كنت أتوقع أن الكثيرين سيغضبون وسينتقدون الفيلم السينمائي الريفي "خميس84"، لكن لم أكن أعتقد أنه سيصل إلى القول بأنه عمل لا يستحق المشاهدة، ووجب بالتالي مقاطعته وما إلى ذلك من أحكام؛ شخصيا لدي جملة من الاِنتقادات على الفيلم، لكن تدخل في إطار ما هو سينمائي محض.. الواقع أني أتفهم خيبة الظن ومشاعر الغضب التي أثارها الفيلم في نفوس البعض، فالكثيرون كانوا ينتظرون أن يكون المنجز عبارة عن توثيق لأحداث 84 في شموليتها، ناقلاً كل ما حدث في ذلك اليوم المأساوي الذي نصفه ب"الخميس الأسود"، لكن تفاجئوا بمعالجة هذه الأحداث من زاوية أخرى، بحيث تناول الفيلم مواضيع مغايرة لا تزال بالنسبة لمنطقتنا تعتبر من "الطابوهات"، ولست في هذا المقال أريد الانبراء للدفاع عن الفيلم أو ما شابه، بل أوّد من موقعي كمتفرج وكمهتّمٍ بالسينما، الإدلاء برأي متواضع، بعيدا عن ما هو عاطفي، وبلغة العقل وليس السب والشتم. بين أحداث الفيلم والواقع.. إن بعض أحداث سيناريو فيلم "خميس 84"، مثلما صرّح بذلك مخرجه محمد بوزكو، مستنبطة من وقائع حقيقية كان هناك من عاش تفاصيلها خلال محطة 84 التاريخية بالناظور، وبعض الأحداث الأخرى هي صناعة نابعة من وحي خيال السيناريست، ويجب أن يدرك المشاهد أو المتلقي أنه خلال تلك المرحلة، كانت هناك في كل منزل وفي كل حي وفي كل زقاق قصصٌ كثيرة لا تحصى ووقائع تختلف مع الأسر والأشخاص ولو داخل الفضاء الواحد المُتّسِمِ بنفس الخصوصية، ومن الممكن جدلا على سبيل الافتراض أن تكون إحدى هذه القصص "الواقعية" المُعاشة، ما شاهدناه بعُقر منزل الخيّاط "خميس" بطل الفيلم. لهذا، فإن ما رصده الفيلم ليس وقائع وأحداث محطة 84 التاريخية في شموليتها، بل هو جزءٌ صغير جدا ممّا حدث خلال تلك المرحلة، بمعنى أنه سلّط الضوء على قصّة من بين آلاف القصص التي قد يكون أشخاص قد عاشوا أطوارها في منازل الناظور وشوارعه، والحقيقة أعتقد أن السيناريست غامر ضمن هذا العمل، في طرحه لمواضيع مختلفة ومتباعدة عن بعضها، لكنه نجح ولو نسبياً، في وضع خيطٍ ناظمٍ يربط بين هذه "المواضيع - التيمات" فيما بينها، في تنقُّلٍ سَلسٍ من موضوع إلى آخر بطريقة ذكية موّفقة. إن "خميس 84"، ليس وثيقة تاريخية لأحداث 1984 بمنطقة الريف الشرقي، ولن يكون كذلك أبدا، بل هو عمل درامي صِرف، عَملَ على نقل توليفة من الأحداث، سواء عن طريق الحوار الذي كان قوياً جداً في مراحل من الفيلم، أو على مستوى التصوير الذي نقل لنا جزئيات صغيرة كانت لها دلالات دراماتيكية عميقة. وعلاقة بموضوع أحداث 84، فقد نجح الفيلم في إيصال رسائل واضحة عن أسباب الاحتجاج إبّان تلك المرحلة، عن القمع الذي تعرض له المحتجون، وهذا واضح بصورة جلية في الحوار الذي دار داخل منزل خميس الذي بدوره كان ضد الاحتجاج. خميس ونعيمة تفوقا على نفسيهما.. من الأمور التي نجح فيها فيلم "خميس84"، هو جعل الممثل ميمون زانون الذي أدّى دور "خميس"، والممثلة شيماء العلاوي التي أدت دور نعيمة، يتفوقان على نفسيهما في مسألة "التشخيص".. فلا غرو في الزّعم أن "ميمون زنون" تمكن في كثيرٍ من المشاهد من نقل إحساسه للمشاهد بواسطة "ملامح سُحنته" فحسب، ناجحاً في استعمال لغة التعبير الجسدي، بحيث برع في نقل معاناته الشخصية بطريقة مؤلمة موغلة في الأسى ومُمْعِنة في الوجع، في حين عاش خلال تجسيده للدّور، تقلّبات عديدة جعلنا فعلا منبهرين من إمكانياته ومقدراته في "التشخيص" ليُثبت مرة أخرى أنه أحد الفنانين المغاربة القلائل، الذين آوتوا الموهبة الفذّة والحقّة، القادرين على تشخيص وتجسيد الأدوار بهذه الطريقة المميّزة والمتفردة. فيما "شيماء العلاوي" التي دائما ما كانت تبصم على حضور قوي، خصوصا في أعمالها المسرحية والتلفزية، أثبتت خلال أول مشاركة لها في فيلم سينمائي، أنها قادرة على لعب أدوار البطولة والتميّز بها، فكانت شخصيتها مُهيمنة في جل المشاهد التي كانت حاضرة في تأثيثها، وجعلتنا نعيش عن كثب، لحظات مؤثرة داخل الفيلم، سيما في مشهد حوارها القويّ مع العسكري الذي أدته بكل جوارحها إيماناً بالدور المنوط بها في منجز خميس84. العجز الجنسي.. الخيانة الزوجة مثلما أسلفت، فالفيلم تناول مواضيع مختلفة ومتنوعة، بيد أن الموضوع الذي أثار المشاهد الناظوري، وأخذ حيّزا من النقاش والجدل أكثر مما يستحق، هو مسألة تطرقه إلى مشكل هاجس العجز الجنسي، وهاجس الخيانة الزوجية، وكذلك تضمن الفيلم لمشاهد تبقى جريئة بالنسبة للمشاهد "الريفي"، رغم كونها في عالم السينما أصبحت جد عادية. وهنا سأبتعد قليلا عما هو سينمائي، للحديث عن هذا الموضوع المثار من زاوية محض اِجتماعية، فالعجز الجنسي هو اعتلال حقيقي موجود في الواقع ويعاني منه رجالٌ ونساء على حد سواء، وعدم الخوض فيه علناً وقبول علّته وكذا البحث عن علاجه، يؤدي فعليا إلى مطّب الخيانة الزوجية، والهروب من مثل هذه الأمراض كهروب النعامة، تجعل العائلة تتشتت وتعاني العديد من المشاكل، وتناول هذا الموضوع في فيلم سينمائي هو محاولة تكسير ل"الطابو"، الذي لا يتجرأ الكثيرون على الخوض فيه لأسباب تبقى إلى حدود الساعة غير مفهومة وغير مبررة. عودة إلى الحديث عن العمل سينمائيا، أعتقد أن العجز الجنسي الذي أصاب الخياط "خميس"، كان سيكون تافها وغير مبرر لو أُقحم في الفيلم، دون أن يصاب الشاب "عبّاس" برصاصة في مؤخرته، وتخترق جسده وتحوّله كذلك لعاجز جسني، وهو الذي كان يحتج لأجل تحسين ظروف العيش، حتى يتمكن من إنهاء حياته مع نعيمة صديقته، وكان سيكون أكثر تفاهة لو لم يكن "خميس" نفسه له موقف مضاد من المحتجين. إن تناول السينما لمثل هذه القضايا والمواضيع هو أمر جدّ عادي، بل هو أساسي، خصوصا بالنسبة لمجتمعنا الذي لا يزال يعتبر الجنس من الطابوهات المحرّمة الخوض فيها، والحديث عنها علانية. للختام.. العلاج بالصدمة إن أي عمل سينمائي له سلبياته وايجابياته، وكمشاهدين يمكن أن نعجب بالعمل ومن الممكن أن لا نعجب به طبعا، لأن السينما كذلك أذواق، لكن خندقة انتقاد عمل لأنه فقط أثار موضوع الجنس، فهذا غير مبرر وغير منطقي بالمرة، على اعتبار أن أعمال الفن السابع ما خلقت في الأصل إلى لتكسير "الطابوهات"، وأن تصوّر المحرم وغير المحرم، وأن تنقل الواقع والخيال، وأن تمزج بينهما في قالب واحد. فيلم خميس 84 صُوِّر في مكان واحد داخل منزل واحد، في أحداث 1984، ولم يخرج إلى الشارع ونقل أحداث الشارع، بل نقل فقط حدثا داخليا في تلك الفترة، وهو من إنتاج ذاتي لم يتلقَ دعما من طرف أي جهة، إذ كان مجهودا نتفق أو نختلف بشأنه، كما يجب القول أنه كسّر مجموعة من "الطابوهات" ناجحا إلى حدّ الساعة في علاجها بالصدمة، وأحداث 84 من الممكن أن تكون ملهمة للعديد من الأفلام ليس لفيلم واحد فحسب.