سمتان مهمتان تميزان مشروع ابن خلدون التربوي، أولاهما ربطه للتربية بقيم المجتمع وأخلاقه، والثانية تقديمه للفهم والإدراك على حشو أذهان المتعلمين بالمعلومات، ولابد هنا من أن نلاحظ أن مشروع ابن خلدون كان ثوريا في حينه بكل المقاييس على اعتبار أن المدرسة المغربية في زمنه كانت تقدم الحفظ على الفهم، وكانت تلجأ إلى الشحن المعرفي كوسيلة لتنمية مدارك النشء وهو ما عارضه ابن خلدون بشدة ودعا إلى تغييره مما دفع بمجموعة من علماء تونس إلى محاصرته وطرده من تونس، فقد حاربه ابن عرفة المالكي وأوغر عليه صدر السلطان الحفصي بإفريقية، وأبعده عن مريديه بتونس إلى الأبد. إن ابن خلدون في صياغة منهاجه التربوي يصدر عن تشبع قوي بعقلانية الآبلي المتأثرة بمدرسة ابن البناء العددي الرياضية، ولا غرابة في ذلك فقد دافع ابن خلدون في منهاجه عن أولوية الهندسة والحساب في نظريته التربوية وأولاهما عناية خاصة. رغم أهمية الحفظ في منظومة التعلم عند ابن خلدون فإن الحفظ ليس غاية في ذاته كما أن الشحن المعرفي لا يراد لمجرد مراكمة المعلومات وكفى، فالتعلم الذي اختزل في حفظ المتون في البيئة الثقافية المغربية على امتداد قرون طويلة، لم يحقق غايات المجتمع في صناعة الإنسان الذي ينهض بأعبائه ومسؤولياته تجاه أمته بل تسبب تدريجيا في الجمود، ليس على مستوى الفكر والاجتهاد الفقهي فحسب، بل في كل مناحي الحياة. إن الحفظ حين تحول إلى قيمة أضر كثيرا بالمجتمع المغربي وعطل الإبداع وحول العلم إلى مجال للتنافس في التقليد وإعادة إنتاج نفس الأقوال والأفكار، وابن خلدون لم يثر على الحفظ والتقليد فحسب بل دعا إلى التركيز على إنسانية المتعلم كقيمة قصوى للتحرر من أغلال الجمود، يقول: «من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن». فمرد نبذ العنف في التربية هنا عند ابن خلدون يعود إلى أسباب قيمية وأخلاقية بالأساس لأن العنف الذي تكون غايته الإذلال لا ينتج مواطنا صالحا، بل إنسانا ميالا للكذب، مقدما للكسل على ما سواه خبيثا شغوفا بالدناءة، وهذا كله لا يسعف في بلوغ القصد من التعلم بل يهدم أسسه ويقوضها، وإذا كان المعلم عادة ما يلجأ للعنف لإجبار المتعلم على الحفظ فإنه يضر بقيم سامية لأجل تحقيق مبتغى أقل أهمية. ويعتبر ابن خلدون أن التربية على القيم والمثل تترك أثرا حاسما في نفوس النشء، يقول في ذلك: «البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم، وما ينتحلونه من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقيا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا». وعليه فلا بد أن ينضبط المربي لشرط الأخلاق، لئلا تنتقل منه خلة سيئة أو خلق رديء إلى متعلمه، وأما تقديمه للإدراك على الحفظ فيتجلى واضحا في الكثير من أرائه التربوية، فقد دعا ابن خلدون إلى التدرج في التعليم لييسر إدراكه، يقول: «اعلم أن تلقين المتعلمين للعلوم إنما يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا، وقليلا قليلا يلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك كله قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن». ويتحقق التدرج عند ابن خلدون بالتكرار وبالانتقال من البسيط إلى المعقد وبتلافي القضايا الخلافية في بداية الفن وإرجائها إلى مراحل لاحقة درءا للتشويش على المتعلمين، كما دعا ابن خلدون إلى تقديم تعليم اللغة والحساب على تحفيظ القرآن لتقوية ملكتي الفهم والإدراك وقد علل ذلك بكون النفوس ميالة إلى التقليد تواقة إلى جني ثمرات التعليم، وقد يتلازم عجزها عن قطاف الثمار بالنفور من مادة التعليم يقول: «ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام». ومراد ابن خلدون هنا ألا يصار إلى تحفيظ القرآن إلا بعد تمكين المتعلم من آليات فهمه وتدبر معانيه، ليحصل بحفظه الهدف المنشود، ولعل تقديم ابن خلدون للحساب والهندسة ناشئ عن هذا المبدأ، فالحساب عنده يهيء العقل لاستيعاب سائر العلوم فهو في مجموعه «معارف متضحة وبراهين منظمة، فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب» ثم إن الحساب يعلم الصدق لأنه يفضي إلى نتائج قطعية يقول «ومن أخذ نفسه بتعلم الحساب أول مرة، يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المعاني ومناقشة النفس، فيصير ذلك خلقا ويتعود الصدق ويلازمه مذهبا» وكذلك الهندسة فممارستها بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه، ثم بعد ذلك لا بأس عند ابن خلدون من الانتقال إلى الحفظ بعد رسوخ الملكات اللغوية واتقاد الذهن واستعداده للتصرف في المعارف التي سيختزنها فإنما الغاية هو ذلك التصرف الذي نسميه اليوم إبداعا لا مجرد مراكمة المفردات دون فهم معانيها وتدبرها.