إن الحاجة إلى إصلاح التعليم لا تنقضي بابتكار نظرية أو مجموعة نظريات تجدد ممارسة التعليم وتقوم عناصره ، وهذا ما التفت إليه ابن خلدون في مقدمته حين ربط بين التعليم ووظيفته في المجتمع ، فإذا كان العمران يتطور والمجتمع يتطور فلا بد أن تتطور حاجاته وأن يتطور القصد من التعليم كذلك، لقد تجاوز ابن خلدون عصره حين دعا إلى إصلاح التعليم ، وحين وضع قواعد عملية للانخراط في الإصلاح المطلوب بما يتماشى مع حاجيات عصره . لقد شخص ابن خلدون وضعية التعليم في زمنه ووضع يده على مكامن الخلل فيه كمقدمة لإصلاحه وتجاوز عثراته ونستطيع القول أن مشروع إصلاح التعليم عند ابن خلدون يتضمن محورين هامين يركز الأول على توصيف مظاهر خلل منظومة التربية والتعليم ، وينص الثاني على الحلول العملية لتجاوز أزمة التعليم بالمغرب الإسلامي . مظاهرالخلل في التعليم المغربي: أ – المنظومات العلمية وأثرها في تدني مستوى التعليم : على عكس الرأي الذي ساد في زمن ابن خلدون والأزمنة التي سبقته فإن المنظومات التعليمية أضرت بالتعليم أكثر مما أفادته ومرد ذلك إلى أنها كانت تختصر العلوم اختصارا مخلا بالمعاني ، علاوة على إضرارها بذائقة الطلبة الفنية ، وابن خلدون نفسه يشير إلى أنه كان ضحية لهذه المنظومات وأن الشعر كان يحتبس عليه كلما أراد الشروع في نظم القصائد ،لانصراف ذهنه إلى أسلوب المنظومات التقريري الخالي من التصوير الفني والشعري ، ثم إن هذه المنظومات عادة ما كانت تلخص غايات العلوم عوض تقريب مبادئها لصغار المتعلمين. يقول ابن خلدون : " وسلبيات هذا الصنف من المقررات التعليمية الذي وضع للحفظ ، أنه يخل بالبلاغة ويعسر على الفهم ، إضافة إلى سوء برمجته في بعض الأسلاك التعليمية ، وهو فساد في التعليم ، وفيه إخلال بالتحصيل وذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ ، بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد ، وهو من سوء التعليم … ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراجم المعاني عليها ، وصعوبة استخراج المسائل من بينها . " ب – الاقتصار على الحشو والتلقين وأثره في التشويش على أذهان المتعلمين: لم يكن الذين يمتهنون مهنة التدريس في زمن ابن خلدون من خريجي مدارس تختص بإعداد المعلمين وتكوينهم وتدريسهم على طرائق التدريس وأساليبه ، وعادة ما كان الذين يتوجهون نحو التعليم من الطلبة الذين يختلف أسلوبهم في التربية والتعليم باختلاف المعارف التي تلقوها في مراحل طلبهم للعلم ، وتختلف طرائقهم باختلاف أمزجتهم واجتهادهم في إلقاء الدروس وتربية تلامذتهم ومريديهم، وعلى الجملة لم يكن هناك منهج يلزم المربي أو المعلم باتباع أسلوب موحد في التدريس ، غير أن معظم المدارس كانت تجمع على اتباع أسلوب التلقين المباشر الذي يقصي المتعلم عادة ويحوله إلى عنصر مستقبل للمعرفة ليس من حقه التفاعل معها ولا إنتاجها ، وإضافة إلى التلقين فقد راهنت المدرسة المغربية في تلك الفترة على الحشو ومراكمة المعلومات والمعارف لتمرير قيم المجتمع وعلومه التي لم يكن بعضها منسجما مع آليتي التلقين والحشو . يقول ابن خلدون : " كثير من المعلمين لهذا العهد يجهلون طرق التعليم وإفاداته ، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها ، وقبل أن يستعد لفهمها . " ج – الهدر المدرسي آفة التعليم : صحيح أن ابن خلدون حين تحدث عن الهدر المدرسي ميز بين نوعين من الهدر ، أحدهما ينتج عن خلل في عملية التعليم ويحول دون وصول المعلومة للطالب، والثاني يفضي إليه انقطاع المتعلم عن الدرس كليا ، ولكنه شدد على خطورة الثاني دون الأول فكل خلل في منظومة التعليم قابل للإصلاح متى توفرت الإرادة ، غير أن الانقطاع عن التعليم لا سبيل لتدارك أخطاره إلا بتجنب الأسباب المفضية إليه قبل حدوثه ، كما أن الهدر الذي يحدث بسبب نقص في كفاءة المعلم أو بسبب تعقيد موضوعات التعلم أو بسبب فتور همة المتعلم ، مقدور على معالجة أسبابه ، وأما الانقطاع عن المدرسة فمرده عادة إلى فساد أحوال الصبية واعتقادهم أن مرحلة التعلم ماهي إلا مرحلة قهر وعنف وعسف سرعان ما يتخلصون منها حين تواتيهم القدرة ، يقول ابن خلدون : " عادة ما يعرض للولد في جنون الصبى من الآفات والقواطع عن العلم فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر ، فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة . " د – تقديم الوسائل على الغايات يضيع القصد من التعليم : أشار ابن خلدون إلى نقطة هامة كانت سببا في هدر طاقة المتعلمين والمعلمين معا ، وهي الخلط في تحديد أولويات التعليم وتقديم الوسائل على الغايات ، وقد ضرب أمثلة عديدة لتركيز المعلمين على وسائل العلوم وانصرافهم عن لبها ، ومن تلك الأمثلة ما أورده عند حديثه عن المصطلحات التي يتغير مبناها على اختلاف العصور والأمصار وتدل على معنى واحد ، فقد لاحظ ابن خلدون أن المدرسة المغربية كانت ترهق طلبتها باستيعاب كل تلك الاصطلاحات دون فائدة تذكر فتفوت عليهم فرصة التوسع في باقي الفنون والمعارف وتغرقهم في جزئيات لا طائل من وراء الإحاطة بها، مادامت تؤدي معنى واحد ، ومثل ذلك الإقبال على علوم الآلة مثل النحو والصرف والتوسع في دقائقها ومسائلها وهي ليست غاية في ذاتها . يقول ابن خلدون : " وأما العلوم التي هي آلة لغيرها كالنحو والمنطق وأمثالها فلا ينبغي أن ينظر فيهما إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيهما الكلام ولا تفرع فيهما المسائل ، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود ، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير … " فهناك غايات لابد من إدراكها بالتعلم فإن غاب هذا التصور لدى المعلم ضاعت تلك الغايات . يقول ابن خلدون : " لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها ، فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد " . ركائز مشروع إصلاح التعليم عند ابن خلدون : 1 – الواقعية : يعاب على كثير من النظريات التعليمية إغراقها في التجريد وعدم تقديمها لحلول عملية لقضايا التعليم الشائكة وهذا ما يدفعنا للقول أن ابن خلدون قد أنتج نظرية علمية تربوية عملية بكل المقاييس وأن مشروعه الإصلاحي اهتم بالمستويات المباشرة في العملية التعليمية التعلمية ولم يقتصر على المستوى النظري وحسب وأهم سمة تميز مشروع ابن خلدون هي الواقعية والقابلية للتطبيق ، لقد مارس ابن خلدون التدريس بتونس والقاهرة وحضر حلقات القرويين والأزهر الشريف . يقول عن نفسه : " ولما دخلتها (مصر ) أقمت أياما وانثال علي طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة ولم يوسعوني عذرا فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها " . والملاحظ أن ابن خلدون لا يتوقف عن تقديم الحلول العملية في كل القضايا التربوية التي يعرض لها مما يجعل مشروعه أقرب إلى التطبيق من سائر المشاريع التي صاغها معاصروه . لم يكن ابن خلدون من الذين يميلون إلى تحفيظ القرآن تحفيظا آليا لا ينمي ملكة الفهم لدى المتلقي ، وقد أولى موضوع الفهم عناية خاصة غير أن الفهم ليس غاية في ذاته إنه مقدمة لخلق علاقة وجدانية بين المتعلم وموضوعات التعلم من جهة وبين المعلم والمتعلم وبين المتعلم ومحيطه من جهة أخرى ، وعليه فالقرآن يشد الطالب إلى العلم ويخلق لديه الحافز لمواصلة التعلم ويصنع منه رجلا صالحا في المجتمع متى اقترن حفظه بالفهم والتطبيق الواعي لتعاليمه . يقول ابن خلدون : إن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين الذي أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم ، لم يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان، وعقائده من آيات القرآن ، وبعض متون الأحاديث ، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبني عليه ما يحصل بعد الملكات ، وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده ولأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات ، وعلى الأساس وأساليبه يكون حال من يبني عليه " إن التعليم عند ابن خلدون عمل واع يرمي إلى إحداث أثر طيب على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع ككل ولا يمكن لهذا العمل أن يؤتي أكله دون رسم منطلقاته والغاية من ورائه بدقة متناهية، لقد عانت لمدرسة المغربية طويلا من غياب الأهداف في المناهج التربوية ومن تعارضها أحيانا وهو ما يدعو إلى تحديد الأهداف من التعلم في كل عملية إصلاحية تنشد الرقي بالتعلم، ولا يتحدث ابن خلدون عن غاية واحدة من التعلم بل عن غايات متنوعة تتعدد بتعدد حاجيات المجتمع ،ومن أهم هذه الأهداف الهدف الأخلاقي الذي يؤتي أكله في سنين التعلم الأولى يقول ابن خلدون : " إن الإنسان ابن عوائده ومألوفه …، فالذي ألفه في الأحوال صار خلقا وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة ". ثم يأتي بعده الهدف العقلي ، فتنمية المجتمع عند ابن خلدون تمر عبر تنمية الفرد وتنمية مدارك العقل هي البوابة الأولى نحو تنمية الفرد ، ومن عناصر هذه التنمية لدى ابن خلدون تحفيز قدرته على الخلق والإبداع وتقوية ملكة التصرف في اللغة لديه وتحرير ذهنه من قيود التبعية والجمود . 4- التركيز على البعد الرسالي في شخصية المعلم : إن التعليم في بداياته بالمغرب لم يكن مهنة بالمعنى المألوف للكلمة اليوم ولكنه رويدا رويدا صار مصدرا من مصادر الدخل وصار المغاربة يتنافسون على وقف أملاكهم على الكراسي العلمية ومدارس العلم ، وتحولت بعض الجامعات ومدارس العلم إلى مؤسسات تمتلك موارد ضخمة، فلم يعد التعليم لذلك عملا تطوعيا يمارسه المعلمون طلبا للثواب والأجر من الله فقط، بل عملا مدرا للدخل يدر عائدات هامة حسب كفاءة المدرس وجودة ما يقدمه لطلبته وتلاميذه، غير أن هذه الطفرة على القدر الذي طورت فيه أداء المعلمين لأنها صرفتهم عن الانشغال بغيره أثناء مزاولته وامتهانه ، على القدر الذي أضرت فيه بالعملية التعليمية برمتها حين أفرغتها من حمولتها الوجدانية ، وحين جردت ممارسة التعليم من معانيها النبيلة بعد أن تحولت إلى صنعة لا تختلف عن باقي الصنائع ، ولهذا فإن ابن خلدون يلفت الانتباه في مشروعه الإصلاحي إلى هذه النقطة ويؤكد ألا رقي للتعليم إلا بإحساس المعلمين بأهمية الرسالة التي يحملون على عاتقهم ، فالكفاءة لوحدها لا تكفي لتربية النشء ما لم تعضدها رغبة صادقة من المعلم في خدمة مجتمعه من خلال أداء رسالته على أتم وجه . وختاما ، فعلى الرغم من أهمية الأفكار التعليمية التي أوردها ابن خلدون في مقدمته وأهمية مشروعه الإصلاحي وتماسك عناصره إلا أنه ظل بعيدا عن المدرسة المغربية غائبا عن مناهجها رغم حضورها القوي في منهاجه ، ولعل الحديث اليوم عن إصلاح التعليم بعيدا عن ابن خلدون وأمثاله من العلماء المغاربة الأفذاذ لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب الانتحار الحضاري ، وابن خلدون نفسه أشار إلى ذلك في مقدمته حين تحدث عن انبهار المغلوب بالغالب واجتهاده في تقليده . إن استلهام التصورات الإصلاحية في مجال التعليم من ثقافات مغايرة لثقافتنا لم يخدم قضية الإصلاح في شيء ، ذلك أن استيراد التصورات والقيم والمناهج والطرائق والبيداغوجيات لم يراع اختلاف واقعنا عن الواقع الذي نحاول استنساخه ولم يراع ارتباط التعليم بمشروع الأمة الحضاري ارتباطا وثيقا ، والحضارة في حقيقتها بناء يشيده الغيورون على أمتهم لبنة لبنة ، وليست سلعة للتصدير والاستيراد ، إنما هي صرح يقوم على المقومات الذاتية لكل أمة ترغب في النهوض ، وفكر ابن خلدون مثل غيره من الإنتاجات الفكرية لعلماء المغرب الأبرار مقوم من أهم هذه المقومات وأنجعها في الدفع بعجلة الرقي نحو الأمام.