ولد محمد بن الحسن بن العربي بن محمد بن أبي يعزى الحجوي الثعالبي بمدينة فاس عام 1291ه وجاء في فهرسته أن والديه حرصا على تعليمه وتربيته تربية صالحة فكان من ثمارها تعلق قلبه بكتاب الله وسمو روحه وهيامه بطلب العلم فكان لا يجد فيه نصبا كما بقية الصبيان ، يقول عن نفسه : " فلم أشعر إلا وأنا عاشق مغرم بالجد والنشاط تارك لسفاسف الصبيان متعود على حفظ الوقت ألا يذهب إلا في ذلك " ، فحفظ المتون قبل أقرانه وولج القرويين بهمة لا يتطرق إليها ملل وعزيمة لا يعتريها خلل فتلقى دروس العلم والأدب على يد جهابذة القرويين أمثال أحمد بن الخياط ، وأحمد بن سودة ، وعبد السلام الهواري ، والكامل الأمراني وأبي العلاء إدريس بن الطايع ، فتخرج على أيديهم متبحرا في الفقه والتاريخ والرياضيات واللغة وغير ذلك ، ومما انفرد به الحجوي في مسيرة طلبه للعلم دونا عن سائر المتقدمين والمتأخرين أنه أخذ عن أناس أميين كما أخذ عن التجار وغيرهم ممن لا ينسبون عادة إلى العلم غير أنهم ممن اشتهروا بين أقرانهم بحدة الذكاء ومجالسة العلماء ولم تفته الإشارة إلى فضلهم عليه في فهرسته ، ولا أدل من هذا على سعة أفقه وإقباله على الحكمة يغترف منها بحرية وطلاقة لا يشوبها استعلاء أو تكبر . تقلب الحجوي بعد تخرجه من القرويين في عدة مناصب فاشتغل بالتدريس بداية وعين بعد ذلك مندوبا لوزارة المعارف لمدة عشرين عاما ثم وزيرا للعدل وفي كل تلك الوظائف برزت ميولاته الإصلاحية التي عبرت بحق عن نضج مبكر ونظر ثاقب سبق فيه عصره بعقود كثيرة . إن الإطلاع الموسوعي للحجوي على التراث الفقهي والسياسي والقانوني والتاريخي الإسلامي ومقارنته بمعطيات الحضارة الغربية في عصره بلور لديه رؤية إصلاحية مستنيرة من أهم سماتها الشمولية ، وهو خلاف الكثير من معاصريه لم يقده الانبهار بمنجزات الغرب إلى الدعوة إلى الانسلاخ عن قيم أمته وثوابتها بل كان لا يرى لأمته مستقبلا خارج هذه الثوابت . دعا الحجوي إلى إصلاح التعليم لأنه أصل التغيير ومنشؤه فاضطلع بمهمة إنشاء المدارس وتحديثها أثناء تقلده لمنصب مندوب المعارف في عهد الحماية الفرنسية وعمل على تغيير مناهج التعليم وتطويرها ودعا إلى تدريس اللغات الأجنبية والاطلاع على منجزات الحضارة الغربية، والتخلص من ربقة التقليد والجمود ، يقول الحجوي : " فلنترك عنا الدراسة بكتب المتأخرين المختصرة المحذوفة الأدلة المستغلقة ولنؤلف كتبا دراسية فقهية للتعليم الابتدائي ثم الثانوي ثم الانتهائي كل حسب ما يناسبه " ، و إصلاح التعليم عند الحجوي لا يرتبط بإصلاح المناهج والمواد الدراسية وكفى ، إن تخليق التعليم وتنشئة المتعلمين تنشئة صالحة واحدة من أهم أسباب نجاح سياسة إصلاح التعليم في نظره أو بتعبيره ، " ولنرب نشأة جديدة ، تشب على النزاهة والأمانة ومكارم الأخلاق تربية صحيحة دينية كتربية السلف الصالح " . وما دامت النساء شقائق الرجال في الأحكام فالحجوي يرى أن تعليمهن من أولى أولويات الإصلاح وكان لدعوته هذه أثر أي أثر في إقبال نساء المغرب على طلب العلم وقد ذكر العلامة عبد القادر المغربي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق أن محاضرة الحجوي المسماة " المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية " أدت إلى تقدم مدهش على مستوى إقبال النساء على التعليم داخل المغرب وخارجه ، وأن عدد التلميذات في فاس وحدها انتقل من ثلاثمائة وأربع وسبعين تلميذة إلى ألف وأربعمائة رغم معارضة أعيان المدينة لدعوته ، وشملت دعوة الحجوي الاصلاحية تحديث نظم التدريس بالقرويين شكلا وجوهرا ، فقد دعا إلى رفع رواتب الموظفين والمدرسين لصرفهم عن مزاولة مهن أخرى تضعف في الغالب عطاءهم العلمي فهي كما يقول " أمي وظئري ومن ثديها العذب ارتضعت " وهو الولد البار بأمه وأمته فلم يلبث بعيد إسناد نظرها إليه أن شكل لجنة منتخبة من علمائها أوكل إليهم مهمة تحرير قانون أساسي يضبط سير القرويين ومن جملة بنوده إسناد مهام التدريس لمن يستحق وطرد من سواهم ، وتقسيم الطلبة إلى طبقات ابتدائية وثانوية وعالية مع تحديد مواد كل طبقة وامتحاناتها غير أن شيئا من ذلك لم يتحقق فقد اصطدم الحجوي بذوي الأغراض على حد وصفه يقول في " الفكر السامي " : " فبينما نحن نبني ونصلح ونرمم بفاس وقد شرعوا بالهدم والتخريب في الرباط بغير فاس ، وما كدنا نختم القانون المشار إليه حتى صدر أمر شريف برجوعنا ولم يبق من مشروعنا إلا أن راتب المدرسين ضعف أضعافا ". أولى الحجوي عناية خاصة لتجديد الفقه وحض على الاجتهاد ونبذ التقليد واعتبر أن تخلف أمته عن منافسة الأمم على الريادة في مضمار الحضارة والرقي مرده إلى الجمود الفقهي الذي يخنق ملكة الإبداع إذ الحوادث متجددة فلا يستوعبها فقه جامد مداره على النقل والشرح وصياغة الحواشي يقول الحجوي : " فترك الناس الكتاب والسنة والأصول وأقبلوا على حل تلك الرموز التي لا غاية لها ولا نهاية ، فضاعت أيام الفقهاء في الشروح ثم في التحشيات والمباحث اللفظية ، وتحمل الفقهاء آصارا وأثقالا بسبب إعراضهم عن كتب المتقدمين وإقبالهم على كتب هؤلاء " . وللحجوي رأي في التمذهب فهولا يرى اتباع إمام واحد فالشريعة في نظره جامعة لآراء كل المجتهدين وليس هناك دليل على وجوب الالتزام بمذهب دون غيره ، ومن قال ذلك لا سند له غير تعصبه لما ثبت عن أئمة المذاهب أنفسهم من ذم الاتباع دون دليل وإنكار لتقديم فتاوى المذهب التي ثبت أنها مخالفة للأدلة الشرعية . إن دعوة الحجوي الاصلاحية تجاوزت حدود المغرب إلى كل أقطار العالم الإسلامي كالجزائر ومصر والسعودية وتونس وغيرها ، وحين دعا أتاتورك إلى إلغاء الشريعة الإسلامية لعدم مسايرتها لمستجدات العصر انبرى الحجوي للرد على مزاعمه وقدم رؤية إسلامية متكاملة للقضايا الراهنة في زمنه وألف بين مفاهيم الدين والعقل والعلم التي قامت دعوى أتاتورك على القول بتضادها في منظومة الفكر الإسلامي. حظي الحجوي باحترام علماء عصره في كل أقطار العالم الإسلامي وذاك ما نلمسه جليا في تقريضهم لكتابه "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي " . يقول الشاعر أبو العباس القباج في قصيدة يعدد فيها مناقب الحجوي : كم ذا تدافع في الورى وتحامي عن حوزة الإيمان والإسلام كم ذا تنافح عن شريعة أحمد وتبين ما يخفى عن الأفهام ويقول الطاهر بن عاشور " ومن أبهر الكواكب التي أسفر عنها أفقنا الغربي في العصر الحاضر وكان مصداقا لقول المثل كم ترك الأول للآخر الأستاذ الجليل والعلامة النبيل وصاحب الرأي الأصيل الشيخ محمد الحجوي " وممن أثنى على علمه مفتي الديار التونسية في زمنه محمد بن يوسف ، وشيخ محدثي مصر أحمد رافع الحسيني ، والحافظ عبد الحي الكتاني ، وجمع لا يحصى من الفقهاء والأصوليين والمحدثين ومن المفيد أن نسوق في هذا المقام أن العلامة عبد القادر المغربي عده أحد أعمدة النهضة العلمية بالمغرب ولا غرابة في ذلك فالفقيه الحجوي خلف ما يناهز مائة مؤلف في مختلف العلوم كالفقه والسيرة والاقتصاد والعقائد والتاريخ واللغة منها تاريخ علم التصوف ، ومختصر تاريخ النحو والصرف ، وأصول التربية عند المسلمين ، وأساس التهذيب الإسلامي ، ومسألة الضمان التجاري ، وتلخيص المغازي النبوية وتاريخها . وقد جرى في تواليفه مجرى المتقدمين من جهابذة العلماء في المزج بين العلوم والمعارف ففي الفقه يبحر بك في التاريخ ثم يعرج على الأصول وإذا استدل بالحديث بين مرتبته من الصحة والضعف شأنه في ذلك شأن أئمة المحدثين ، وإذا ساق المسألة الفقهية أورد فيها آراء فقهاء المذاهب ورجح بينها وعضد اختياره بالحجج العقلية والنقلية وكذلك شأن الفحول من طبقته لا يكتفون بالفن الواحد ولا يشبع نهمهم علم واحد وإذا اغترف القوم من ساقية وجدتهم يغترفون من البحر . يقول عبد الفتاح أبو غدة في كتابه "تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي" متحدثا عن وفاته (وكان قد اختاره واحدا من ضمن ستة من أنبغ فقهاء القرن السادس عشر) "توفي هذا الإمام العبقري الجليل بعد حياة مزدهرة بأنواع العلم والمعرفة عام 1376ه بمدينة الرباط عن 85 سنة رحمه الله تعالى وأكرمه بغفرانه "