاتها بالقوى الكبرى، والتقارب مع تركيا وإيران إستراتيجيا، بما يعيد هيكلة وترتيب موازين القوى التقليدية في المنطقة على غير مصلحة إسرائيل، وهو ما يفسر الهرولة الإسرائيلية لاسترضاء تركيا، بالتوازي مع الإمعان في تفزيع العرب والعجم من الخطر النووي الإيراني. ويرى خبراء إسرائيليون في دمقرطة الدول العربية مصدر تهديد حقيقي لبلادهم. فإلى جانب نجاحها في حرمان إسرائيل من استثمار ادعاءاتها بأنها «الديمقراطية الوحيدة» في المنطقة، قد يسفر تعاظم دور الشارع العربي في صنع القرار السياسي عن تغير جوهري في إستراتيجيات تعاطي الأنظمة العربية المنتخبة ديمقراطيا مع إسرائيل. ففي دولة كمصر، وعلى خلاف مبارك -الذي كانت إسرائيل تعتبره كنزا إستراتيجيا لها- ربما تحاول النخبة الحاكمة الجديدة إعادة النظر في محتويات معاهدة كامب ديفيد، وتعديل بنودها المجحفة بحق مصر، أو تراجع مدى الالتزام المتبادل بها. الأمر الذي حمل إسرائيل على البحث عن ضمانات غربية لالتزام مصر ما بعد الثورة بالمعاهدة التي تمثل أحد أعمدة الأمن القومي الإسرائيلي، حيث يشكل انهيارها كارثة اقتصادية محققة لإسرائيل، التي ستضطر عندئذ لإعادة صوغ عقيدتها العسكرية والأمنية، وتبنى إجراءات وقائية تعتصر اقتصادها وتستنزف مواردها. فلقد ربط مسؤولون إسرائيليون بين التحديات الأمنية الآنية والمستقبلية التي فرضتها الثورات العربية على بلادهم، وبين الإجراءات الاقتصادية التقشفية التي أقدمت عليها حكومة نتنياهو مؤخراً، كزيادة الضرائب، رفع الأسعار، تقليص الخدمات المدنية وتخفيض مخصصات الضمان الاجتماعي وموازنات الوزارات المدنية. حيث طالبت النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية -على وقع تلك الثورات- بزيادة ميزانية الأمن والدفاع، وإعادة صياغة سلم الأولويات الإسرائيلي بما يسمح بتوفير موارد لتمويل النفقات الأمنية المتعاظمة، والاستثمار في مجال الدفاع الوقائي. وربما عزز من تلك الهواجس الإسرائيلية ظهور مؤشرات ملفتة لتغيرات مقلقة في توجهات سياسة مصر الخارجية، مؤخرا، تجلت في مغازلة إيران، واحتضان جهود المصالحة الفلسطينية، وفتح المعابِر توطئة لإنهاء الحصار على غزة، ناهيك عن المطالب الشعبية والرسمية المتصاعدة بإعادة التفاوض حول تصدير الغاز المصري لإسرائيل، وضرورة فتح ملف حصة مصر في بترول وغاز شرق المتوسط، والتي فرط فيها مبارك ضمن صفقة مبهمة وغير مبررة. ومن هنا تكمن الدوافع الخاصة بأمن الطاقة للتصالح التركي الإسرائيلي، والذي من شأنه -وفقا لخبراء إسرائيليين وأتراك- أن يهيئ الأجواء لتعاون مثمر بين البلدين فيما يخص ثروات نفط وغاز شرق المتوسط، التي تتنافس عليها دول عديدة. حيث تنوي تل أبيب تصدير حصتها من الغاز إلى أوروبا من خلال خط أنابيب بحري يمر عبر تركيا. وعلى صعيد آخر، تتخوف إسرائيل من أن يفضي صعود نخب عربية منتخبة ديمقراطيا للسلطة إلى تغيير قواعد إدارة الصراع العربي الإسرائيلي على غير هوى الإسرائيليين، عبر تقويض قدرة تل أبيب على مواصلة فرض تصوراتها الخاصة بالسلام على العرب. فقد تجنح النخب العربية المنتخبة لنصرة الحقوق الفلسطينية من خلال تبني مواقف عقابية تصعيدية حيال الانتهاكات الإسرائيلية، أو إعادة ملف الصراع إلى الأممالمتحدة مجددا. وتتوجس إسرائيل كذلك من أن يحيي الربيع العربي خيار النضال المسلح لدى الفلسطينيين، خصوصا بعد أن أظهر العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة مدى التطور النوعي في القدرات العسكرية لحركات المقاومة الفلسطينية. هذا علاوة على مخاوف تل أبيب من اندلاع انتفاضة جديدة في الضفة الغربية تقض مضاجع الإسرائيليين بعد حالة من الاستقرار الحذر دامت لما يزيد عن ست سنوات. ترحيب تركى يجوز القول إن إستراتيجية حكومة العدالة التركية الرامية إلى «تصفير» المشاكل مع دول الجوار، وكذا مساعيها الهادفة إلى إيجاد ظهير إستراتيجى عربي إسلامي مواز للمسارات القلقة والمتعرجة في علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإسرائيل، قد تلقت ضربة قوية جراء الثورات العربية وما يدور حاليا في سوريا، التي تعد بوابتها إلى العالم العربي. فباستثناء ما تحصلت عليه من كعكة استثمارات إعادة الإعمار في ليبيا ما بعد القذافي، انتكست المشاريع التركية عربيا جراء تعقد المشهد السوري، واستمرار أجواء التعثر والتردد التي تلف مبادرات التقارب المصري التركي بعد سقوط نظام مبارك. وفي خضم هذه الانتكاسات الإقليمية والارتباكات الدولية، تاق أردوغان إلى تنفس الصعداء بالتخلص من الأثقال الداخلية والخارجية للجفاء مع تل أبيب، فإلى جانب نشره إعلانات ضخمة بشوارع إسطنبولوأنقرة تقول إن «الشعب التركي يشعر بالزهو والكبرياء حيال الاعتذار الإسرائيلي»، عمد أردوغان إلى كبح جماح العبث الإسرائيلي بأمن تركيا القومي بدعمها عمليات حزب العمال الكردستاني، حيث ارتأى سروهان بولوك رئيس تحرير جريدة «آيدينلك» التركية، أن تزامن جولة أوباما الشرق أوسطية، وإتمامه للمصالحة التركية الإسرائيلية، مع إعلان عبد الله أوجلان زعيم الحزب الكردستاني عن هدنة من محبسه بجزيرة إيمرالي لوقف العنف إزاء الدولة التركية، لا يبرئ دور تل أبيب وواشنطن في تأجج الأزمة الكردية. وبتزامن تعثر إستراتيجيتها حيال العالم العربي مع شعورها بأن مشروعا غربيا إسرائيليا يرتب لإعادة هندسة المنطقة جيوإستراتيجيا وفقا لاعتبارات إثنية على خلفية الربيع العربي، هرعت حكومة العدالة والتنمية إلى ترميم علاقاتها وتدعيم تحالفاتها مع أصدقائها التقليديين، توخيا لتعظيم نصيبها من غنائم أي ترتيبات إقليمية مزمعة. ومن ثم كان ترحيب حكومة أردوغان السريع بالاعتذار الإسرائيلي الممهور بمباركة أمريكية. وبناء عليه، يجوز الادعاء بأن مجيء رياح الربيع العربي على غير ما كانت تشتهيه السفن التركية -الباحثة عن شطآن الريادة ومرافئ الدور الإقليمي- قد جعل من موجات التغيير التي تجتاح العالم العربي حاليا جرس إنذار لإعادة توجيه بوصلة الرهان التركي على العرب، ليتحول صوب حلفاء أنقرة التقليديين استعدادا لما سوف يطال المنطقة من تغيرات محتملة، على غرار ما جرى في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، ومن بعدها الحرب الباردة التي جعلت تركيا تشيح بوجهها عن العرب والمسلمين، وترتمي في أحضان إسرائيل وأمريكا وأوروبا قبل عقود ستة خلت.