المبدع المغربي صلاح الطويل: ” الشعب العربي كله نائم يحلم بمؤخرة روبي وأرداف هيفاء” يشخص الداء أدبيا ويحكي بمرارة عن هذا العالم العربي الذي اهتم بالتفاهات على حساب الجوهر ... كما يدعوا إلى انتفاضة ثقافية يقودها المثقفون العضويون الحقيقيون وليس مثقفو المبادئ الرخوة والانتهازيون.... ضيف صالوننا الأدبي هذا الأسبوع من أرض فاس المعطاءة... زجال ومسرحي ومغني وناقد فني أعطى الكثير للساحتين المغربية والعربية بتجربة تزيد عن ثمانية وعشرين عاما ... له العديد من المسرحيات آخرها” غوانتانامو...مورو” والكثير من القصائد أهمها “غباوة” و”لعب الدراري” يعترف لنا في هذا الحوار بقوله ” لم أكن سوى مشاكس للبنات أيام صباي لكن تلك التجارب الصبيانية علمتني الكثير(يضحك)”... حوار لايخلو من تنظير لأفكار جديدة وقراءة للواقع الأدبي بالمغرب خاصة والعالم العربي عامة... متى بدأت علاقتك كزجال ومسرحي مع الخشبة؟ بدايتي كانت كفنان موسيقي ومغني ساخر، وكان مهرجان الأغنية الجديد الذي نظمته الشبيبة الإتحادية أيام مجدها وحضورها القوي في الساحة المغربية سنة 1988 بمدينة الجديدة، هو الانطلاقة الحقيقية التي عرفت بتجربتي وجعلتها محط اهتمام العديد من الإطارات السياسية والطلابية والجمعوية عبر التراب الوطني وخارجه، خصوصا وأن المرحلة التي عرفت بها شهدت أحداثا انصهر معها الرأي العام الوطني والعربي, وأبدعت موازاة معها كالحرب على العراق سنة 90 وأحداث 14 دجنبر التي اهتز لها المغاربة وكذلك المعارك التي كانت تخوضها الجماهير الطلابية في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والعديد من الأحداث والقضايا التي تعاملت معها تجربتي الغنائية باهتمام بالغ وكانت حاضرة سواء في بعض الملتقيات العربية والوطنية أو في الساحات والمدرجات الجامعية. هذه المرحلة هي من جعلتني أحظى بلقب الفنان الملتزم بالمغرب رغم أنني أعتبر أن تجربتي الغنائية آنذاك تدخل في إطار الأغنية الساخرة ذات النقد السياسي والاجتماعي والملتزمة بقضايا الوطن الكبير والإنسان بشكل عام. أما علاقتي بالمسرح، فهي تجربة لم أدخلها إلا في بداية الألفية الثانية حين حاولت ولا أزال أن أمسرح كل الأغاني الساخرة التي تحمل في طياتها مشاهد وصور لا يمكن أن تعطي جمالية أكثر إلى عبر التمسرح. هل تنتمي إلى مدرسة فنية معينة؟ مدرستي التي لا اختيار لي سواها سواء في البدايات أو حتى الآن، هي مدرسة الفن الأصيل سواء كان فنا عاطفيا رومانسيا أو فنا ملتزما بقضايا مختلفة. فالمهم عندي هو الصدق في التعبير واحترام أذواق الناس دون استغفالهم والضحك على ذقونهم، واختياري الفني هو اختيار نضالي يعمل على المساهمة في التوعية بأحوال الناس وكشف التلاعبات والاستهتار بحقوق البشر، وتدجينه أو استلابه أو تزوير إرادته وحقه في الحرية والحياة. ولكن قبل هذا فمدرستي التي ترعرعت كانت تجمع فنانين رواد كبار كالمرحوم محمد فويتح والزجال محمد العرجاني والفنان محمد المزكلدي أطال الله في عمره وغيرهم من الرواد. فهؤلاء على أيديهم تعلمت أصول الموسيقى والغناء ودرست رحاب النغم. كنت حينها صغيرا ورغم ذلك كنت لا أفارق جلساتهم ولقاءاتهم وهم من كانوا سببا في تغيير اهتمامي بآلة القيثارة وتعويضها بآلة العود لما تشتمل عليه من مقامات عربية وسلالم لم تتوفر عليهم آلة القيثارة. هؤلاء هم مدرستي الحقيقية التي تربيت فيها وترعرعت. قلت يوما في إحدى حواراتك : “إننا بحاجة إلى فن ملتزم “، هل يعني ذلك القضاء على باقي الألوان وهي الأكثر حضورا في الساحة ؟ أولا فالفن الملتزم لا يمكن له إلا أن يكون إحدى مكونات الفن عموما إلى جانب المكونات الأخرى التي تشكل الإبداع المغربي بجميع ألوانه ومدارسه . وأنا شخصيا سأكون يائسا وبلا ذوق لو تكون مثلا الأغنية الملتزمة هي السائدة وحدها دون الألوان الأخرى. فهذا يعني نهاية الحياة بتلويناتها وجغرافيتها واختلاف عناصرها المضيئة منها والخافتة. أنا لست بالمنظر الذي يجبر الآخرين على قبول هذا وإلغاء ذاك، وليست لدي الجرأة الأخلاقية التي تجعلني أقول يجب القضاء على الألوان الأخرى مقابل حضور الفن الوحيد. لأن ما يميز المغرب هو تعدده الإبداعي واللغوي والجغرافي وكل شيء فيه. أما عن تصريحي بأننا بحاجة إلى الفن الملتزم، فأكررها وأقول المغرب بحاجة إلى فنون تحترم ذوق ولا تستغل غبائه وإلى فنون ملتزمة بقضايا حق الإنسان في عيشه الكريم وحريته وعدم تزوير إرادته فن يعبر عن قلقه الخاص والعام ويترجم طموحاته، إبداع يؤسس لثقافة الحوار الجاد والاختلاف واحترام الآخر. فبالفعل نحن بحاجة إلى فن ملتزم خصوصا وأن الأوضاع المغربية والعربية مزرية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وبحاجة إلى انتفاضة ثقافية يقودها المثقفون العضويون الحقيقيون وليس مثقفو المبادئ الرخوة والانتهازيون الذين يتحولون من مثقفين إلى أبواق للفساد والمفسدين مقابل منصب أو شيك لا يغني أو يسمن من جوع. أما عن الألوان الأخرى التي قلت عنها أكثر حضورا في الساحة فأنا لا أتفق معك, باعتبار أن حضور الألوان الأخرى وخاصة المائعة والسطحية فيها، فحضورها يتعلق بترويج من طرف الإعلام الرسمي الذي لا يهمه سوى تسطيح وعي الناس وتدجين أذواقهم والضحك على ذكائهم, وإبعادهم عن قضاياهم المصيرية. أما الإبداع الحقيقي الذي يحترم الوجدان العام فلا مكان له ضمن برامج الميوعة والإستهتار بالقيم. كيف ترى الصورة الحقيقية للساحة الفنية المغربية؟ بكل صراحة، سياسة الدعم للأعمال الفنية جعلت من الإبداع المغربي إبداعا أغلبه متخلف وسطحي ينتج وفق شروط تضعها المؤسسات المغربية الرسمية كوزارة الثقافة. وحتى وإن كانت هذه الشروط غير مكتوبة وواضحة, تظل قائمة في ذهن المبدع الذي تشكل له خوفا من التطرق إلى أشياء غير مرغوب فيها وتكون سبب رفض اللجنة لأعماله. بالإضافة أن هذه اللجان هي الأخرى تشتغل تحت ضغط التخوف من قبول إبداعات لا تتماشى مع سياسة السلطة المخزنية بالمغرب، بمعنى أن الدعم المالي الذي يعتبر مالا عاما في ملكية الدولة والشعب, يهدر في أعمال لا تستحق ذلك وتدخل في الفساد المالي في الوقت الذي تحتاج له بعض المرافق كالمستشفيات والمدارس والمكتبات التي يفتقر لها البلد. ولكن هذا لن يجعلها نعتبر أن بلادنا ليس بها مبدعين حقيقيين، فالمغرب وخصوصا هوامشه تتوفر على طاقات إبداعية رائعة لا ينقصها سوى الدعم والتعريف بإنتاجياتها عبر وسائل الإعلام المغربية، ولكن للأسف فالمسؤولين عن الثقافة والفنون ببلادنا لا تدعم سوى الأعمال الهابطة ولا تفتح الأبواب سوى لمثقفي الأحزاب خصوصا المقربة للحكومة ولبعض الشخصيات السياسية، هذا بالإضافة إلى الارتشاء الذي يعرفه المجال أمام الملأ. ولكن لنا أمل في بعض الفعاليات التي تعمل كل ما في وسعها لإعطاء الفن الحقيقي مكانته ورونقه. وماذا عن مسرحك الذي سميته بالمسرح المنظوم؟ المسرح المنظوم هو لون مسرحي يعتمد على الشعر أو الزجل بالإضافة إلى الموسيقى والغناء كمكون أساسي في المسرحية، ومنذ الألفية الثانية وأنا أشتغل عليه في إطار التجريب، قبل أن أصدره في كتاب بعنوان تجربة في المسرح المنظوم، وهذا النوع من المسرح لا يمكن أن يجاريه إلا من له دراية بالموسيقى وأصول العزف والغناء، مسرح موزون ومنطوق يعتمد على بلاغة الشعر والحوار الموزون. وحتى وإن أردنا أن نذهب بعيدا مع المسرح الغنائي في الوطن العربي فسنجد أن الموسيقيين هم من كانوا وراء ذلك، خصوصا في لبنان وفلسطين ومصر، أما في المغرب فكل ما لدينا هو بعض الإشراقات المنظومة ظهرت بداية السبعينات مع الطيب الصديقي في لون البساط، ولكن تاريخيا وعبر شعر الملحون فهناك أعمال صالحة للمسرح المنظوم منذ عهد السعديين لكنها لم تستثمر بعد. العلاقة بين الإنسان والواقع وثيقة جدا، وفي مسرحياتك وأغنياتك كما في حياتك صور متعددة لهذا الواقع المرير، بالنسبة لك ما هي حدود هذه العلاقة؟ أظن أن المبدع الحقيقي هو الذي له ارتباط وثيق بالواقع الذي يعيشه أو بالواقع الذي يحلم به ويريده بديلا عن الواقع الذي يعيشه، ولكنني لست سوداويا لأرتبط كليا بالآلام، بل أعيش الآلام وأستقبلها بالضحك والسخرية لتخفيف وطئتها. وكما يقول المغاربة فإن(الهم كيضحك) ومن هنا نعتمد على السخرية والاستهزاء من بعض الظواهر السياسية لمحاكمتها ووضع الأصبع على مكامن الخلل فيها عن طريق الضحك، وما يميز مسرحنا هو اللعب الجاد والمزاح الهادف الذي يبعد عن الرتابة ويخلق جوا مرحا وممتعا رغم قسوة ومرارة الوضع القائم. فلكي نموت موتا رحيما بهضم سريع, علينا أن نبتسم في وجه الأسد ونحن مقبلين عليه، حتى لا يتكرر الموت مرتين أو عدة مرات. بداياتك كانت مع أغلبة الشباب العربي” فبين المدرسة وباب منزلنا حكايات ” كما يقولون...ما هي حكايات أيام صباك؟ حكايات الصبا عديدة ولا زلت أحن إليها لحدود الآن، لدرجة أنني أجد نفسي أحيانا طفلا كبيرا يجرب نفسه في خلط الأوراق وتكسير الأشياء لإعادة تركيبها. طفل يبحث عن زمنه الذي ولى دون رجعة. إنها المرحلة الوحيدة التي نعيشها حياة بدون سموم ولا كره ولا خصوم. ولكن سنة الحياة أن نكبر ونعاني ونعيش كل أنواع الألم الناتجة عن الإحباطات والخيانات وإهانات الأقدار. لو تحدثت لك عن طفولتي سيتطلب الأمر أوراق كثيرة تفوق الحيز الذي منحتيه إلي في هذا الحوار. آخر عمل لك هو مسرحية ” غوانتانامو..مورو” كيف كانت التجربة وماذا أضافت لك؟ وهل نجاح أي عمل رهين ببقائه في ذاكرة الناس؟ حسب المتتبعين وبعض النقاذ اللذين تابعوا عرضينا التجربيين، فقد تلقينا استحسانا لهذا العمل. بالإضافة أن القضايا التي تطرقت لها المسرحية جديدة على المشهد المسرحي ببلادنا، وقد توفقنا في مواكبة كل القضايا التي يعرفها المجتمع المغربي والعربي والإنساني في هذه المسرحية، فكل الويلات الإقتصادية والإجتماعية التي يعرفها الكون هي بسبب السياسة الدولية المحتكرة لكل خيرات الكون على حساب الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها. فالمديونية والعولمة والإرهاب والتخاذل العربي والتواطؤ من طرف الحكام العرب وانهيار القيم لدى المثقفين والسياسيين كلها كانت حاضرة في مسرحية “غوانتانا..مورو” في لوحات ذات قالب كاريكاتيري يحاكم الهزيمة ويندد بالتخاذل. هذا بالإضافة إلى توظيف التكنولوجيا كأداة للتواصل الإنساني بين كل بني البشر في هذه المسرحية. أما الجواب عن الشق الثاني من سؤالك، فبكل تأكيد أي نجاح هو رهين بالذاكرة. فلا يصح إلا الأصح . ولا يبقى إلا الأنقى , ولا يسمو إلا الأرقى. أما غير ذلك فمصيره المحو والنسيان. قيل في الأثر :”لا يترك العرب الشعر حتى تترك الإبل الحنين” ولكن ألا ترى أن عصر الفضائيات جعل زبد الغناء يطغى على جوهره الأصيل؟ بكل تأكيد، لأن ما نجح فيه الإعلام العربي المتصهين، هو تدجين أذواق الناس وإبعادها عن ما هو زاخر بالمعاني والقيم، فالزمن لم يعد زمنا للشعر والقول الجميل، بل أصبح مجتمعا تطغى عليه القيم الإستهلاكية الفاسدة والتي لاتمت بصلة إلى العبقرية العربية المبدعة، ولكن صدقيني حتى ولو قدمت هذه الفضائيات الشعر الجميل طوال الليل والنهار، فستجدين شعبا عربيا كله نائم يحلم بمؤخرة روبي وأرداف هيفاء، وحتى ولو مر يوما محمود درويش في إحدى الشوارع العربية لما عرفه أحد، بينما لو مرت إحدى المطربات الماجنات في نفس الشوارع, لقامت الدنيا وقعدت ولتطلب الأمر جيوشا من رجال الأمن لتنظيم السير وحماية الماجنات من تهافت المعجبين والمعجبات. إنه زمن الرعونة والفساد والخواء، في وطن ذهبت كل مجهودات أبنائه الأوفياء من مناضلين شرفاء وشهداء ومثقفين نزهاء سدى في الهواء. ماذا تقول في آخر كلمة لك في هذا الحوار؟ أولا أشكرك على اهتمامك بتجربتي المتواضعة، وأعتز بك لكونك امرأة شاعرة لها اهتمامات إعلامية، فما أحوجنا في مجالات الفن والإبداع تكون فيها المبدعات ذات ثقافة واهتمام بالشأن العام بمختلف مكوناته. وأتمنى أن أكون قد توفقت في إجاباتي على أسئلتك.