منذ مدة و أنا أحاول الكتابة في هذا الموضوع لكن في كل مرة أصادف بعض العراقيل التي تحول دون أن أكمل الموضوع، واليوم ها أنا ذا أطل على القارئ الكريم في مناقشة عادية معه حول “العلمانية الإسلامية”، أكيد أنك تتعجب من هذا المصطلح الدخيل مصطلح كله تناقضات خصوصا و أنه من المعروف أن “العلمانية تعادي الإديولوجيات الدينية فكريا، باختصار بين العلمانية والإسلام، أو بالأحرى بين العلمانية والأديان السماوية الثلاث، هناك علاقة تنافر لكن سأحاول توضيح هذه الأطروحة من خلال ما سيأتي رغم أن الحديث على الموضوع ينبغي أن ندرجه في مجلدات عديدة ولن نستكمله نظرا لغموضه وتعقده، وهنا سأحاول أن أربط بين ما أجده صوابا، وبين محاضرة كان قد ألقاها أحد المفكرين، يسمى شاكر الأندلسي حول هذا الموضوع. قبل أن نخوض في الموضوع أرغب أن نستهل حديثنا هنا بطرح التجربة التركية الحالية التي خَلُصت إلى التركيب الهيجلي لغادمر بين علمانية أتاتورك الراديكالية، وبين “ثيوقراطية” نجم الدين أربكان “الدينية”، والتي خرجت لنا حزب “العدالة و التنمية” المعتدل بتركيا، الذي يقوده حاليا رجب طيب أردوغان، هي المثال الحي “للعلمانية الإسلامية”. في هذا المشروع، أي مشروع “العدالة والتنمية”، تسليمٌ بمبدأ “الفصل” العلماني الكمالي ذي السِحنة الفرنسية، أي فصل الدينيّ عن السياسيّ – لكن بتوجيهه إلى “العلمانية الحيادية” وبتوجّه صريح إلى الأخذ بالديمقراطية الاجتماعية الأوروبية والتعلق بجملة المبادئ والقيم الحداثية بالتشديد على قيم العدالة والحرية والرفاهية وحق الاختلاف والتعددية والتنمية والتضامن والتكافل الاجتماعي والخير العام وجملة حقوق الإنسان، وبتعزيز هذه المبادئ بقراءة تنويرية ليبرالية للنصوص الدينية، قراءة تسوّغ الذهاب للأخذ بهذه المبادئ، وتنهض بها ثلة من الباحثين الأتراك المنتمين إلى “كلية الإلهيات” بأنقرة، وإلى “هيئة الشؤون الدينية التركية – ديانِتْ”. والقصد هو تصميم مركب نموذجي يستند إلى الجمع بين الإسلام وبين الديمقراطية بحيث تعاد قراءة الإسلام وتفسير نصوصه الدينية – القرآن والحديث – قراءة نقدية تعزز المبادئ الحداثية، وتنحو نحو مدرسة المفكر الإصلاحي الباكستاني فضل الرحمن، الذي يرى أن القرآن يجسد مجموعة من الحقائق التي يتعين البحث عن معانيها “الحقيقية”، أي تأويلُها. تأثر بعض هؤلاء الإصلاحيين بمنهج النقد التاريخي للأناجيل وذهب بعضهم الآخر إلى تأويلية هانس – جورغ غادامر، واجتمعوا على الأخذ بمنهج “الرأي” الحنفيّ وبرؤية “المعتزلة” العقلانية، وشددوا على حتمية “فتح باب الاجتهاد”، بمعنى بذل الجهد و”تكييف” الإسلام من أجل اكتشاف حلول مناسبة لقضايا العصر. وفضلاً عن ذلك – ومثلما أبانت الأستاذة “أليف جينار” في كتابها “الحداثة والإسلام والعلمانية” – شددت فلسفة “حزب العدالة والتنمية”، في المجال السياسي، على مبدأ التوفيق بين العلمانية وبين الإسلام من أجل تكوين هوية قومية جديدة وإيديولوجية سياسية تجمع بين التقاليد الإسلامية وبين التقاليد القومية العلمانية وتسهم في تشكيل نموذج إسلامي علماني معزز بالليبرالية، تتضافر فيه الليبرالية الاقتصادية والسياسية والقيم الاجتماعية المحافظة والهوية القومية الثقافية. وفي المجال الدولي تمّ الانفتاح على الفضاء الأوروبي والعمل على الانضمام ل”إتحاده”، وفي الوقت نفسه أداء دور إقليمي متعاظم وفاعل، وكل ذلك يعني عند “أليف جينار”. صحيح أن “العلمانية الإسلامية” هو مصطلح جديد، “ولكنه كان واقعاً موجوداً ومطبقاً جزئياً ،وفي الناحية المالية منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان الذي فصل جزئياً وخاصة في مجال المال العام بين الدين والسياسة وقال قولته المشهورة: “لقد كان عمر بن الخطاب يمنع أهله عن بيت المال إرضاءً لله، وأنا أعطي أهلي من بيت المال إرضاءً لله”. وذلك تعليقاً على الذين احتجوا وثاروا عليه لتخصيصه بني أمية بأكبر حجم من أموال بيت مال المسلمين، وتخصيص المناصب العليا من ولاة وغيرهم لهم، وهو يعتبر بذلك أول حاكم عربي في التاريخ العربي الإسلامي أقرَّ وطبَّق سياسة “المحاصصة” المعروفة اليوم في العالم العربي بين الطوائف الدينية والعرقية، والتي ورثها عثمان عن أبي بكر في “حادثة السقيفة” يوم قال له الأنصار “منكم أمير ومنا أمير” فقال لهم “منا الأمراء، ومنكم الوزراء” وأردف: ” إن الخليفة يجب أن يكون قرشيّاً، إذ إن الناس لا يطيعون إلا هذا الحيّ من العرب”. وأبو بكر ورث نظام “المحاصة” من الرسول الذي وزع غنائم “غزوة حنين” على أهله وعشيرته وحرم منها الأنصار، حتى ظنَّ الأنصار أنه لقي أهله فنسى ما عداهم. وجعل من قبيلة قريش صاحبة الحق الوحيدة في الخلافة عندما قال (الأئمة منَّا أهل البيت)، وكذلك (الأئمة من قريش). والخليفة عثمان هو الذي كان يعذب المعارضة وينفيها كما فعل بأبي ذر الغفاري، حين نفاه إلى صحراء “الربذة” شرق المدينةالمنورة، لأنه كان يقول له “اتقِّ الله “، والخليفة عثمان هو أول من ابتدأ بإقامة العقوبات السياسية، فاصلاً الدين عن الدولة. كما يعتبر الخليفة عثمان الحاكم العربي الأول الذي صنع تاج بني أمية الملكي، ووضعه على رأس معاوية بن أبي سفيان الذي أكمل علمانية الخليفة عثمان، وزاد عليها، وفصل كليةً بين الدين والسياسة. وهزم السياسي معاوية رجل الدين التقي علي بن أبي طالب بمؤازرة أحزاب سياسية كانت على الساحة منها حزب عمرو بن العاص، وحزب السيدة عائشة زوج الرسول وغيرهما. وسار على هذا النهج كافة خلفاء بني أمية ما عدا عمر بن عبد العزيز، وتبعهم خلفاء بني العباس، وكان الأمويون في الأندلس على المنهاج نفسه. وهذه الأحداث كلها من “غزوة حنين” إلى انتهاء الدولة العباسية كلها دالة على فصل الدين عن الدولة، وهي علامة من علامات العلمانية. وكذلك كان ملوك الطوائف بعد سقوط الدولة العباسية 1517 وبدء الاستعمار العثماني للعالم العربي على هذا المنوال. وكانت الخلافة الإسلامية العثمانية قد فصلت الدين عن السياسة بأكثر مما فعلت الخلافتان الأموية والعباسية بحيث أن كمال أتاتورك عندما أسقط هذه الخلافة الإسلامية عام 1924، لم يجد شيئاً جدياً يسقطه فقام ببعض التصرفات الشكلية الحمقاء منها منع الحج لعدة سنوات، وتحويل بعض المساجد إلى متاحف، وخلع اللباس التقليدي.. الخ، مما دفع بعض المفكرين كمحمد أركون إلى إطلاق صفة “الشيوعية” على حركة أتاتورك وليس “العلمانية”، والتي كانت من أهم الأسباب في تعثر تقدم العلمانية في العالم العربي إذ يتخذ رجال الدين من المثال الأتاتوركي العلماني، وهو قياس فاسد و وسيلة لتنفير الشارع العربي من العلمانية كما قلنا في كتابنا (الفكر العربي في القرن العشرين ، الجزء الثاني، 2001). ويعجبني في هذا المقام قول راوية الحديث الأشهر أبي هريرة، وكأنه كان يضع أسس العلمانية الإسلامية دون أن يدري فيقول :” أصلي وراء علي فالصلاة وراء علي أفضل، وآكل على مائدة معاوية فالأكل على مائدة معاوية أدسم، وأجلس على الربوة والجلوس على الربوة أسلم”". هذا ما جاء في أطروحة الدكتور شاكر النابلسي في مدخل تعريفه للعلمانية الإسلامية، و ما يدفعني الآن لطرحه هو أنه كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن صراع العلمانيين و الإسلاميين بالمغرب، هذا الصراع الذي يشتد يوما بعد يوم حيث أن العلمانيين في تزايد و الإسلاميين هم كذلك في تزايد مستمر مما يحثم علينا أن نفصل في الأمر لنطبق نظاما يتماشى مع المذهبين معا. و بالحديث عن مستقبل العلمانية بالمغرب، لن تكون إلا من داخل الإسلام وليس من خارجه، بعد أن فشلت جهود الكثيرين من اليساريين، وماركسيين وشيوعيين، في المناداة بالعلمانية بعيداً عن الإسلام، وبعد أن نجحت دعوة الكثير من رجال الدين في مهاجمة العلمانية من داخل الإسلام واتهام العلمانيين بالإلحاد، وأنهم خوارج هذا الزمان. وبذا، يكون الرد الشافي على رجال الدين المتعصبين هو الدعوة للعلمانية من داخل الإسلام، وليس من خارجه كما أخطأنا في الماضي، وضاعت جهودنا سدىً على مدار أكثر من نصف قرن مضى. وهذا يستدعي العلم الوافي، وهذا ما أظن أننا نفتقده في المغرب، فالعلم سلاح قوي و لديه قدرات خارقة، وهو السلاح الذي تسلّح به الشيخ علي عبد الرازق والشيخ خالد محمد خالد والشيخ خليل عبد الكريم ويتسلح به الآن الشيخ التنويري جمال البنا وأحمد صبحي منصور الذي يقول بأن “أقرب دين إلى العلمانية هو الإسلام”. ولعل تجديد الدعوة إلى “العلمانية الإسلامية” سوف يقود إلى دعوة “العلمانية الدينية” التي ستضم غير المسلمين وغير العرب إلى صفوفها، “كما سوف تترجم معنى الدعوة إلى “الليبرالية الجديدة” من داخل التراث وليس من خارجه، بعد أن تُعاد قراءة التراث قراءة علمية نقدية منصفة، وبتم فرز الواقعي الصالح من الخيالي الأسطوري”، كما قال شاكر. وفي حديثنا عن العلمانية الإسلامية فلا بد أن نجيب عن سؤال بديهي فرض نفسه مند أول حرف كتب في هذه السطور هو “هل هناك الآن علمانية داخل الإسلام تصلح لنا في هذا الزمان ويمكن تطبيقها على واقعنا المعاصر لكي نحييها وننفض الكِلس الذي تراكم عليها منذ 1400 سنة، ونرى مدى صلاحيتها للإتباع والتطبيق في عصرنا الحديث؟، وهل الإسلام دين عَلماني في منشئه و قيامه وانتشاره؟”، و الجواب سيكون منطقيا شيئا ما حيث أن المظاهر الإسلامية التالية دليل على أن في داخل الإسلام علمانية نحن نبحث عنها الآن. فحرية الاعتقاد التي منحها الإسلام القرآني وليس إسلام الفقهاء للإنسان، لأننا إذا تحدثنا عن الفقهاء فهذا موضوع آخر، فالبعض يشرق الآخرون يغربون، ونظل حائرين من هو الصحيح، هي جزء من حرية الاعتقاد التي تنادي بها العلمانية التي تتيح هي الأخرى للإنسان أن يكون حراً فيما يعتقد. والقرآن فضّل الإيمان على الكفر، ولكنه لم يُجبر على الإيمان “فإن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر” (الزمر:7) وقوله: “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء” (القصص:56) والمشيئة هنا ليست لله ولكنها للإنسان الذي يشاء أن يهتدي، أو لا يشاء. وإن الله يهدي من العباد من يشاء أن يهتدي. وتلك أيضاً من حرية الاعتقاد والإيمان التي هي جزء من الحرية التي تنادي بها العلمانية. وهنا نرى أن الفعل والمشيئة الإنسانية تسبق الفعل الإلهي الذي يأتي في النهاية لكي يبارك هذا الفعل وهذه المشيئة. )والذين اهتدوا زادهم هدى( (محمد:17). وهو دليل على أن الفعل الإنساني سابق على الفعل الإلهي، وأن الفعل الإلهي يأتي لاحقاً ليبارك الفعل الإنساني. وسنرى بالمقابل أن كثيراً من الملحدين يردون على الآيات بآيات تبدو لأول قراءة حرفية لها بأنها آيات متناقضة مع الآيات التي أوردناها . ولكن يبقى الطابع العام لمبادئ الحرية التي نادى بها الإسلام القرآني هو طابع الحرية العامة في المعتقد. وما مثال حروب الردة الذي يسوقه البعض للتدليل على عدم الحرية بالمعتقد إلا (قياس فاسد) كما يقول الفلاسفة. فحروب الردة لم تكن ردة على الإسلام بقدر ما كانت ردة عن دفع الزكاة وهو أمر مالي بحت كان يمكن معالجته بالطرق السلمية، لولا حاجة الدولة الإسلامية الفتية الملحة لأموال الزكاة في ذلك الوقت. وإرادة التغيير لا بُدَّ أن تكون في البداية من داخل الإنسان ( إن الله لا يغير ما في قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، (الرعد:11). لقد كان الخطأ المعرفي الأكبر للشيخ علي عبد الرازق أنه أنكر في كتابه (الإسلام وأصول الحكم، 1925) كليةً علاقة السياسة بالإسلام، كما أنكر أن الخلافة من الإسلام، وقد ردَّ عليه في حينها الشيخ محمد رشيد رضا بقوله في مقاله بجريدة (اللواء المصري، 8/6/1925) (إن أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه، أنه هدمٌ لحكم الإسلام وشرعه من أساسه وتفريق لجماعته وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية من أحكام شخصية وسياسية ومدنية وجنائية وتجهيل للمسلمين كافة). وهي نفس التعليقات التي تقال اليوم عن الكتب العلمانية تقريباً. وردد ما قاله علي عبد الرازق مفكرون معاصرون أيضاً مثل المفكر التونسي ووزير التعليم السابق محمد الشرفي في كتابه (الالتباس التاريخي في إشكالية الإسلام والحرية، 2002). فعلي عبد الرازق في كتابه، لا يدعو إلى فصل الدين عن الدولة فقط، بل ينكر صلة الدين بالسياسة أصلاً، وربما كان هذا المنحى الذي ذهب إليه قد أضعف حجّته أمام خصومه ومنتقديه، والمنطق الشارح السليم هو الاعتراف بعلاقة الإسلام بالسياسة وبأن الإسلام كان دولة قبل أن يكون ديناً مكتملاً، والدليل قيام “دولة الرسول بالمدينة” قبل اكتمال الدين، وفي الأيام الأولى للهجرة. ولكن هذه الدولة وما تبعها من دولة الراشدين (أبو بكر وعمر)، لا تصلح لنا الآن لتغير الضرورة التاريخية، وما يصلح لنا هو دولة قريبة من دولة معاوية العلمانية، ولكن بطابع حديث حسب شاكر.