يوسف الحلوي هو أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن حمامة بن محمد الزناتي، أمه أم اليمن رأت وهي بكر في منامها أن القمر خرج من قبلها حتى صعد في السماء وأشرف نوره على الأرض، وقد أول الشيخ الورياكلي رؤياها على أنها تلد ملكا عظيما وكذلك كان. ولد أبو يوسف يعقوب المنصور المريني سنة 607ه وقيل سنة 609ه، وجاء في الاستقصا أنه أعظم ملوك بني مرين على الإطلاق، ووصفه ابن أبي زرع أنه كان صواما قواما دائم الذكر، كثير الفكر لا يزال في أكثر نهاره ذاكرا، وفي أكثر ليله قائما يصلي، مكرما للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعا في ذات الله تعالى لأهل الدين، متوقفا في سفك الدماء كريما جوادا، وكان مظفرا منصور الراية ميمون النقيبة لم تهزم له راية قط . وقد حدث في بداية عهده أن اضطرب نظام الحكم فأغار الإسبان على سلا، فأجلاهم يعقوب المنصور المريني ثم أشرف على بناء سور يحيط بسلا لحمايتها من الغارات، وقد عمل في بناء السور بنفسه وجعل يحمل الحجر بيده وينقله مع العمال إلى مواضع البناء. عمل أمير المسلمين على توحيد بلاد المغرب بعد أن مزقته صراعات الأسرة المرينية، فحارب يعقوب بن عبد الله المريني صاحب سلا وبني إدريس بن عبد الحق، كما واجه الثائرين من غير بني عمومته، كأبي دبوس بمراكش ويغمراسن بن زيان بتلمسان من بني عبد الواد، فتوحد المغرب على يديه وعاد إلى سابق عهده. كان المنصور أول من استعمل البارود في الحرب على نحو ما ذكر ابن خلدون، وكان ذلك سنة 673ه أثناء حربه مع بني عبد الواد بسجلماسة، وفي ذلك دلالة على تطور قدرات المغرب العسكرية في عهد المنصور ودلالة على تقدم الأبحاث العلمية بما يناسب زمنه، فعلى كثرة الحروب في الشرق والغرب وضراوتها في ذلك الحين حاز المرينيون قصب السبق في هذا الإبداع العسكري الذي عد طفرة حقيقية في علوم الحرب وما يتصل بها، وفي معركة سجلماسة هذه وصلته رسل ابن الأحمر تستنجد به على عدو الملة والدين بالأندلس فبعث إليهم جيشا تحت إمرة ولده أبي زيان قوامه خمسة آلاف فارس فأثخن في العدو وملأ يده من الغنائم، وهو أول انتصار للإسلام بعد هزيمة العقاب الساحقة، ثم جاز أمير المسلمين بنفسه نحو الأندلس بعدما تناهى إلى علمه أن زعيمهم دون نونة قد تجهز لحرب المسلمين، واستصرخ بني قومه لدعم حربه المقدسة، وكان نونة هذا من أشجع قادة الإسبان لم يعرف الهزيمة في حياته قط حتى جمعه الله بالمنصور المريني سنة 674ه في معركة سميت ب«الدونونية»، وقد أبلى فيها المنصور أحسن البلاء ووقف يحرض رجاله مثبتا لنونة أنه لا يقل عنه شجاعة وعزما وخطب في رجاله فألهب حماسهم، ومما جاء في خطبته «ألا و إن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها فبادروا إليها وجدوا في طلبها... ألا وإن الجنة تحت ظلال السيوف» فكانت له الغلبة والظفر وحصد آلاف النصارى ثم أمر بقطع رؤوسهم وجمعها وأمر أن يؤذن فوقها لصلاة الظهر والعصر، معيدا ذكرى الزلاقة إلى الأذهان، واحتز رأس «دون نونة» وبعثه هدية لابن الأحمر، لكن ابن الأحمر ضمخه بالطيب وأرسله سرا للإسبان، علامة على خموله وفتور همته وركونه إلى ذل النصارى وهو يعتقد أن في مداهنتهم دفع لصولتهم ورد لعدوانهم، ولكن التاريخ سيثبت أن أمير المسلمين كان أعلم منه بأحوال ملوك الإسبان وأقرب إلى فهم سنن التدافع بين الأمم، فتنكيله بهم نابع من سلامة فهمه لحالهم وحصافة رأيه فيهم، ولذلك لم يقم الإسبان وزنا لابن الأحمر وظل هاجسهم الأوحد الذي يقض مضاجعهم جواز ملك المغرب إليهم... كانت نفس أمير المسلمين تواقة للجهاد فما أن حلت سنة 676ه حتى هرع مرة أخرى إلى عدوة الأندلس ولقيه ابن أذفونش بساحة إشبيلية ففل جمعه حتى فر جنود الفرنجة في الوادي وتبعهم جنود المنصور قتلا وذبحا إلى أن صار لون النهر أحمر، وطفت جثثهم من الغد عليه، وفي هذه الحملة افتتح المنصور جليانة وروطة ودخل شلوقة وغليانة واكتسح إشبيلية وحاصر قرطبة حتى نزل إليه رهبانها يطلبون الصلح لكنه لم يأت لدنيا فقال إنما أنا ضيف ثم أرسلهم لابن الأحمر فصالحهم، وتنازل أمير المسلمين لابن الأحمر عن غنائم الأندلس في هذه الحملة، وفي ذلك قال قولته التي تنم عن امتلاء قلبه بالإيمان «يكون حظ بني مرين من هذه الغزوة الأجر والثواب مثل ما فعل ابن تاشفين يوم الزلاقة». لكن ابن الأحمر لم يرع عهود المنصور، فقد حدث أن بعضا من أسرته خاصمه واستقل بمالقة (ابن شقيلولة) وامتنع بها فلما رأى همة المنصور في جهاد الإسبان نزل له عنها طائعا مختارا وخيره بين أخذها أو تسليمها للنصارى وذلك أفضل عنده من أن يأخذها ابن الأحمر في مذهبه، فتسلمها منه المنصور، فأوغر ذلك صدر ابن الأحمر عليه ومن ثم راح يحطب في حبل أعدائه وشكل حلفا مع الإسبان ويغمراسن غايته استئصال حامية المنصور المعسكرة بالجزيرة الخضراء والقضاء على شوكته بالمغرب. وحدث في نفس الفترة أن خرج على المنصور مسعود بن كانون من بلاد المصامدة فشخص إليه وقلبه تأكله الحسرة على ما آلت إليه أحوال الأندلس، خاصة بعدما تناهى إلى مسمعه أن مسلمي الجزيرة الخضراء يلقون عنتا شديدا من عدوهم وأنهم صاروا يخشون على أبنائهم أن يتنصروا وأنهم ختنوا أصاغرهم خوفا عليهم من معرة الكفر ... فأمر ابنه على رأس الجيش ووجهه إلى الأندلس وتفرغ هو لشأن مسعود بن كانون وقد أعلن المنصور النفير فلبى المسلمون من كل أقطار المغرب الأقصى وتطوع منهم خلق كثير، وأبلى الفقيه أبو حاتم العزفي أمير سبتة أحسن البلاء، إذ جهز خمسة وأربعين أسطولا بعد أن علم بأن مسلمي الجزيرة الخضراء قد يئسوا من الدنيا وفني معظمهم بالحصار، ولم يبق في سبتة غير النساء والأطفال والشيوخ، وندم ابن الأحمر على خيانته وخاف سوء العاقبة فبعث باثني عشر أسطولا لمساندة المغاربة، وكان أن دارت معركة بحرية رهيبة بين جنود الإسبان وجنود يوسف بن يعقوب أسفرت عن انتصار المغاربة وذلك سنة 678ه، فخف النصارى لعقد الصلح معه، وكان المنصور يتابع أخبار جنوده لحظة بلحظة وقد آل على نفسه ألا يلتذ بمنام وألا يستطيب طعاما وألا يقرب امرأة إلى أن يصله نبأ الفتح، وحين علم أن ابنه أطمعهم في الصلح أقسم ألا يرى منهم أحدا إلا ببلادهم، ومعناه أنه سيجوز إليهم لتأديبهم على ما كان من تطاولهم على مسلمي الأندلس. وفي تلك الأثناء جاءه «هيراندة « يستنصره على ابنه سانجة ويرهن عنده تاج ملكه، وأمام ملأ من العرب والعجم تقدم هيراندة من أمير المسلمين وقبل يديه فغسلهما المنصور ليعلم هيراندة مقامه من ملك المغرب وأسد عرين بني مرين، ثم كان أن جاز المنصور إلى الأندلس سنة 684ه ليبر بقسمه فجاءه ابن الأحمر ذليلا صاغرا يطلب عفوه، واستنقذ أمير المسلمين في جوازه هذا قرمونة وركش. وما إن خفقت رايات النصر عاليا وتهيأت أسباب الفتح حتى أرسل ابن الأحمر وفدا إلى ملك النصارى يطلب الصلح ويسأله أن يكونا يدا واحدة على يعقوب المنصور المريني، وكان خوفه من المنصور قد فوت على المسلمين فرصة ذهبية لبسط نفوذ المسلمين على الأندلس برمتها من جديد، وظلت قصة يوسف بن تاشفين مع المعتمد ماثلة أمام عيني ابن الأحمر فانتصارات قائد المرابطين على الإسبان ألفت حوله قلوب العامة والعلماء على حد سواء حتى أفتى بعضهم بأنه آثم إن لم يخلص الأندلس من قبضة ملوك الطوائف، فكان ما هو معروف في التاريخ من سيطرة المرابطين على الأندلس ونفي المعتمد بن عباد إلى أغمات، وهذه القصة ما كانت لتغيب عن ابن الأحمر وهو ينظر إلى مكانة المريني في قلوب ساكنة الأندلس فهو المخلص من استبداد الإسبان، وجوازه المرة تلو المرة إلى عدوة الأندلس فيه من ثقل المغارم ومشقة التنقل ما سيدفعه في النهاية إلى إزاحة ابن الأحمر وإن لم يكن برغبته فسيكون بطلب من الأندلسيين أنفسهم، وعلى ضوء هذه المعطيات اختار ابن الأحمر أن يلعب دورا تغلب فيه مصلحته الخاصة على مصلحة أمته، فإذا أوجس خيفة من النصارى هرع إلى بني مرين يثير فيهم حمية الدين ويدفع بهم صائلة المعتدين، فإذا تم له ذلك حالف النصارى وألب على ملوك المغرب خصومهم، وهو بهذا يعتقد أنه يحدث التوازن المطلوب بين القوى المهيمنة على مسرح الأحداث في عصره، لا يلقي بالا للفرصة التي سنحت له كي يعيد مجد أجداده الأماجد، وهيهات أن يكون للأقزام دور في صناعة الأمجاد، فما إن وصلت وفوده إلى سنجة بإشبيلية (وكان سنجة قبل وصولهم طلب لقاء مبعوث المنصور فأرسل إليه أبا محمد عبد الحق الترجمان) حتى سلقهم بألسنة حداد وأصر أن يسمع عبد الحق حوارهم ومما جاء في كلامه: «إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي في مقام السلم والحرب وهذا أمير المسلمين على الحقيقة (يقصد المنصور ) ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه عن نفسي فكيف عنكم». وهكذا عادت وفود بني الأحمر لتحمل إلى ملكها أنه لا مكان للجبناء والخونة والمتآمرين على موائد العظماء، فعلم ابن الأحمر أنه ارتكب خطأ جسيما وأساء التقدير فعاد لطلب الصلح من أمير المسلمين الذي لم يطمع في بلاده قط وقد كان في إمكانه استئصال شأفة بني الأحمر لو أراد لكنه صرف جهده إلى حرب عدوه الأصلي وتجنب مصادمة من سواه، وقد حاول مرات ومرات أن يصالح يغمراسن ليتفرغ كلية لجهاد النصارى، فكان يجيبه مرة ويعرض أخرى، ولعل أهم الأسباب التي منعت أمير المسلمين من التوغل في بلاد الأندلس ليعيد فيها أمجاد طارق وموسى وابن أبي عامر أنه لم يؤمن جبهته الداخلية ولم يكن يأمن مكر بني عبد الواد ولا مكر بني الأحمر وقد كانت المراسلات بينهم وبين الإسبان لا تفتر ونية إضعاف المرينيين لا تغيب عن أذهانهم لحظة. كان المنصور ذا همة عالية فلم يشغله خوض المعارك عن بناء الدولة ونشر العلم فقد أشرف سنة 674ه على بناء البيضاء قرب مدينة فاس وهي المسماة اليوم «فاس الجديد» ولبنائها سبب عجيب يرويه صاحب الروض العاطر الأنفاس وذاك أن الفقيه «أبو إبراهيم إسحاق بن يحيى الورياغي» كان إماما بجامع السلطان بفاس وكان شديدا في الحق يأمر السلطان بالمعروف وينهاه عن المنكر، وقد أكثر عليه ذات مرة في الكلام فغضب السلطان وأمره أن يخرج من فاس فألم به مرض شديد بعد رحيل الفقيه فأمر برده، فقال الفقيه لا أدخل حتى يخرج هو ولا نكون أنا وهو في بلد واحد فخرج السلطان في الحين ... وبنى البيضاء ليتيح له العودة لوطنه كما بنى مدينة البنية قرب الجزيرة الخضراء لتكون بمثابة القاعدة العسكرية لمقاتليه وليقي سكان الجزيرة من قسوة الجنود وغلظتهم، وبنى الزوايا والأربطة لتكون مأوى للمسافرين وعابري السبيل خاصة في الأماكن البعيدة عن العمران، ومن جهوده أيضا أن أمد قصبة الرباط بالماء الشروب وأسند أعمال البناء في دولته لمهرة الصناع والمهندسين، وعلى رأسهم أبو الحسن علي بن الحاج الذي ذاع صيته، وشجع العلم والعلماء فاشترط على سنجة قبل الصلح أن يعيد إليه مؤلفات العلماء المسلمين الموجودة بمكتبات دولته فأجابه إلى ذلك ورد عليه ثلاثة عشر حملا من الكتب فيها جمهرة نافعة من كتب الفقه والتفسير والمنطق والبلاغة، ومن ضمنها تفسير ابن عطية الذي ما زال يدرس إلى عهدنا هذا وكتب الثعالبي وغيرها، وقد خص طلبة العلم والعلماء بالأعطيات وأجرى عليهم رواتب شهرية وبنى لهم المدارس وزودها بما يلزمها من المراجع، ومن تلك المدارس مدرسة الصفارين بفاس وهي أول مدرسة شيدها المرينيون وشيد مدرسة أخرى بمراكش، فلا عجب أن يكون عهده عهد نبوغ فكري وعلمي، ومعلوم أن دولة المرينيين قامت على أنقاض دولة الموحدين فكان اهتمام المنصور بالمدارس توجها يدل على فطنة وبعد نظر، فعلاوة على مساهمة هذه المدارس في الرقي العلمي ونشر المعرفة في البوادي فضلا عن الحواضر كان لها أبلغ الأثر في تقويض الأسس النظرية التي شيد عليها المهدي بن تومرت بنيان دولته، وهو لم يلجأ إلى المذابح لاستئصال دعوى المهدي التي رسخت في نفوس المغاربة يومها كما فعل المهدي نفسه بالمرابطين، بل دفع خرافاته بالعلم فلم يلبث المغرب غير قليل حتى عاد فيه المذهب المالكي لسابق عهده، كما اهتم المنصور ببناء المارستانات وأنفق على نزلائها من بيت المال وأعطى الفقراء والجذامى والعميان، ولعل سائلا أن يسأل عن سبب ازدهار العمران وفن الزخرفة في الأندلس في ذلك العهد مما لا يتناسب مع الضعف السياسي للدولة النصرية التي استمدت أسباب بقائها من قوة المرينيين وقصور المرينيين عن اللحاق بإخوانهم الغرناطيينن في هذا المضمار، غير أن جواب ذلك لا يخفى على من نظر في أسباب قوة المرينيين وضعف بني الأحمر، فقد ورث المرينيون عن الموحدين عزوفهم عن كل ما يمت للبذخ بصلة وقدموا مصالح الأمة على مظاهر العظمة الجوفاء، أما بنو الأحمر فتأنقهم في الزخرفة لم يكن علامة رقي بقدر ما كان مؤشر انحلال أتى على وجودهم لما عدموا نصرة المغاربة. إن عظمة المنصور المريني من عظمة حاشيته وخاصته وأهل مشورته، فبهم تفتخر الأمم وتعلو الهمم ، وعلى عاتقهم تقع أمانة النهوض بتكاليف الحكم وتحمل مغارمه، فإذا كانوا منصرفين إلى اللهو وجمع المال وامتطاء صهوة الملذات آل حال الأمة جمعاء إلى الضعف والهوان وما من مقربي المنصور يومئذ إلا عالم أو شاعر أو فقيه، ففيهم أبو الحسن بن أحمد و أبو عبد الله بن عمران وأبو جعفر المزدغي وأبو أمينة الدلائي وأبو فارس العمراني وثلة من أهل الفضل البررة من أبناء المغرب الأقصى . مرض أمير المسلمين أبو يوسف يعقوب المنصور المريني سنة 685ه ووافته المنية بقصره بالجزيرة الخضراء ثم حمل جثمانه إلى شالة ودفن بها وقد ترك لأمته مجدا لا تبليه الأيام ولا تمحوه الأعوام مهما تعاقبت.