ثمة شيء غير عادي، أو لنقل خاطئ، في قضية “المريض” الذي كان يغتصب الأطفال بإقليم “تنغير” ويقتلهم، وقبله كلّ المرضى مرورا بتارودانت وغيرها من الوقائع في أنحاء عديدة من الوطن العزيز. طبعا، أصرّ على استعمال لفظ “مريض” في إحالة واضحة على المرجعية الباتولوجية عموما، والسيكوباتولوجية على وجه التحديد، فحسب علم النفس المرضي، يعتبر “مجرم” تنغير شخصية بيدوفيلية، وفقا لمقاييس التصنيفين العالميين في علم النفس(DSM4 وcim10)، وهو على هذا الأساس “مريض” قبل أن يكون مجرما، وحتى إذا كان الخبراء والمختصون في المجال لا يربطون دائما، وفي كلّ الحالات، بين الاعتداءات الجنسية والاضطرابات النفسية أو العقلية بشكل مباشر، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ المعتدي جنسيا (البيدوفيل) يعاني من اضطرابات في الشخصية ممّا يخلق له مشاكل مهمة على مستوى التوافق الشخصي والاجتماعي، وهو ما يؤطّره في خانة اللاّسواء. السؤال الذي يطرح بغرابة في قضية “مريض تنغير” هو، لماذا لم يستدع كأوّل مشتبه به بعد اختفاء طفلين قاصرين سنة1998؟، خصوصا وأنّه كان قد خرج لتوّه من جريمة اغتصاب طفل قاصر ومحاولة قتله، قضى على إثرها سنتين سجنا؟. أليس هو المشتبه به الأول والرئيسي قياسا إلى كون الضحيتين المختفيتين وقتها في سنّ أول طفل قضى عقوبة لاغتصابه، وأيضا من نفس المحيط الذي ينتمي إليه الجميع (المريض والضحايا)؟، ألم يكن التحقيق معه وإخضاعه للعلاج السيكولوجي كفيلا بتوفير ضحيتين أخريين سوف تغتالان على يديه مؤخرا؟. يبدو أنّ سؤال المقاربة السيكولوجية للمجرمين في هذا الوطن، هو الجرح الغائر الذي يفضّل المسؤولون والمجتمع مداراته بالضمادات بدل علاجه، فإذا كان الغرب قد حسم منذ زمن في تدخّله الإصلاحي لشخصية المعتدي جنسيا، واستعاض عن خيار(العقاب أو العلاج) بخيار (العقاب والعلاج)، مع الحرص على نشر ثقافة سيكولوجية حقيقية، فإنّ الدول العربية وضمنها المغرب مازالت متمسكة بطرح أحادي قاصر وعقيم يتمثل في العقوبة الحبسية، وهي بالمناسبة العقوبة التي لا تجدي بالمرة في تفادي حالات “العود المَرَضِي” la récidive، إن لم تكن مصاحبة بعلاج نفسي سلوكي ومعرفي بالأساس. معلوم في أدبيات السيكوباتولوجيا أنّ “البيدوفيل” شخص غير سويّ، و”البيدوفيليا” انحراف جنسي ينتج عن اضطرابات في التفضيل الجنسي، بمعنى أنّ المريض يعاني اضطرابا في الشخصية وتشوها هوياتيا على مستوى تمثل الذات، أمّا إذا كان هذا المعتدي جنسيا يقرن، عند مروره للفعل البيدوفيلي، اعتداءه بالقتل كما في حالة “مريض تنغير”، فإنّه يغدو شخصية “سيكوباتية”، وهي أخطر أنواع الشخصيات، لما تعرف به من سلوك مضادّ للمجتمع والأخلاق، كما أنّ لها القدرة على أن تظلّ متخفية بذكاء كبير، إذ يجد المجتمع صعوبة كبيرة في كشفها وتفادي عنفها. غير أنّ نشر وتسريب ثقافة سيكولوجية حقيقية من شأنه التعريف بالخصائص الإكلينيكية والتشخيص السيكوباتولوجي سواء بالنسبة للشخصية البيدوفيلية، أو الشخصية السيكوباتية، أو غيرها من الشخصيات اللاسويّة. لكن يبدو أنّ إصرار الدولة ومؤسسات المجتمع المدني على تغييب المقاربة العلاجية السيكولوجية، والاكتفاء بالمقاربة القانونية والعقابية، لن يساهم سوى في إنتاج مزيد من الجرائم والجنح ذات الطابع الجنسي، التي أصبحت في تفاقم مهول نظرا لعوامل متداخلة ومتعددة(يضيق مقام هذا المقال بحصرها). من هذا المنطلق فقط، فإنّي لا أميل كثيرا إلى “تجريم” مريض تنغير وغيره من المرضى في أنحاء الوطن، ممّن كان ممكنا تحديد وحصر عدد اعتداءاتهم، وأيضا إنقاذهم وإعادة إدماجهم سيكوسوسيولوجيا، لأنهم كانوا أيضا ضحية مساقات اجتماعية وثقافية طوّحت بهم في عالم الانحراف الاضطراري واللاإرادي. إنّ الثقافة السيكولوجية هي ما يعوزنا تحديدا لفهم سلوكات بعض المرضى(الذين ينعتون بالمجرمين)، هذا على مستوى التمثل الاجتماعي، كما أنّه على الدولة العمل بمقاربة علاجية سلوكية توازي المقاربة القانونية، وتتدخّل سواء داخل العقوبة السجنية من خلال تأهيل سوسيوتربوي، أو من خلال المتابعة ما بعد سجنية، من أجل تفادي حالات العود المرضي. حريّ بالذكر هنا، أنّ علاج شخص المعتدي جنسيا (البيدوفيل) ليس دائما سهلا بالنسبة للمعالج النفسي، فالدور الأساسي والأول لهذا المعالج يتمثل في محاولة تفهّم ومساعدة المعالج(بفتح اللام) على التحكم في نزوعه النزوي الجنسي، أي محاولة “ربح مساحة إضافية على أرض الوحشية” بتعبير سيافالديني، ثمّ بعد ذلك الاشتغال على ما بقي من “إنسانية” المريض والحفاظ عليها. طبعا، فإنّ سياق العلاج ومراحله ليس بالأمر اليسير الذي نلمّ به في هذا المقام، لكننا نعد القراء الأوفياء بالعودة إلى هذا الموضوع في مقالات أخرى، في إطار نشر ثقافة سيكولوجية من شأنها الاقتراب من العالم الداخلي للإنسان، وأيضا التعرف على الملامح والخصائص الإكلينيكية لبعض المرضى النفسيين من أجل تفادي ما يمكن أن يقدموا عليه، وأيضا تجويد وتفعيل التواصل الإيجابي معهم، لأنهم يظلون بحاجة إلينا رغم كلّ “الشرور” التي يمكن أن تترتب عن سلوكاتهم اللاإرادية. أعود فأقول: ثمة شيء خاطئ في قضية “مريض تنغير” لأنّ المجتمع لم يسأل عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء أفعاله، والتي يمكن أن يكون عرضة لها أيّ واحد منّا، بل طالب بتوقيع العقوبة الحبسية أو الموت في حقه عملا بالمثل العربي “آخر الدواء الكيّ”، في حين أنّ السؤال يجب أن ينصبّ على المطالبة بتثقيف المجتمع سيكولوجيا. هنا يكمن المشكل الحقيقي والعميق، وإلاّ فإننا سنظل نداري الجرح بالضمادات حتّى يتعفّن أو ينتج جروحا وأعطابا أخرى. “ينبغي(على رأي باشلار) أن نعرف كيف نطرح الأسئلة قبل كلّ شيء، فمعرفة المشكل هي بالتحديد ما يمنح الطابع الحقيقي للفكر العلمي”، والمشكل الحقيقي في قضية “مريض تنغير” هو في إصرارنا على تجاهل كونه “ضحية” و”مريضا”…