رغم أنّ الرئيس المصري محمّد مرسي تبوأ منصبه منذ 30 يونيو، أي منذ نحو شهرين فقط، فقد قام بمبادرات جريئة في السياسة الخارجية قد تضعه في مواجهة مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ومن الواضح أنه مستعدّ لهذه المجازفة. يقضي هدفه، على ما يبدو، باستعادة قدر من الاستقلال من الوصاية التي تمارسها هاتان القوتان. وفي حال نجح في ذلك، سينال ثناء الأكثرية الساحقة من المصريين. ويتعلق ميدان المواجهة المحتملة بالضغوط الدولية الكبيرة على النظامين الإيراني والسوري بهدف إسقاطهما. تسعى الولايات المتحدّة إلى شلّ اقتصاد إيران من خلال فرض عقوبات شديدة عليها، كما أنها تدعم الثوّار السوريين في محاولتهم الإطاحة بالرئيس بشار الأسد. يرفض الرئيس مرسي ذلك، فقد تجرأ على مواجهة الولايات المتحدّة وإسرائيل عبر رفض عزل إيران أو تشويه سمعتها. واختار أن يحضر قمة دول عدم الانحياز التي عُقدت في طهران الأسبوع الفارط، علما بأنه أول رئيس مصري يزور الجمهورية الإسلامية منذ الإطاحة بالشاه عام 1979. وقد كسر الجليد مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد منذ بضعة أسابيع حين التقيا خلال القمة الإسلامية في مكّة. وكان لقاؤهما وديا جدا. ومن الواضح أنّ الرئيس مرسي يفضّل حلّ الأزمة السورية عن طريق المفاوضات بدلا من الحرب، الأمر الذي يشكّل معارضة مباشرة لواشنطن. كما اقترح أن تشكل القوى الأساسية الأربع في المنطقة، أي مصر والمملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، مجموعة اتصال للإشراف على حلّ يتمّ التفاوض عليه. بمعنى آخر، هو يطلب من الولايات المتحدّة وحلف شمال الأطلسي أن يبقيا بعيدين عن سورية وأن يتركا القوى المحلية تتولى زمام الأمور. (يفرض تحرّك مرسي معضلة كبيرة أمام الدبلوماسية التركية: هل يجب أن تدعم تركيا، التي تشكّل جزءا من حلف شمال الأطلسي، الولايات المتحدّة لنقل الأسلحة والأموال والمعلومات الاستخباراتية إلى الثوّار السوريين أم يجدر بأنقرة الانضمام إلى الجهود الإقليمية الرامية إلى إنهاء النزاع عن طريق المفاوضات؟). وجّه الرئيس الأمريكي باراك أوباما دعوة إلى الدكتور مرسي لزيارة واشنطن في شهر شتنبر، وقد تكون وراء الدعوة رغبة في توجيه ملاحظات على سياسته. لكن، في معرض التأكيد من جديد على الاستقلال المصري، زار الدكتور مرسي بكين ثم توجّه منها إلى طهران. وقد تكون هذه طريقته ليشير إلى أنه لن يسمح بأن يتمّ إملاء الأمور عليه. أما الموضوع الذي يشكّل موضع خلاف جدي فيتعلق بالملاحق العسكرية الواردة في معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية التي أُبرمت عام 1979 والتي يرغب الرئيس مرسي، شأنه شأن معظم المصريين، في مراجعتها. حين قامت مجموعة من المسلحين في سيناء في 5 غشت بالهجوم على حاجز للجيش المصري على الحدود بين مصر وقطاع غزة، مما أدى إلى مقتل 16 جنديا مصريا وجرح آخرين، أرسل مرسي على الفور قوة تضمّ جنودا وطائرات مروحية ودبابات لمطاردتهم. لكن، تنص الملاحق العسكرية على أن مصر يجب أن تحصل على موافقة مسبقة من إسرائيل قبل إرسال الدبابات إلى سيناء، على رغم أن هذه المنطقة تخضع للسيادة المصرية. ويبدو أن مرسي لم يشعر بالحاجة إلى القيام بذلك. حين أجريتُ في شهر شتنبر الماضي مقابلة مع عمرو موسى، وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية والذي كان حينها مرشحا للرئاسة المصرية، دعا إلى مراجعة الملاحق العسكرية، وقال لي: «ستظل معاهدة السلام قائمة إلا أن مصر بحاجة إلى قوى في سيناء، فالوضع الأمني يتطلب ذلك. يجب أن تفهم إسرائيل أنه يجب مراجعة القيود التي تفرضها المعاهدة». ولا شكّ في أن مرسي يشاطره الرأي. لم يعجب هذا الحديث إسرائيل، فقد ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز، في 22 غشت أن إسرائيل «قلقة» بسبب غياب التنسيق، وطلبت من القاهرة سحب دباباتها. إلا أن إسرائيل تجد نفسها في وضع صعب، فهي تريد أن تحافظ مصر على الأمن في منطقة سيناء التي تعاني الفوضى والاضطرابات، إلا أنها تخشى أن يؤدي نشر القوات المسلحة المصرية إلى تهديد أمنها في يوم من الأيام. ووجّه دنيس روس، الذي يعمل في معهد واشنطن (المتفرّع من مجموعة «آيباك» التي تشكل اللوبي الإسرائيلي في الولاياتالمتحدة) انتقادات لاذعة عبر صحيفة «واشنطن بوست» في 19 غشت إلى مرسي بسبب إرساله الدبابات إلى سيناء من دون إبلاغ إسرائيل، وقال: «في حال استمرار هذا التصرّف، ستتوقف الولايات المتحدّة عن تقديم الدعم إلى مصر الذي يعدّ ضروريا للحصول على المساعدة الاقتصادية الدولية ولتعزيز الاستثمار». ويعتبر روس، المعروف بأنه «محامي إسرائيل» بسبب دفاعه على مدى عقود عن المصالح الإسرائيلية حين كان في الحكومة، أنه لا يزال يتحدّث باسم الإدارة الأمريكية. ويجب أن نأمل أنه على خطأ في هذا الاعتقاد. أما الخطوات الأخرى التي قام بها مرسي والتي أثارت قلق واشنطن وتل أبيب فهي إقالة مجموعة من الضباط الكبار الذين أقامت إسرائيل والولايات المتحدّة علاقات وثيقة معهم على مرّ السنوات. وتضم هذه المجموعة من فلول نظام مبارك وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان وقادة القوات البحرية والجوية والدفاع ومدير جهاز الاستخبارات مراد موافي، إلى جانب قادة آخرين. وعيّن الرئيس مرسي اللواء عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع واللواء صدقي صبحي رئيسا للأركان. ويبدو أن الرجلين يشاركان الدكتور مرسي رغبته في التحرّر من النفوذ الأميركي والإسرائيلي. وتقوم أولوية الرئيس مرسي وفريقه على إعادة إحياء الاقتصاد في مصر الذي يبدو في وضع مزرٍ، إذ يجب إطعام 85 مليون شخص. كما يعدّ إنشاء فرص العمل ضروريا، ويجب إعادة تفعيل خدمات الحكومة؛ أما المساعدة الخارجية فضرورية. وفي ظلّ الظروف الحالية، ما من خطر يتهدّد معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية لجهة إمكان إلغائها، فلا يسع أي مصري اليوم التفكير في الحرب مع إسرائيل. ولا يبدو الجيش المصري مستعدا للتضحية بالمساعدة السنوية بقيمة 1.3 بليون دولار التي يحصل عليها من الولايات المتحدّة للحفاظ على السلام مع إسرائيل. إلا أن الرئيس مرسي سيسعى، بلا شكّ، إلى إقامة علاقة جديدة مع الولايات المتحدّة وإسرائيل. ومن الآن فصاعدا، من المرجّح أن تكون مصر أقل تسامحا إزاء معاملة إسرائيل السيئة للفلسطينيين الذين يقعون تحت الحصار والاحتلال؛ وسبق أن شدّد على الحاجة إلى معالجة مسألة فلسطين التي طالما تمّ إهمالها. وسيكون أقل استعدادا من سلفه للقبول بطبول الحرب التي تقرعها إسرائيل ضد إيران. ورغم أنه لن يكون قادرا على تحدّي هيمنة إسرائيل العسكرية المموّلة والمجهّزة والمضمونة من الولايات المتحدّة، سيسعى إلى وضع حدّ لاستغلال إسرائيل هيمنتها، ولاسيما هجماتها المتكرّرة على الدول المجاورة لها. ويشعر عدد كبير من المصريين بالذنب حيال معاهدة السلام التي أُبرمت عام 1979 مع إسرائيل، فهم يعرفون أنه من خلال إبعاد مصر عن المعادلة العسكرية العربية، منحت معاهدة السلام إسرائيل أكثر من 30 سنة من الهيمنة العسكرية التي لم يتمكن أحد من تحديها وحرية ضرب الدول المجاورة لها متى شاءت دون أن تتعرّض للردّ. وقد جرب لبنان والفلسطينيون والعراق وسورية هجمات إسرائيل. يطمح الرئيس مرسي بوضوح إلى إعادة التوازن إلى علاقات القوة في الشرق الأوسط. ومن المثير أن نرى كيف سيقوم بهذا العمل، الذي يشكل خطرا كبيرا، وكيف ستختار الولايات المتحدّة وإسرائيل التصرّف تجاه هذه السياسة المصرية.