إن تواجد الإسلام في القارة الأوروبية ليس أمرا حديث الوقوع بل إن هذا التواجد يرجع إلى أوليات الاحتكاك الإسلامي بالقارة الأوروبية أي في القرن السابع الميلادي إذ حاول المسلمون دخول القارة الأوروبية من جهة الشرق في محاولات يائسة لفتح القسطنطينية في عهد معاوية، لكن طارق بن زياد ولجها عن طريق البحر غربا سنة 710 م إلى أن وصل المسلمون بعدها الى مدينة بواتييه الفرنسية. الأغالبة من حكام تونس دخلوا جزيرة سردينيا 810م ثم كريت ثم صقلية 827م وتعود بدايات الوجود الإسلامي في الأراضي الفرنسية الى أيام دولة الأندلس وبعد هزيمة معركة" بلاط الشهداء" وقع بعض أسرى المسلمين في قبضة الفرنسيين فتم نقلهم الى شمال فرنسا واستقروا هناك فاعتبر ذلك بمنزلة أول وجود فعلي للمسلمين في فرنسا . وبعد سقوط الأندلس وملاحقة الفرنجة للمسلمين اضطر حوالي 150 ألف مسلم الى اللجوء الى جنوبفرنسا والاستقرار فيها . وبوصول العثمانيين الى السلطة عرفت قلب أوروبا احتكاكا مباشرا مع الإسلام إذ أصبحت القسطنطينية 1454م عاصمة الإسلام الفعلية وكان للعثمانيين الفضل في أن تعرف دول أوروبية أخرى الإسلام كمنطقة البلقان 1355م وبلغاريا 1372م وبلاد الصرب 1386م والبوسنة والهرسك1389م وكذلك كرواتيا وألبانيا وبلجراد وبلاد المجر وتوقف الإسلام على حدود فيينا 1683م . ويشكل الإسلام حاليا الديانة الثانية بعد المسيحية في أوروبا. كما يشكل المسلمون حاليا نسبة من السكان في القارة الأوروبية تصل إلى 7% ، وتشهد أوربا تعاقب أجيال من المسلمين تصل إلى حدود الجيل الرابع في الدول الذي عرفت مبكرا ظاهرة الهجرة. ثم إن الحديث عن احتكاك الإسلام بأوروبا كديانتين مختلفتين قد بدأ قبل قدوم المهاجرين إلى أوروبا، فكثير من الأوربيين قد عرفوا الإسلام مبكرا وذكروه في مؤلفات وكتب أو بمشاركة في بعثات عسكرية أو ثقافية أو سياسية. ويمكن أن نقول بدون مواربة بأن التواجد الإسلامي في أوروبا مر بمراحل عدة كانت بدايتها عفوية إذ لم يكن هناك لا تخطيط ولا برمجة ولا مرافقة لهذه الهجرة التي كان يظن أنها مرحلة عابرة في تاريخ المهاجر حيث أن المجتمع الأوروبي لم يجد أي إشكالية في استيعاب هذه الهجرات إذ كان يكفي الدولة ضمان الشغل وضمان بعض حقوق اليد العاملة المهاجرة دون التفكير في متطلبات حياته من مرافقة لحاجياته النفسية والروحية له ولأولاده من بعده كإيجاد مدارس ومستشفيات ومرافق عامة تلبي لهم حاجياتهم النفسية والروحية. ولم يظهر هذا الخلل إلا بعد تجذر الهجرة وبروز جيل ثان إذ لم يستطع المجتمع أن يصهرهم في بوتقة نسيجه الثقافي ولم تنجح عمليات الإدماج بالطريقة التي سطرتها الدولة من أجل ذلك إذ طفى على السطح مشكل الهوية المضطربة الذي لم تحسن الدول في أوروبا باختلاف طرق معالجتها التعامل معها بشكل يرضي الجميع. لكن بتقدم الزمن واكتساب الخبرة والتجارب بدأ المسلمون بالانخراط كمواطنين أوروبيين كاملي المواطنة في بناء المجتمع الأوروبي المتعدد وذلك من خلال بناء مؤسسات واندماج الشباب في أسلاك ثقافية وسياسية عليا. إن الكتابة عن الإسلام في أوروبا قد يدفعنا إلى الحديث عن العناصر المكونة والبانية لهذا الموضوع .إذ بدون استجلاء حقائق هذه العناصر لا يمكن الحديث عن واقع الإسلام في أوروبا الذي يسعى لتأطير نمط تفكيرنا وتشكيل وعي شبابنا وبناء واقع مجتمعنا. فالحديث عن الإسلام في ديار الغرب عموما وفي أوروبا خصوصا تعتوره إشكالات كثيرة لا يمكن أن نختزلها في اختلاف الثقافات التي عطل اندماج المسلمين في المجتمع الأوروبي ولا في اختلاف السياسات الأوروبية إزاء التواجد الإسلامي ولا في الشخصيات التي تمثل الإسلام كشخصية الإمام وتوظيفه للنصوص الدينية وعدم احتكامه للنصوص في تفاعلها مع السياقات الأوروبية ولا في الفتوى التي تعالج قضايا من إفراز واقع ينتمي لحضارة مغايرة تماما لواقع وحضارة الإسلام وبعقلية تستعير مفرداتها من واقع وتجربة بعيدة عن تجربة من يعيش في أوروبا، ولا علاقة المسجد بالفضاء العام الأوروبي ولا في التوجهات الحركية والإيديولوجية لبعض الفاعلين في المجال ولا في كثير مما يثار عن الإسلام ومستقبله في أوروبا. بل إن الحديث عن الإسلام في أوروبا يستدعي منا الإلمام بكل هذه العناصر المؤثرة في هذه العلاقة والتي حددتها من خلال هذا المقال المتواضع في: -الإمام الذي يعد الوجه البارز والمجسد للحضور الإسلامي المتزايد في أوروبا والمعبر الحقيقي عن إشكاليات العلاقة بين الثقافة الإسلامية والقيم الغربية والتي سببت في أزمات يصعب تجاوزها إن لم يفهم الإمام دوره الريادي في فك هذا التعارض عبر تفاعله مع القيم الإنسانية الكونية التي تفرضها الثقافة الغربية وحسن تنزيل النصوص الشرعية المراعية للسياقات الأوروبية. - المسجد وعلاقته بالفضاء الأوروبي: إذ المساجد بأوروبا لا تعيش تحديات التسيير والاعتراف والتمويل كتحديات عاصفة بل إن هذه الأخيرة ماهي إلا مشاكل عابرة في حياة المساجد بأوروبا، ولكن التحدي الكبير الذي قد يعصف بمستقبل المساجد في أوروبا هو تحدي وجودها وبقائها في فضاء أوروبي يسير نحو الانغلاق ورفض الآخر ومحاولة إزالته من هذا الفضاء الذي يحيل على ثقافة وحضارة الآخر المزعجة. وعلى المساجد في أوروبا إن أرادت الحفاظ على استمراريتها والدخول بقوة للمشاركة في بناء المجتمع الأوروبي أن تنفتح على القيم الكونية النبيلة التي دعا إليها ديننا الحنيف قبل كل شيئ، لتبديد عقدة الخوف التي تسكن الإنسان الأوروبي جراء الصور النمطية التي تشكلت في مخياله عن المساجد في أوروبا، خاصة وأن المجهودات المبذولة من طرف هذه المؤسسات لمحاولة التقريب بين الثقافات لم ترق إلى المستوى الذي يمكن أن تلامس فيه بشكل جدي وعميق الإشكالات التي تعمق الهوة بين الإسلام وأوروبا مجسدة في الثنائيات الحدية والضدية، كما أنها لم تطرح من الوسائل ما يمكن لها من سحب الشرعية من تحت بساط دعاة الكراهية والإقصاء، ولم تبد اهتماما واسعا للعمل على ترسيخ هذه القيم المشتركة كالتعاون والتضامن والتسامح والتثاقف وغيرها. -الفتوى في سياق أوروبي مختلف: الفتوى رأي في الدين أو هي اجتهاد بشري يعالج نازلة معينة معالجة شرعية، قد يصيب بها المفتي قصد الشارع في النازلة أوقد يخطئ خاصة تلك التي تتأثر بالتوجهات السياسية، فكثيرا من أئمة الإسلام التاريخيين كانوا على وعي تام بأن الفتوى رأي ديني قد يخضع للصواب كما أنه قد يخضع للخطإ. فتعريف الفتوى على أنها حكم صادر عن الله وأن العلماء هم الموقعون عنه سبحانه (ابن القيم) تحتاج إلى كثير من النقاش وإلا فإن كل الفتاوى التي اعتبرت شاذة أو منافية للروح الدينية الإسلامية قد نعتبرها بموجب هذا التعريف صادرة عن الله: أن الحكم الشرعي مطلق لربانية مصدره، والفتوى نسبية، لأنها مبنية على اجتهاد بشري في اختيار أوفق الأدلة والقواعد بخواص النازلة المعروضة. ولعل هذا التعريف هو الأنسب لحال السياقات الاجتماعية في أوروبا. ثم إن المفتي في أوروبا يعيش إشكالية كبيرة تتصل بفوضى الفتوى بفعل التطورات الحاصلة في واقع هذه المجتمعات وأنتجت قيما جديدة في الاستهلاك الفضائي والافتراضي. فالثورة الرقمية التي انفلت عقال التحكم فيها بتصاعد وتيرة إيقاعاتها في العقود الأخيرة صارت تفرض على الفقيه تحديات خطيرة تتعلق بوجوده كأداة ناجعة لنقل المعلومة الدينية في عصر الأنترنيت والفضائيات وصارت تسائل الفقيه المفتي في أوروبا وتفرض عليه مراجعة أدواته التقليدية وأدواره التي لم تعد تستجيب لسياقات هذه الثورة. اختلاف الثقافات عطل اندماج المسلمين في المجتمع الأوروبي قد سجل المسلمون المقيمون في أوروبا الحديثة حضورا بارزا وملفتا للأنظار وهم في تكاثر مستمر. وأصبح هذا الحضور المتزايد يشكل تحديات كبيرة للمجتمعات الأوروبية تتعلق باختلاف الثقافات والقيم التي تتسبب في فتح نزاعات يصعب تجاوزها بسهولة. فالتعارض بين القيم الثقافية للحضارتين تبلور أساسا عبر النظرة المختلفة إلى الإنسان وعلاقته بالوجود من منظور عقدي أو مدني. فقيم الديموقراطية في أساسها النظري تنبعث من فسلفة الإنسان الذي هو مصدر السلطات في السياق الغربي على عكس نظرة الدين الإسلامي الذي يعتبر الإنسان عبدا خاضعا لأوامر حددها الشرع الذي مصدره الله . فالتعارض بين المبدأين يترجم فيما يعرف بالحكم للشعب والحاكمية لله. فحرية التعبير الذي هو حق مقدس لدى الإنسان الغربي يعتبر من الخصائص الأولية لحرية الإنسان في الثقافة الغربية، ويشمل هذ الحق الخوض في كل ما يتعلق بحياة الإنسان وبما أن الدين جزء من حياة الإنسان فهو معرض للخوض فيه نقدا وتجريحا مثله كمثل أي موضوع أخر له صلة بحياة الناس. ومن هنا نفهم قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم التي ثار حولها لغط وجدال كبيرا ن في الأوساط السياسية والثقافية والدينية في أوروبا. وجرت الويلات على بعض الصحف التي نشرتها وبعض الذين قاموا برسمها. إن أسباب المشاكل التي يعاني منها المسلمون المهاجرون عموما ليست من صنيع المسلمين فقط بل إنه من الإجحاف الكبير إهمال التاريخ الأوروبي في احتكاكه بتاريخ المسلمين الأوائل في صنع الذاكرة الأوروبية الموشومة بحالات الصراع بين الحضارتين. يجب أن تتحرر النظرة التقليدية الأوروبية المنبعثة من المخيال الجماعي التي غالبا ما تربط المسلمين بالشرق وما يثيره ويستدعيه هذا المصطلح من أساطير وخرافات شابت علاقة الشرق بالغرب. فأوروبا التي ما فتئت تتغنى بحقوق الإنسان والدفاع عنها كقيمة حضارية وواجهة ثقافية يتميز بها الإنسان الأوروبي، صارت تتخوف من هذا الوجود الذي قد يؤدي إلى تغيير ملامحها الثقافية وفقدان هويتها وتترجم هذا الخوف بتعابير اجتماعية مختلفة تتجلى من خلال ممارسة عمليات الإقصاء التي تنتهجها بعض الشركات الأوروبية في حق الشباب المسلم أو من خلال رفض بعض مظاهر التواجد المسلم المرتبط بنوع الزي مثلا أو من خلال تظاهرات احتجاجية تتخذ من العنصرية ورفض الآخر شعارها اليومي. دعنا نعترف بأن التواجد الإسلامي في أوروبا كان وراء بروز إشكاليات عويصة وشائكة ولكن لا ننسى أنها كانت مثار نقاش فكري سياسي وديني شارك فيه العالم بكل حمولاته الفكرية والسياسية والدينية وأثرى أدبيات غربية كانت السبب في مراجعة بعض القيم الغربية التي كانت إلى حد قريب في طليعة ما يبشره به الغرب ضمن مزاياه الحضارية والإنسانية. إنه من المستحيل الحديث عن بناء أوروبا اليوم والحديث عن مستقبلها بدون إشراك حقيقي والأخذ بعين الاعتبار الوجود الإسلامي بكل تمظهراته في القارة العجوز. اختلاف السياسات الأوروبية إزاء التواجد الإسلامي. إن حجم الهجرات المسلمة قد تضاعف كثيرا وسرع من وتيرة النمو والتكدس الديموغرافي للمهاجرين المسلمين في أوروبا مقارنة بالهجرات إلى أمريكا. وقد شكل هذا الواقع تغييرا في البنية السكانية لمجتمعات الهجرة حيث باتوا يعتبرون من السكان الأصليين بعد اكتساب حقهم في المواطنة. هذه الوضعية المجتمعية الجديدة التي مكنت المهاجرين المسلمين من الانتقال من مجرد عمال مهاجرين يبحثون عن إقامة مؤقتة مرتبطة بعقد عمل مؤقت إلى جزء رئيسي من تركيبة المجتمع المضيف قد أجبرت عددا من دول أوروبا في إعادة التفكير في كثير من قضايا الإسلام والمسلمين. ثم إن موجات الهجرة قد عرفت أنماطا من التدين ترتبط أساسا بتعاقب موجات الهجرة. فالمهاجرون الأوائل الذين تبنوا إسلاما تقليديا قد اهتموا بالبحث عن مقرات للعبادة بصفة مؤقتة وبناء المساجد التي تذكرهم بالأجواء الروحانية كنوع من النوستالجية التي تشدهم لأوطانهم، والموجة الثانية من الهجرة قد تميزت بقدوم نخبة مغايرة من المهاجرين تتألف أساسا من الطلبة الراغبين في استكمال دراستهم بالجامعات الأوروبية ومن سياسيين حصلوا على اللجوء السياسي لأسباب تتعلق بالأوضاع السياسية لبلدانهم ونصبوا من أنفسهم دعاة جددا يبشرون بإسلام سياسي يستلهم في أدبياته نموذج الخلافة الإسلامية حيث كونوا البنية الأساسية لما يسمى بالإسلام الحركي، وأخيرا ظهور إسلام تعبوي امتد ليعيش تنافسا حادا بين تياراته المنشطرة بين دعاة للانغلاق على الذات خوفا من الذوبان وبين تبني خطاب متطرف أفضى بوعي منهم أو بغير وعي إلى ظهور جماعات متشددة تتبنى الخطاب المصادم مع الغرب. هذان المعطان قد دفعا بأوروبا إلى تغير مستمر على مستوى سياستها تجاه المهاجرين المسلمين وصرنا نلاحظ تفاوتا ملحوظا بين دول أوروبا في تعاملها مع ملف الهجرة والإسلام. ففي فرنسا مثلا يشكل المهاجرون من أصول مغاربية النسبة الكبيرة من المسلمين والتي يجملها بعضهم في خمسة ملايين مسلم. وبحسب النظام الجمهوري الذي تتبناه فرنسا فإن الهوية الفرنسية تقوم على أساس مفهوم أنساني منفتح يستوعب غير الفرنسيين الأصليين في اكتساب الهوية انسجاما مع مبادئ حقوق الإنسان كما عممتها الثورة الفرنسية منذ 1789. ويكفي للمهاجر أن يثبت تواجده في الأراضي الفرنسية بشكل قانوني ليكون له الحق في اكتساب الهوية الفرنسية. أما في ألمانيا فإن الهوية قائمة على أساس عرقي ومن هنا صعوبة اكتساب الهوية الألمانية على خلاف بريطانيا التي تسمح بتكوين جماعات على أساس عرقي يمكن أن يدخل في تشكيل المجتمع البريطاني المتعدد ثقافيا. إذن فأوروبا تبني سياسة الهجرة وسياسة تدبير الإسلام من خلال تجربتها التاريخية وتماشيا مع قيمها الأخلاقية ومراعية مصالحها الجيوسياسية. ويمكن أن أجزم أخيرا أن الإسلام اليوم في أوروبا قد أصبح "الترمومتر" الذي يقاس به درجة قدرة الأوروبيين على تحمل ثقافة الآخر والقبول بالعيش بنظام تعددي يتيح الاعتراف بالآخر في المجتمع الواحد. فقبول بلديات أوروبا ببناء المآذن وقبول المدرسة الأوروبية بتلميذة محجبة وقبول المجزرة الأوروبية بلحم مذبوح وقبول روضة أوروبية بطفل مختون كلها مؤشرات على درجة تحمل أوروبا لثقافة الآخر المختلف ومحك حقيقي لتنزيل القيم الإنسانية من مستواها النظري إلى مستوى العمل و التطبيق.