صدمة في غابة دونابو بطنجة: قطع الأشجار يثير غضب المواطنين    إضراب عام في المغرب احتجاجًا على تدهور القدرة الشرائية وتجميد الحوار الاجتماعي    مداهمة مطعم ومجزرة بطنجة وحجز لحوم فاسدة    نبيلة منيب: مدونة الأسرة تحتاج إلى مراجعة جذرية تحقق العدالة والمساواة -فيديو-    المغرب واليمن نحو تعزيز التعاون الثنائي    ارتفاع تحويلات مغاربة العالم    توقيف سائق طاكسي بأكادير بتهمة ترويج القرقوبي    أكادير تحتفي بالسنة الأمازيغية الجديدة بتكريم مايسترو الرباب لحسن بلمودن    مهرجان قرطاج لفنون العرائس يعود بمشاركة 19 دولة وعروض مبتكرة    التساقطات المطرية الأخيرة تعيد الآمال للفلاحين وتعد بموسم فلاحي جيد    وهبي: العدالة الانتقالية تجربة وطنية أفضت إلى المصالحة بين المجتمع المغربي وتاريخه    الشبيبة التجمعية تشيد بمجهود الحكومة استعداداً للمونديال وفي "تصفية تركة حكومتي العشر سنوات العجاف"    الاتحاد المغربي للشغل ينظم إلى الداعين لخوض "الاضراب العام"    الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يمنح فوزي لقجع الجائزة التقديرية ل2024    النصيري يمنح الفوز لفنربخشة أمام ريزا سبور    مفتاح الوقاية من السرطان.. دراسة تؤكد أن الرياضة وحدها لا تكفي دون الحفاظ على وزن صحي!    المفوضية الأوروبية تحذر من "رد حازم" إذا استهدف ترامب منتجاتها برسوم جمركية "تعسفية وغير منصفة"    ابن تطوان "الدكتور رشيد البقالي" ينال إعجاب علماء كبار ويظفر بجائزة عالمية في مجال الفكر والأدب    التساقطات المطرية الأخيرة ترفع نسبة حقينة سدود المملكة إلى أزيد من 27%    الشرع: الرياض تريد دعم دمشق    بني ملال ينتزع التعادل مع بركان    صادرات قطاع الطيران ناهزت 26,45 مليار درهم سنة 2024    خبير صحي يحذر: إجراءات مواجهة "بوحمرون" في المغرب "ضرورية ولكنها غير كافية"    المغرب يتسلم رئاسة التحالف الإفريقي للعلوم والتكنولوجيا لتعزيز التنمية المستدامة    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    بعد انضمامه للأهلي.. بنشرقي: اخترت نادي القرن لحصد الألقاب    فتح تحقيق جنائي بحقّ زوجة نتانياهو    أسعار المحروقات تشهد زيادة "طفيفة" للمرّة الثانية توالياً خلال شهر بالمغرب    العثور على مهاجر مغربي مقتول داخل سيارته بإيطاليا    تحولات "فن الحرب"    نشرة إنذارية (تحديث): تساقطات ثلجية وأمطار قوية مرتقبة من الأحد إلى الثلاثاء بعدد من أقاليم المملكة    المغاربة أكثر الجاليات اقتناء للمنازل في إسبانيا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الزوبير بوحوت يكتب: السياحة في المغرب بين الأرقام القياسية والتحديات الإستراتيجية    القيمة السوقية لدوري روشن السعودي تتخطى المليار يورو    الإرث الفكري ل"فرانتز فانون" حاضر في مهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش    تطوان تحتفي بالقيم والإبداع في الدورة 6 لملتقى الأجيال للكبسولة التوعوية    القنيطرة... اختتام دوري أكاديميات كرة القدم    باب برد: تفكيك عصابة إجرامية متورطة في سرقة وكالة لتحويل الأموال    حكومة أخنوش تتعهد بضمان وفرة المواد الاستهلاكية خلال رمضان ومحاربة المضاربات    هكذا يخطط المغرب لتعزيز أمن منطقة الساحل والصحراء    الإعلام في خدمة الأجندات السياسية والعسكرية    الرجاء البيضاوي يتجه إلى إلغاء الجمع العام مع إناطة مهمة الرئاسة إلى بيرواين حتى نهاية الموسم    تجميد المساعدات الأميركية يهدد بتبعات خطيرة على الدول الفقيرة    دراسة: هكذا تحمي نفسك من الخَرَفْ!    استئناف المفاوضات بين حماس وإسرائيل الاثنين بعد رابع عملية تبادل للرهائن والمسجونين    الصين: شنغهاي تستقبل أكثر من 9 ملايين زائر في الأيام الأربعة الأولى من عطلة عيد الربيع    المنتخب الوطني لأقل من 14 سنة يجري تجمعا إعداديا بسلا    الجمعية المغربية لدعم إعمار فلسطين تجهز مستشفى الرنتيسي ومستشفى العيون باسطوانات الأكسجين    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في بعض فصول مقدمة ابن خلدون
نشر في هسبريس يوم 04 - 10 - 2015


تمهيد
لقد حظيت مقدمة ابن خلدون بعناية شديدة لدى مختلف أصناف الباحثين المعاصرين المنتمين لفروع معرفية تمتد من الفلسفة إلى تاريخ العلوم البحثة مرورا بعلم الاجتماع و الديداكتيك و علم النفس التربوي و التاريخ والتصوف و علوم اللغة و الاقتصاد و العلوم السياسية، و لذلك فإن المقدمة الخلدونية لا ينبغي اعتبارها تمهيدا أو توطئة بالمعنى الشائع، فهي موسوعة شاملة لأصول كثير من المباحث العلمية المعاصرة، و هذا هو السر وراء ذيوعها في الأوساط الاكاديمية و اعتناء كبار فطاحلة المستشرقين الاوروبيين بها، بل إن أغلب من ينتسب إلى أهل الفكر في العالم العربي الاسلامي قد سبق له أن نهل من معينها، و نشير في هذا السياق إلى كل من المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي اشتغل على المقدمة في أطروحته الجامعية، و ركز اساسا على مقاربة مفهوم العصبية عند ابن خلدون، بينما نجد عبد الله العروي يعتمد هذه المقدمة كمرجع اساسي في العديد من مؤلفاته، و أفرد لها بنسالم حميش أطروحته الجامعية في السوربون، و استبطنها في روايته ( العلامة)، و اعترف المفكر المغربي طه عبد الرحمن في بعض حواراته بأنه يستوحي مناهجها في كتاباته المنطقية، و قبل ذلك فقد كانت مقدمة ابن خلدون موضوع أطروحة طه حسين في فرنسا لنيل الدكتوراه في التاريخ، و لا يسعنا استقراء كل الأبحاث التي أنجزت حولها في هذه التوطئة، فهذا ليس إلا غيضا من فيض.
و سنكتفي في هذه المقاربة المتواضعة بدراسة ما ورد في بعض فصول المقدمة المتعلقة بمناهج التعليم و التأليف و ما يتعلق بها من مباحث لسانية تعالج إشكالية اكتساب اللغات، و هذه الفصول وردت في الجزء الأخير من المقدمة.
و لعل من نافلة القول التذكير بأن مقدمة ابن خلدون ليست إلا تمهيدا لكتاب بعنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
مفهوم التأليف و مناهجه لدى ابن خلدون
يفرد ابن خلدون 3 فصول لمسألة التأليف، و يشير في الفصل الأول منها إلى كون انتشار التصنيف في فرع من فروع المعرفة ليس أمرا إيجابيا، بل إنه يشكل عائقا ابستمولوجيا يحول دون التحصيل السليم للعلوم، و لكن المتأمل في عبارة ابن خلدون هنا يخلص إلى أن مقصده الأساسي ينصرف إلى تعدد المناهج و ليس إلى فعل التأليف المجرد، و يعبر ابن خلدون عن ذلك بقوله (اختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها)، و يمثل لذلك في الفقه بتعدد مناهج تدريس المذهب المالكي و التي بلزم بها الطالب و يستغرق عمره في تحصيلها حتى يستحق منصب الافتاء، و ينطبق هذا الوصف على كيفية تحصيل علوم العربية، و لذلك فإن ابن خلدون يحمل على هذه المناهج لأنها تؤدي إلى تعقيد الوسائل البيداغوجية و امتداد مراحل التعليم.
و الواقع أن ابن خلدون و إن كان يعيب على المتقدمين كثرة المناهج في التأليف كما ذكرنا، فإنه لا ينكر ما قد يترتب عن ذلك من فائدة لمن أراد التخصص و التعمق في علم من العلوم، و بلوغ أقصى المراتب في الاحاطة بمسائله، و لكن من يبلغ هذه الرتبة في حكم النادر من اهل العلم، و النادر لا حكم له، و هذا هو مناط القياس عند ابن خلدون، لأنه لا يقيس على من شذ من العباقرة بل إنه يؤسس لمنهج علمي على القاعدة العريضة لأغلب المتعلبين من أوسط أهل الفطنة و الذكاء، و هذا ينسجم مع المناهج التربوية المعاصرة التي تستند إلى مستويات الذكاء السائدة في تأسيس المنظومات البيداغوجية.
يقول ابن خلدون مبينا عدم خضوع العباقرة من آحاد الناس للقواعد العامة لعلم التربية ( و هذا نادر من نوادر الوجود)، يقصد بذلك من أحاطت ملكته بعلم من العلوم حتى استولى عليها.
ثم يعطف ابن خلدون في فصل لاحق على بيان المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و يجملها في سبعة أولها استنباط و تاسيس علم جديد أو مباحث مستحدثة، و ثانيها شرح و بيان أمهات الكتب العصية على الفهم، و ثالثها بيان الأخطاء الابستمولوجية في الأنظمة المعرفية الشهيرة و رابعها إتمام فرع معرفي بإلحاق بعض المباحث به، و خامسها تهذيب و ترتيب مسائل العلوم و سادسها تاسيس علم جديد انطلاقا من جمع مباحث متفرقة بين فروع معرفية مختلفة، و آخر هذه المقاصد هو تلخيص أمهات الكتب المطولة و اختصارها.
و الواقع أن ابن خلدون استعار هذه المقاصد من فلسفة أرسطو الذي كان يرى أن المؤلف لا يجوز له محاكاة المؤلفات السابقة و نسبتها إلى إبداعه.
ثم ينتقد ابن خلدون في فصل لاحق ذلك الشغف و الولع بكثرة الاختصار في العلوم الذي كان سائدا في فترة متأخرة من التاريخ الاسلامي و الذي ترتب عنه إخلال منهجي و بيداغوجي يحول دون فتح المجال للنقاش و تحصيل الملكات النافعة و تؤدي إلى ذيوع ثقافة الحفظ و التكرار التي تعتبر عائقا ابستمولوجيا يمنع من تطور العلوم.
و لذلك فإن ابن خلدون يقوم برسم ملامح نظريته الديداكتيكية التي تعتبر بديلا عن منظومة الحفظ في فصل يبحث عن وجه الصواب في تعليم العلوم، و يمكن إجمال هذا المنهج التربوي في ضرورة مراعاة التدريج و عدم حرق و تجاوز المراحل و المستويات التعليمية، و هذا ما يتفق مع النظريات الحديثة في علم التربية.
و يلاحظ ابن خلدون أن الجودة في التعليم تحصل بمراعاة هذه المراحل و التي يتم فيها تكرار شرح و بيان المسائل العلمية بكيفية بيداغوجية يستهل التلقين فيها بشرح اساسيات العلوم و مبادئها الأولية على وجه الإجمال ثم يتم الارتقاء بالمتعلم إلى مستوى اخر تبين فيه مواضع الخلاف و الاجتهادات و المقاربات الابستمولوجية ليتم في اخر المطاف بسط المسائل العلمية على وجه التفصيل و الاسهاب و رفع كل غموض أو تعقيد محتمل حتى يرسخ المتعلم و تجود ملكته في ذلك الفرع المعرفي موضوع التعليم.
و في هذا السياق يحمل ابن خلدون بشدة على مناهج التعليم التي يتم استهلال العملية التربوية فيها بإلزام المتعلم بمناقشة و فهم المباحث المعمقة و الدقيقة التي لا تناسب مستواه المعرفي، بل إنها لا تناسب إلا الراسخين في ذلك التخصص العلمي الذين بلغوا غاية الإحاطة به.
و يتميز المنهج الخلدوني البيداغوجي بمراعاة خصوصية الفرع العلمي موضوع التلقين، إذ أنه لا يجوز في نظره خلط المباحث العلمية المكونة للتخصص الدقيق بغيرها من المسائل المنتمية لفرع معرفي اخر، لأن في ذلك تشتيتا لذهن المتعلم و مانعا له من رسوخ ملكته، و يسري نفس الأمر بالنسبة لضرورة مراعاة التتابع و التكرار في الحصص التعليمية و أن لا يفصل بينها فترات انقطاع قد تحول دون استجماع عناصر الملكة التعليمية.
و لا يجوز في المنهج التعليمي الخلدوني الجمع بين تخصصين معرفيين في ان واحد لأن القدرة الذهنية للمتعلم غير قادرة على الاحاطة بهما معا جملة واحدة، فلا بد من إفراد كل علم ببرنامج خاص.
مفهوم الحجاج و الاستدلال الطبيعي عند ابن خلدون
يرى ابن خلدون أنه رغم الأهمية التي لا تنكر لعلم المنطق و كونه منهج للفكر الانساني و ما يتفرع عنه من علوم، إلا أنه يمكن الاستغناء عنه بما يسمى في عصرنا بالحجاج الطبيعي أو ما يسميه ابن خلدون ( الطبيعة الفكرية)، و تأتي المعايير المنطقية و معها القواعد النحوية في مرحلة لاحقة للإنتاج الفكري، و بمعنى اخر فإن أهمية هذه المعايير و القواعد تبرز بمناسبة التأليف و إخراج ثمرات الفكر ليستفيد منها الغير، و لكنها لا تكون مصاحبة لفعل الابداع و الاجتهاد العلمي لأن ذلك يثقل ذهن العالم و يحول دون إطلاق العنان لحرية الفكر.
و الواقع أن نظرية ابن خلدون في التمييز بين الاستدلال المنطقي الصوري و الحجاج الطبيعي يمكن اعتبارها من المحاولات الأولى في هذا المجال، و تلتقي في معالمها و اصولها مع أحدث النظريات في المنطق و الاستدلال و التي تجمع على ضرورة تجاوز المنطق الارسطي الكلاسيكي الذي أصبح قاصرا عن الاحاطة بميادين الفكر الانساني.
و يمكن اعتبار نظرية ابن خلدون أصلا لنظريات حجاجية عديدة، بعضها ينتمي إلى البلاغة وبعضها ينتمي إلى المنطق أو المنطق الطبيعي، وهناك من عالج الحجاج من منظور لساني، ويتمثل الحجاج بالنسبة إلى برلمان (C.Perelman) في مجموعة من التقنيات الخطابية الموجهة إلى إقناع المتلقي أو الرأي العام. وهو إن كان يلح على ضرورة التمييز بين البرهنة والحجاج، فإنه يعتبر البرهنة شكلا من أشكال الحجاج، إلا أنها تختلف عنه من حيث إنها تركز على جانب واحد هو الجانب الصوري الاستنتاجي. فإذا كانت البرهنة يمكن أن تقدم على شكل حساب، فإن الحجاج يهدف إلى الإقناع والتأثير والاتفاق، ولا يمكن تصوره إلا في إطار نفسي اجتماعي.
أما جان بليزغريز فينظر إلى الحجاج باعتباره نشاطا منطقيا خطابيا، إنه نشاط خطابي لأن الأمر يتعلق بتفكير كلامي؛ أي أن الوسيلة المستعملة للتواصل هي اللغة، وهو نشاط منطقي لأنه يتمثل في مجموعة من العمليات الذهنية، ولأنه ينتمي بالتالي إلى ما يعرف بالمنطق الطبيعي، إن الحجاج – بالنسبة إلى غريز – هو مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية لمتكلم ما، يتوجه بخطابه إلى مستمع معين، من أجل تغيير الحكم الذي لديه عن وضع محدد. ويتأسس الحجاج عنده، انطلاقا من مفهوم الخطاطة التي هي أهم منه، فليس هناك إنتاج خطابي لا يؤدي إلى إنتاج خطاطات وتمثيلات عن العالم الآخر، ولكن ليست كل غاية خطابية حجاجية بالضرورة .
أما النموذج الذي اقترحه أزفالد ديكرو، فهو نظرية لسانية تدرس الحجاج في اللغة، باعتباره ظاهرة لغوية. الحجاج، بالنسبة إلى هذا اللغوي، فعل لغوي ووظيفة أساسية للغة الطبيعية، ثم إنه مؤشر له في بنية اللغة فهناك أدوات وروابط وعبارات لغوية يتمثل دورها الوحيد أو الأساسي في القيام بالعمليات الحجاجية.
فالخطاب الطبيعي إذن، ليس خطابا برهانيا، وبالتالي فهو لا يحترم مبادئ الاستنتاج المنطقي أو البرهنة الرياضية(démonstration)، ولا القوانين المنطقية التي نجدها في منطق القضايا أو منطق المحمولات أو في أي نسق آخر من الأنساق المنطقية والرياضية. فما نجده في الخطاب أو في اللغات الطبيعية هو الحجاج وهو منطق اللغة أو هو – على الأصح – تصور من التصورات الممكنة لهذا المنطق الذي يحكم اللغة الطبيعية والذي يختلف اختلافا كبيرا عن المنكق الياضي أو المنطق الصوري، يختلف عنه من حيث طبيعته ومجاله واشتغاله. أما بخصوص الاستدلال فهناك في الحقيقة ألفاظ عديدة يشار بها إلى الاستدلال وأنواعه وأنماطه. فاللغة العربية تتضمن مصطلحات عديدة منها :الاستدلال والحجاج والبرهنة و الاستنتاج والاستنباط والاستقراء و التدليل والتعليل والتبرير والقياس...الخ. ولكن المصطلح العام الذي يشير إلى جنس الفعل هو مصطلح الاستدلال.
و هكذا فإن ابن خلدون يعتبر من الأوائل الذين تنبهوا إلى عدم ضرورة مراعاة المقولات المنطقية الارسطية في الانتاج العلمي، غير أنه يعترف في فصل اخر بأن للمنطق ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة، والحجاج لتحصيل ملكة الجودة، والصواب في البراهين.
و لهذا فإن ابن خلدون يعيب على من يشتغل بكل من النحو و المنطق اشتغالا يستغرق مراحل الدراسة و التعليم، لأنه يرى أن هذه العلوم لا تتعدى كونها الة لغيرها من العلوم الاساسية أو ما يصطلح عليه ابن خلدون ( العلوم المقصودة).
ملامح النظرية البيداغوجية عند ابن خلدون
إن من يتأمل في ثنايا ما جاء في مقدمة ابن خلدون مما له علاقة بالعملية التعليمية عموما يتبين له أن الرجل يؤسس لنظرية خاصة لها معالمها و شروطها و مناهجها و الياتها، ذلك أن اساس هذه النظرية يعتمد مفهوم الملكة، و هذا المفهوم يتكرر كثيرا في مجموعة من الفصول التي تتناول أنواع العلوم و أصناف الصناعات، و المقصود بالملكة تلك القدرة على الاحاطة بفن من الفنون سواء كان علما نظريا أو تقنية صناعية.
و لقد حظيت نظرية ابن خلدون في التدريس بالملكات بعناية و اهتمام بعض الباحثين المغاربة في علوم التربية مؤخرا، و ذلك بعد فشل بعض النماذج المستوردة من الغرب كما هو الحال مثلا بالنسبة لنموذج الكفايات الذي شغل رجال التعليم فترة من الزمن حتى تبين للمختصين عدم مسايرته و مواكبته للإشكاليات العديدة التي تترتب عن العملية التعليمية.
و يعتبر الباحث المغربي الاستاذ محمد الدريج من أبرز من انتبه في الاونة الأخيرة لأهمية مفهوم الملكات عند ابن خلدون، و قام بمحاولة بناء نموذج بيداغوجي و ديداكتيكي يعتمد هذا المفهوم جملة و تفصيلا و يحاول إسقاطه على المناهج التربوية، وتستوجب نظرية محمد الدريج تجديد المقررات والمضامين الدراسية لتنسجم مع فلسفة الملكات.بمعنى أن تستهدف هذه المحتويات استكشاف الملكات لدى المتعلم، سواء أكانت أساسية أم نوعية، مع تصنيف المضامين حسب الملكات المستهدفة. ولابد من التدرج في بناء هذه المضامين من السهولة والبساطة إلى المعقد والمركب. ولابد من مسايرة ما استجد من المناهج والتصورات والنظريات، والتكيف السريع مع ما استحدث من معلومات وأفكار، كالانفتاح على العوالم الرقمية، والاستفادة من القراءة الممسرحة، وفلسفة التنشيط، وتنمية الذكاءات المتعددة، وتطوير الملكات المختلفة والمتنوعة. وينضاف إلى ذلك، أنه لابد من ترقية ملكات المتعلم المختلفة، كملكة الكتابة، وملكة القراءة، و غيرها.
وينطلق المدرس من فلسفة الملكات كما يحددها الأستاذ الدكتور محمد الدريج، فيبين في جذاذاته طبيعة الملكات المستهدفة في الدرس، ويصنفها إلى ملكات أساسية وملكات نوعية، قد ترتبط بالدرس فقط أو تكون ملكة مستعرضة أو مندمجة مع باقي المواد والوحدات والمجزوءات الأخرى. كأن يحدد المدرس طبيعة الملكة التي يريد اختبارها وصقلها وشحذها، فيختار الملكة اللغوية – مثلا- في حصة اللغة أو النحو والإنشاء والتعبير، فيحضر المدرس مجموعة من الأنشطة التي تعزز هذه الملكة وتقويها وتنميها.
و إذا تأملنا في بعض ما ورد في فصول المقدمة المخصصة للقضايا التعليمية يتبين أن ابن خلدون يتبنى أحيانا بعض المواقف الأصيلة التي لا نجدها عند غيره، فهو يرى مثلا أن ملكة اللغة العربية لا يمكن أن تتحصل من مجرد الاقتصار على تعليم القران، و هو يشير هنا إلى المناهج التي كانت متبعة في التدريس في كل من تونس و المغرب و التي تستهل بحفظ القرأن و عدم خلطه بغيره من المعارف اللغوية و العلوم الأخرى حتى يتم الطالب حفظ كتاب الله حفظا تاما. و يستدل ابن خلدون على عدم حصول ملكة اللغة العربية من مجرد حفظ القران باستدلال عجيب، إذ أنه يرى أن القران لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لكون البشر مصروفون عن الاتيان بمثله، و يكون حظ صاحبه هو الجمود و القصور في التعبير، لأنه لن يستطيع النسج على منوال النص القراني و يأتي بمثله، فالقران نص معجز لا يمكن لأحد أن يحاول تقليده أو محاكاته.
و لذلك فإن ابن خلدون يتفق مع ما ذهب إليه القاضي ابو بكر بن العربي من وجوب استهلال التعليم بحفظ الاشعار و تلقين مبادئ الحساب ثم الاتنقال بعد ذلك إلى تعليم القران و تحفيظه، إلا أن ما يعاب على هذا المنهج حسب ابن خلدون أنه يعد مخاطرة بمصير المتعلم الذي قد ينقطع عن التعليم في مراحله الاولى ( الهدر المدرسي) فنفوت عليه فرصة تعلم القران و حفظه، إلا أنه مع ذلك فإن هذا النهج هو الراجع متى وقع اليقين بخلاف ذلك.
ثم إن ابن خلدون يحمل بشدة على المناهج القاسية في التعليم، و التي كانت سائدة في عصره، و التي كانت مرتبطة بوسائل التأديب ، و ما يترتب عنها من اصناف العقوبات التي ترمي إلى التحكم في المتعلم و حمله على بذل أكبر مجهود، في حين أن من شأن كل ذلك أن يؤدي إلى فساد معاني الانسانية و الاستقلالية، و هو ما يتفق مع النظريات الحديثة في علوم التربية، و يتفق مع المناهج المعتمدة في الدول الصناعية.
- محام بهيئة الدار البيضاء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.