هو أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي الملقب بالمنصور ولد سنة 554ه وكان عهده عهد رخاء لم تعرف له دولة المغرب مثيلا فقد ضاهت الحضارة الموحدية في زمنه نظيرتها العباسية وفي ذلك يقول عبد الله كنون في "النبوغ المغربي "كان عهده العهد الذهبي للمغرب سواء من ناحية استبحار العمران وازدهار الحضارة ،أو من ناحية استقرار النظام و انتشار العدالة ،فكانت المرأة تخرج من بلاد نول إلى برقة وحدها و لا ترى من يعرض لها و لا من يمسسها بسوء ،وكان الدينار يقع من الرجل في الشارع العمومي فيبقى ملقى لا يرفعه أحد عدة أيام إلى أن يأخذه صاحبه ،ويمكث القاضي الشهر وأكثر لا يجد من يحكم عليه ،لتناصف الناس وارتفاع مستواهم الخلقي ،وكان المنصور ينظر بنفسه في المظالم حتى إنه لينظر في قضية الدرهم و الدرهمين و ينصف من نفسه و يمتثل لحكم القضاة" . بويع المنصور بالخلافة سنة 580ه و ببيعته اتجه قدما نحو إصلاح مناهج الموحدين العقدية و التربوية فأولى علم الحديث عناية خاصة وكان يملي بنفسه على كبا رجال دولته من موطإ مالك و مسند أبي شيبة وسنن الدار قطني و سنن البيهقي وهو وإن لم يجاهر بذم مذهب سلفه ابن تومرت الذي أضل خلقا كثيرا إلا أنه صرح بأن ابن تومرت لم يكن معصوما و قرب العلماء من مجلسه حتى أغضب عصبة الموحدين فخطب فيهم مرة قائلا و قد أحس بضيقهم من تبوئ العلماء سنيات الرتب في عهده "يا معشر الموحدين أنتم قبائل فمن نابه أمر فزع إلى قبيلته وهؤلاء – طلبة العلم –لا قبيل لهم إلا أنا " ، وقد أحرق كتب الفلاسفة و "المذاهب " وفتح باب الاجتهاد وحض عليه و نبذ التقليد وأقصى المقلدين و على عهده سجن ابن رشد الحفيد و نفي إلى مراكش بسبب اشتغاله بالفلسفة ،وبذلك أرسى قواعد جديدة في بناء التصورات العقدية التي تنهل منها الأمة جمعاء و جعل مصدر التشريع كتاب الله و سنة رسوله بعد أن وجدت الخرافات طريقها إلى أذهان العامة و الخاصة على عهد أسلافه فأفسدتها تماما كما فسدت عقائد الناس بآراء الفلاسفة . كان المنصور مقيما للشرع يشدد في إلزام الناس به ، فكان يعزر من تأخر عن الصلاة ويعزل عماله الذين سقطت عدالتهم ،وقد أطلق غداة بيعته المساجين وأغدق على الرعية من بيت المال أموالا كثيرة وأسقط المكوس ، وكان ذا همة فاهتم بالعمران وبرع فيه إذ حفر الآبار وبنى القناطر وشيد الجوامع والأسوار ومن ذلك بناؤه لجامع الكتبية بمراكش و فيه أحدث مقصورة لم يسبقه إليها غيره إذا قام يصلي فيها ظهرت وإذا انصرف اختفت وهي المقصودة في قول الشاعر أبي بكر يحيى بن مجير: طورا تكون بمن حوته محيطة فكأنها سور من الأسوار وتكون حينا عنهم مخبوءة فكأنها سر من الأسرار فإذا أحست بالإمام يزورها في قومه قامت إلى الزوار يبدو فتبدو ثم تخفى بعده كتكون الهلالات للأقمار ومنه أيضا بناؤه لصومعة حسان ومدرسة الجوفية بسلا و المسجد الأعظم بطالعة سلا و المسجد الأعظم بإشبيلية الذي أشرف عليه المهندس أبو الليث الصقلي ،و منه أمره ببناء أسوار فاس بعدما كان من هدمها في عهد سلفه عبد المؤمن ، ويروى أن وزيره ابن زهر اشتاق يوما إلى ولده بإشبيلية فأنشد : ولي واحد مثل فرخ القطا صغير تخلف قلبي لديه نأت عنه داري فيا وحشتي لذاك الشخيص و ذاك الوجيه تشوقني وتشوقته فيبكي علي و أبكي عليه لقد تعب الشوق ما بيننا فمنه إلي ومني إليه فتناهت الأبيات إلى مسامع يعقوب المنصور فأرسل مهندسيه و مهرة صناعه إلى حارة الوزير بإشبيلية فاستنسخوا تفاصيلها بدقة بالغة وبنوا مثلها بحضرة مراكش، ثم إنهم وضعوا بداره فراشا كذلك الذي في منزله بإشبيلية وحمل إليه المنصور عياله ثم احتال عليه فذهب به إلى تلك الحارة فظن ابن زهر أنه يحلم ولم يصدق أنه واقع لا حلم حتى أخبر بما جرى . وإلى جانب ذلك اهتم بالجيش ونظمه وبنى أسطولا لم يكن له مثيل في الشرق أو الغرب كما ذكر ابن خلدون ، وقد طلب منه صلاح الدين الأيوبي نفسه المدد فأمده بأسطول قوامه مائة و ثمانون قطعة كانت سببا في حماية سواحل الشام من حملات الصليبيين ويروي ابن خلكان أن الشاميين أقاموا له مشهدا عرفانا بأياديه على بلادهم ،و ذهبت بعض الروايات إلى القول بامتناع المنصور عن نجدة صلاح الدين بسبب دعمه لخصوم الموحدين في إفريقية ولأنه لم يخاطبه بأمير المؤمنين لكن نص الرسالة كما أورده السلاوي يقطر تعظيما لمقام المنصور فقد افتتحه بما يلي : "الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب" وكان عنوانه "من صلاح الدين إلى أمير المسلمين " ومعلوم أن الأيوبيين كانوا يدعون لبني العباس على منابرهم وهذا لا يخفى على المنصور وليس بينه وبينهم صراع يوجب العداوة لبعد دولته عن دار الخلافة، فكيف يصرفه سبب كهذا عن نصرتهم ثم إن رسول صلاح الدين "ابن منقذ" لما رأى عظيم احتفاء المنصور به لم يملك أن مدحه بواحدة من أجمل القصائد جاء فيها: سأشكر بحرا ذا عباب قطعته إلى بحر جود ما لأخراه ساحل إلى معدن التقوى إلى كعبة الندى إلى من سمت بالذكر منه الأوائل إليك أمير المؤمنين ولم تزل إلى بابك المأمول تزجى الرواحل فليس ثمة ما يدل على غضب المنصور أو فشل سفارة مبعوث الناصر، وإلى جانب ذلك فوجود مشهد للمنصور ببلاد الشام يعضد القول بمبادرته إلى نجدة إخوانه خاصة وأنه كان يملك أعظم أسطول بحري على وجه الأرض. كان المنصور عادلا لا تأخذه في الحق لومة لائم وآية عدله ما ذكر ابن خلكان من أن الأمير أبا محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص تزوج أخت المنصور وأقامت عنده ثم عادت إلى أخيها مغاضبة فشكاها للقاضي أبي عبد الله بن علي بن مروان ،فاجتمع بأبي يوسف و قال له إن الشيخ أبا محمد يطلب أهله ،فلم يجبه المنصور فأعاد عليه الطلب للمرة الثانية فلم يجبه فلما كانت الثالثة قال القاضي :" رد عليه أهله أو اعزلني فامتثل المنصور " وهذا دليل على استقلال القضاء في عهده فالقاضي يحكم بما يوافق الشرع لا بما يلائم أهواء السلطان ومقربيه ،والمنصور لا يستعمل سلطانه في باطل ولذلك أحبته الرعية وأخلصت له ما دام ينصفها من نفسه و أهله . عرف عن المنصور شغفه بالعلم واحتفاؤه بالعلماء ولولا ذلك ما بلغت دولته ذلك الشأن الذي رفع لها في صفحات التاريخ ذكرا لا يخفضه تصرم الأعوام والقرون و مما يروى عنه أنه سأل قاضيه أن يختار له رجلين لتعليم ولد وضبط أمر،فقال القاضي في أحدهما هو بحر في علمه وفي الآخر بر في دينه ،فاختبرهما فلم يجدهما كذلك فوقع المنصور على رسالة القاضي : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،ظهر الفساد في البر والبحر " قال ابن الخطيب : " وهذا من التوقيع العريق والإجادة في الصنعة ". وكان يعقد المناظرات للعلماء في مجلسه الذي ضم خيرة علماء عصره كأبي العباس بن عبد السلام الجراوي و أبي أسحاق بن يعقوب والحافظ أبي بكر بن الجد وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان و ابن رشد بعد إطلاق سراحه وابن زهر . ومنها مناظرة ابن رشد الحفيد وكان قرطبيا وابن زهر وهو اشبيلي المولد و النشأة حول أوجه التفاضل بين إشبيلية وقرطبة فكان قول ابن رشد فيها فصل الخطاب : " ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها ، وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية " والمنصور إلى جانب ما تقدم رحيم برعيته لا يتوانى عن الإشراف على شؤونها بنفسه،تجده ناظرا في شكايات الناس مقصيا من رجال دولته من ثبت عسفه وجوره عليهم يقوم للمرأة والصبي ويأخذ بيد الضعيف . بنى مكتبا للأيتام ضم ألف صبي وشيد المارستانات ومول أدويتها و نفقاتها من بيت مال المسلمين . وله معارك مشهودة سعى فيها إلى توحيد المغرب والقضاء على الفتن فيه والذب عن راية الإسلام ضد الصليبيين نقتصر فيها على ذكر معركة الأرك التي تعد بحق من أهم معارك الإسلام ،ذلك أن الروح الصليبية دبت في أوروبا قبيل هذه المعركة وقد أجج نارها المطران "مارتن دي بيسرجا" فلبى الألمان والإنجليز والبرتغال و غيرهم وحمل الفونس الثامن لواء الحرب و حاصر مدينة شلب و أباد أهلها ثم أرسل إلى المنصور الموحدي رسالة حبرها الوزير الخائن لملته ابن الفخار وكان مما جاء فيها " باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض ،وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح ، أما بعد فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل لازب ، أنك أمير الملة الحنيفية ، كما أني أمير الملة النصرانية ، وقد علمت الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية ، وإخلادهم إلى الراحة ، وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري ، وأمثل بالرجال ، ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة ، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم ، فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا ، لا تستطيعون دفاعا ولا تملكون امتناعا ، وقد حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال ، وأشرفت عل ربوة القتال ، وتماطل نفسك عاما بعد عام ، تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فلا أدري أكان الجيش أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربك ؟ ثم قيل لي إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا لعلة لا يسوغ لك التقحم معها ، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك ، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان ، وترسل إلي جملة من عبيدك بالمراكب والشواتي والطرائد والمسطحات ، وأجوز بحملتي إليك ، وأقاتلك في أعز الأماكن لديك ، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك ، وهدية عظيمة مثلت بين يديك ، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك ، واستحقيت إمارة الملتين والحكم على البرين ، والله تعالى يوفق للسعادة، ويسهل الإرادة ، لا رب غيره ولا خير إلا خيره إن شاء الله تعالى" ، ومن هذه الرسالة يتبين أن ألفونس كان مسكونا بتعاليم الكنيسة مقتفيا خطى أسلافه في خوض حرب الاسترداد المقدسة مدركا لطبيعة عدوه فخاطب المنصور بما يثير حميته فهو يعلم تحرق المنصور لقتاله، لكنه اختار زمن المواجهة وترك لخصمه تحديد مكانها، ولم يكن عابثا حين ربط نتائج المعركة بمصير الأمتين معا فقد كانت بحق حربا فاصلة وكان رد المنصور على ظهر كتاب عدوه موجزا ينبيه أنه رجل أفعال لا أقوال : "ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم أذلة وهم صاغرون " وجاز بجيش قوامه خمسون ألف مقاتل وكان ذلك سنة 591ه وحشد له ملك قشتالة مائة وخمسون ألفا أقسم معهم على الإنجيل لا يرجعون حتى يستأصلوا شأفة المسلمين أو يهلكوا دون ذلك واجتمعوا بموضع شمال قلعة رياح على مقربة من قلعة الأرك وقد تأثر المنصور بخطط ابن تاشفين في الحرب إلى حد بعيد فتراه بعد استشارة عبد الله بن صناديد يقسم جيشه إلى مجموعة من القطع ليضمن مرونة حركة الجند أثناء القتال ويعمد بعد ذلك إلى تعيين قائد محلي على جنود الأندلس ثم يحتفظ بفرقة في الصفوف الخلفية تضم المطوعة والعبيد وفرسان المغرب لقلب موازين المعركة عند الاقتضاء ثم يعين أبا يحيي بن أبي حفص قائدا عاما للقوات المغربية المسلمة وهذا أعظم دليل على تواضع المنصور وتقديره لمواهب الآخرين إذ قدم من يستحق التقديم لأن مصلحة الأمة تعلو على حظوظ النفس ، وقبيل بدء المعركة يحرص المنصور على رفع معنويات جنده فيأمر القائد العام بأن يلتمس له الصفح من الجنود وأن يتغافروا فيما بينهم و أن يخلصوا النية إلى ربهم ،فلما سمع الناس مقالته أجهشوا بالبكاء… كانت معركة الأرك ملحمة أبلى المغاربة فيها أحسن البلاء و قدمت فيها أمة الإسلام الآلاف من أبنائها شهداء ،وقد سقط فيها القائد أبو يحيي فأعذر إلى ربه وكان النصر حليف المنصور و صحبه،وكانت بحق واحدة من أعظم المعارك في التاريخ الإسلامي لا تقل أهميتها عن حطين والزلاقة …قدر عدد قتلى الإسبان في الأرك بثلاثين ألف قتيل وأسر منهم أربعة وعشرون ألفا وتتبع المنصور فلول الهاربين عازما على خضد شوكتهم ، فتشتت جمعهم ، ثم كان منه أن عفا عن أسراهم بالجملة وندم على ذلك لاحقا إذ ما أسرع ما عادوا إلى قتاله وتناسوا صفحه عندما تمكن منهم، وتنافس الشعراء في مدح المنصور بعد نصره المؤزر ومما قيل فيه بعد المعركة: أهل بأن يُسعى إليه ويُرتجى ويُزار من أقصى البلاد على الرجا مَنْ قد غدا بالمكرمات مُقلداً وموشحاً ومختماً ومتَّوجا عمرت مقامات الملوك بذكره وتعطرت منه الرياح تأرُّجا. ،وفي سنة 592ه تجمعت جيوش النصارى للثأر وكان ألفونس قد أقسم ألا يقرب امرأة و ألا ينام على فراش و ألا يركب فرسا أو بغلا مكتفيا في تنقله بالحمير حتى تنتصر النصرانية فسار إليه المنصور وهزمه شر هزيمة وحاصر طليطلة عازما على القضاء نهائيا على عدوه بالأندلس وحين طال حصاره لطليطلة خرجت إليه والدة ألفونس وبناته ونساؤه يبكين، فرق لحالهن وتزامن ذلك مع اضطراب أحوال إفريقية وثورة بني غانية و محاولتهم الاستقلال بها فصالح النصارى وعاد لإخماد فتنة الثائرين… ذهب الناس في وفاة المنصور الموحدي مذاهب شتى و اختلطت في وفاته الخرافة وعقائد الشيعة في غيبة الأئمة بالحقيقة ،فقيل أنه هام على وجهه حتى وصل إلى سورية وبها مات وقيل أنه مرض سنة 595ه عقب عودته من الأندلس وتوفي في مرضه ذاك و دفن بتينمل .