ما كلَّفني به شبابُ هذا اللقاء، الذين نظموا - بحماسهم وحيويتهم وأهدافهم - هذه الندوة، التي تزخرُ بأسماء أساتذة ومهتمين، كلُّ واحدٍ منهم مختصٌّ في ميدانه، ليس سهْلاً، ولا يُمْكنُ الإحاطة به في لقاءٍ واحدٍ، وفي مدة زمنية وجيزةٍ، إنما هو يحتاج إلى وقت غير محدودٍ، وإلى لقاءات لا تنتهي، وإلى صفحات وصفحات، وإلى كتب وكتبٍ، وإلى أعمارٍ وأعمار، وأجيال وأجيال، وعصور وعصورٍ... هو موضوعٌ قديمٌ، لكنهٌ يتجدَّدُ في العهود المتعاقبة وبين الأمم المختلفة. الحديثُ عن الأدب والوعي، يعني الحديثَ عن العلاقة بينهما، عن التأثير المتبادل بينهما، عن أثرهما لدى الأفراد والجماعات. وقبل أن أدْلي بدلْوي في هذا الموضوع اسمحوا لي أن أتناول كلمتي (الأدب) و(الوعي) بشيءٍ من الشرح من حيث اللفظ والاصطلاح، وقد اخْترتُ أن أستعمل كلمة (دلو) لأنَّ النجوم اختارت أن يكون بُرْجي (الدلو)، وعليه فإذا أخطأت، أو قصَّرتُ، فالعُتْبُ على الدَّلْوِ، والنجوم هي السبب! ولأبْدأ بكلمة (الوعْي)، ولعلها الأسبق؛ إذْ عن طريق الوعي ندرك الأشياءَ، ونفهمُها، ونحكم عليها.. وهو ملَكَةٌ إنسانيَّةٌ تنشأ عند الإنسان، وتنمو بنموِّ مَلَكةِ التفكير الإبداعِيِّ لديْه.. وبالوعْيِ نفرزُ الأدب عن غير الأدب، ونتذوقه، وننفعل به، ونميِّزُ أنواعَه وفنونَه. كل القواميس تشتركُ في أنَّ الوعْيَ من (الوعاء)، وهو واحدُ (الأوعية)، و(أَوْعى) أي جعله في الوعاء، و(وعى) الحديثَ أي حفِظه، وفي وجهٍ آخر أضمَرَه.. وما هو مضمرٌ قد يكون حسناً، وقد يكون قبيحاً! و(وعى) العظْمُ: إذا إنْجبر بعد كسْرٍ. و(الوعْيُ) هو حِفْظُ القلب للشيء، قال بذلك أحدُ الأئمة القدامى. وهو العقل الظاهر.. النهضة واليقظة، قال بذلك أصحابُ [المعجم الوسيط]. قد تبدو لكم هذه المعاني معروفةً ولا جديد فيها، لكن أخبركم أني وقفتُ على معانٍ أخرى تعجبت منها، منها (واعي) اليتيم، وهو الذي يقومُ عليه.. ومنها (الواعية والوعْيُ والوَعى) أي الصوتُ مرة، والصراخُ على الميت مرة أخرى.. وأعجبُ من هذا أنَّ (الوَعَى) تعني جلبة أصوات الكلاب، و(الوعْيُ) في معنى قديم يعني كثير... وأنتقل مباشرة إلى كلمة (أدب)، وهي تعني – ببساطة -: هذَّبَه، عاقبَه على إساءةٍ، أقامَ مأدبةً. ويُقالُ رجلٌ أديبٌ مؤدَّبٌ يؤدِّبُ غيرَه ويتأدَّبُ بغيره. وفي رأيي هذا ما ينبغي أنْ يكونَ؛ لأنَّ «الأدبَ الذي يتأدب به الأديبُ من الناسِ، سُمِّيَ أدباً لأنه يأدِبُ الناسَ الذين يتعلمونه إلى المَحامد وينهاهم عن المقابح.. يأْدِبُهم أي يدْعوهم، وأَصْلُ الأدب الدُّعاء»! أبو منصور الأزهري: (تهذيب اللغة). و(الأدْبُ) مجزومُ الدَّال تعني الأمر العجيب. ومن المعاني الغريبة لكلمة (أدب) كثرة الماءِ.. قيلَ جاشَ أدبُ البحر! وهناك كلمة (مأدوبة) وتعني المرأة التي صُنِعَ لها الصنيعُ. وفي لقائنا هذا يعنينا (الأدبُ) جمع آداب، وهو التهذيبُ الجميل من الشِّعْر والنثْرِ. فالأدب ينقسمُ إلى شعر ونثْرٍ، يصوغُهما أصحابُهما صياغةً خاصَّةً، تعتمدُ على الشكل الفني، لكي يثيرا فينا إحساساتٍ جماليَّةً، أو انفعالات عاطفيَّةً، أو هما معاً، كما يشترطُ أهلُ الميدانِ. ومهما انقسمت اتجاهاته ومدارسه الفنية، وتعددت تياراته وروافده، وصبَّ في أنهار ومحيطات مختلفة، فإنَّ الأدب يهتم بالإنسان والحياة الإنسانية وواقع الأفراد والجماعات، وحتى إذا تناول قضايا أخرى مثل قضايا الطبيعة وما وراء الطبيعة وأسرار الكون وكائنات الوجود الغريبة، فإنه يربطها بالإنسان، ويبحث عن العلاقة الكائنة، أو التي يجب أن تكون بينها وبين الإنسان. فالأدب خلق للإنسان في الأول والأخير. وألْصَقُ الآداب بالإنسان الآداب التي تهتم به، وبحياته، وواقعه، ومجتمعه، وبالقضايا التي تتعلق به مثل السياسة والاقتصاد والحروب والمشاكل والأزمات والأمراض والآفات والعقبات التي تعترض مسيرته في الوجود... فالأدب تعبيرٌ عن الإنسان من خلال التعبير عن المجتمعات الإنسانية الكبرى والصغرى، المجتمعات الداخلية والخارجية، المجتمعات البسيطة والمعقدة، المجتمعات المتطورة والمتخلفة، باختصار كل المجتمعات وكل الناس. وقارئ الأدب يجدُ فيه ما يرتبط به كذاتٍ فاعلة ومفعولة به، يجدُ ما يسعدُه ويشقيه، ما يفرحه ويؤلمه، ما ينزعُ إليه من أشواق وتطلُّعات، وما يكره من أشواكٍ وتظلماتٍ. وعن طريق الأدب يدرك الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخير من الشرِّ، ويعرف أهل هؤلاء وأهل هؤلاء، وبه يستطيع أن يختارَ المنزلة التي ينزلُ فيها، والناس الذين يقف إلى جانبهم، وأكثر ما يقف مع الأخيار، ومن الشذوذ أن يصطفَّ إلى جانب الأشرار، فلا أحدَ يُعلنُ عن وقوفه في مضمار الشرٍّ، وحتى الذين يقفون فيه يزعمون أنه الخيرُ! وبهذا، يتحدَّدُ لديه ما يُسمَّى الوعْيُ، أو أنه ينتبهُ بالوعْيِ الخامِّ الذي يملكه مسبقاً إلى ما يجبُ أن ينتبه إليه من قضايا تمسُّه من قريب أو بعيدٍ، فيتشكل الوعْيُ من جديدٍ، ويفكر في تلك القضايا، ويتناولُها بالدرس والتحليل، وقد يدفعُه ذلك إلى السعي والعمل والتغيير إنْ كان ثمة ضرورة للتغيير، ويتعلَّمُ الدُّروسَ، ويتهذَّبُ، ويَرْقى.. ولا بدَّ أنْ يكونَ بعد الأدب التغييرُ والرُّقِيُّ، وإلا ما جدْواه، وما محلُّه من الإعراب كما يقولُ أهلُ الأدب؟! فالأدب يؤدب المرءَ، ويحسن تأديبَه، أو أنَّ المفروض أن يقوم بهذه المهمةِ، ويحقق هذه النتيجةَ.. فأنا لا أتصور أن يكون أهلُ الأدب منْحطين في مشاعرهم وسلوكهم، أو يكونوا أجلافاً قذرين في نواياهم وعواطفهم، وبالأحرى سيئين فيما يأتون من أعمال أو يتركون من أعمالٍ! في نظري إذا كنا نقرأ الأدب من أجل التسلية وإزجاء وقت الفراغ فحسْب فلا حاجة لنا إلى هذا الأدب... وللأسف هذا ما نلمسُه في واقعنا، وفي معاشنا ومعادنا! فالأدب كثيرٌ لكن لا أثر له بيننا، والأدْهى أنه لا أثر له بين الأدباء أنفسهم في كثيرٍ من الحالات والمواقف، ويبقى الأدب في مجتمعاتنا وبيئاتنا حبراً على ورقٍ، ونصوصاً للتلاوة على الكرسي أو السرير.. ويظلُّ - في الغالب – مكْتَفِياً بتسجيل أحداث ومواقف، مكتسياً ثوبَ البراعة اللغوية والأسلوبية، وهذه الظاهرة قديمة قدم عصور الأدب العربي بصفةٍ خاصَّةٍ، وطغى عليه مفهومُ (الإمتاع والمؤانسة) والمُفاضَلَةُ بين طبقات الأدباء وتوزيع الجوائز وإضفاء الألقاب، فهذا أمير وهذا صعلوك، وذاك متنبي وآخر مجنون؛ ولا يعْدو اللحظات التي يُكْتبُ ويقرأ فيها، سواء عند الخاصَّة أو العامَّةِ، أَمَّا ما يجْري الآن عبْرَ الوسائط الإلكترونية فيجبُ أن يُحالَ إلى محْكمةِ الجنايات! فالناسُ يأخذون الأدب مأخذ الهزل واللهو والترويح عن النفس في ساعات محدَّدَةٍ، ولا يَنْفُذُ إلى أعماقهم بحيث يهزُّهم هزّاً، ويرجُّهم رجّاً، ويزلزلُهم زلزالاً، ويثيرُ فيهم المعاني الجميلة بقوة، فيسعون إلى أن يحققوها في وجودهم، ويجسِّدوها في أعمالهم، ويتحرَّكوا تلك الحركة المبارَكَةَ، إلا قليلون، وهؤلاء هم في دَرجَةِ الغرباء! وفي هذه المقام يحضُرُني أديبُ الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء "أبو حيان التوحيدي"، الذي عاش في زمنه الاغتراب بالمعنى العام والخاص، واضطره الشقاءُ والألمُ أن يحرق بعض كتبه؛ فقد عانى «من واقعٍ اجتماعيٍّ شديد الوطأة على الناس وعلى المبدعين منهم بخاصَّةٍ، ومجتمعٍ تتلوَّى فيه أحشاءُ المبدعِ جوعاً والقيانُ والمغنياتُ يرفلن في الحرير، ويرتدين أزهى الثياب وأغلى أنواع الحلي. هو مجتمع متفسِّخٌ يوشكُ أن يسلِّمَ الراية الحضارية لمجتمع آخر». عبد العزيز المقالح: (مدارات في الثقافة والأدب). أليس واقعُ أبي حيان القديمُ يشبه واقعَنا المعاصرَ كثيراً؟! من المفروض أن ننتفع بتجارب الأجيال التي سبقتنا وطواها الزمنُ، لكن يبدو أننا لا ننتفع بتجارب من سبقونا، وبخاصة التجارب التي تدعونا إلى التغيير نحو الأفضل، وقد ينتفعُ أهلُ الشر والفساد بتجاربِ أهل الشرِّ والفسادِ، فمثلاً، اللصوص ينتفعون بتجارب اللصوص السابقين، لكن الشرفاء لا ينتفعون بتجاربِ أَشْباهِهم الغابرين! وضدُّ هذا المثال، يحضرني مثالُ الكاتبة الأمريكية "هارييت بيتشر ستو"، مؤلفة الرواية الشهيرة (كوخ العم توم)؛ فهذه الرواية ساهمت في خلق أمريكا جديدةٍ واحدةٍ خاليةٍ من عار الرِّقِّ والعبودية، وكانت من بين مُمَهِّدات الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب، ويُقالُ إنَّ الرئيس الأمريكي "لنكولن" قام بدعوة المؤلفة إلى زيارته في البيت الأبيض، وقال وهو يصافحها: «.. إذن، فهذه هي المرأة التي أشعلت الحرب الأهلية في البلاد!». هنا يتجلَّى أثر الأدب في صناعةِ الوعْي لدى الناس، أو التأثير الإيجابي الذي تركه الأدب في ضمائر الناس، بحيث أنَّ روايةً دفعتهم إلى تغيير واقع اجتماعي سيء، كانت تعاني فيه فئة السود من العبودية والاضطهاد، إلى واقع أحسن، انتفى فيه الظلم والأذى. أما نحن فما زال وعْيُنا لا يتجلَّى حتى ونحن نعبُرُ الطريقَ، ولا زال الكثيرون لا يفرقون بين ألوان إشارات المرور، ولا يُراعون الاختلافَ الذي جعله الله بين الليل والنهار، ولا يُدْركون قيمةَ الوقْتِ!.. وبالأحرى أن يتجلَّى في الظواهر الكبرى!! هذا ما نفتقر إليه في أدبنا، وهذا ما يخص وعْينا.. الفعْلُ وما أدراك ما الفِعلُ. أو (الفعالية) كما حدَّدَ المفكرُ الجزائري الراحل "مالك بن نبي"، في أكثر كتبِه التي عالجَ فيها (مشكلات الحضارة). وهنا يكْمنُ الفرقُ بين أدب ووعي وبين أدب ووعي آخر! هل ما زلنا نحتاجُ إلى الأدب من أجل الوعْيِ؟! ألم تكفنا كل هذه القناطر المقنطرة من كتب الأدب والشعر والرواية والقصة والمسرح في صناعة الوعْي، سواء الفردي أو الجماعي؟ إننا نملك ما لا يأتي عليه الإحصاءُ والعدُّ، وما زالت المطابعُ وأسواق الكتب تَطْرَحُ المزيدَ منها، وحالُنا من الفوضى والتخلف والتشرذم والهوان بين الأمم المتقدمة لم يتبدَّلْ؛ ونمطُ عيشنا، ومنهاجُ تفكيرنا، وأسلوب حكمنا، لا يدلُّون على أي ارتقاءٍ في الوعي، أو انتفاع بالأدب، أو حتى بالعلم والفكر، وإنَّ مظاهر الشقاء الإنساني، ودلائل الشر والفساد، لا تخفى عن ذوي الأبصار والعُمْيانِ؛ لأنَّ ما نفتقرُ إليه كما قلتُ هو الفعلُ، هو التغييرُ، وإنَّ الله سبحانه لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم. وفي اعتقادي أننا لا نشْكو من قلَّةِ المعرفةِ والثقافة، وغياب المعلومات والمَعالمِ، فهي مطروحةٌ في الطريق وفي وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، وفي المدارس والجامعات والمساجد، لكن ما نفتقرُ إليه هو الخضوع للقيم، والامتثال لما أمر به الدِّينُ والقوانينُ، ومراعاة الأخلاق والفضائل.. فقد نُصادِفُ رَجُلاً أُمِّياً لكن على خُلُقٍ، وقد نَلْقى رَجُلاً مثقَّفاً لكنه مارِقٌ! مما يعْني أنَّ الوَعْيَ له صلةٌ أَساسيَّةٌ بالذات الإنسانية الخالصةِ، أيْ الفطرة، ويشترطُ المبدأ الأخلاقيَّ، ولا يشترطُ أنْ يكونَ الأدبُ وغيرُ الأدبِ بالضرورةِ، وإنْ كان يزدادُ به، وينمو أكثر. وكما قال "توفيق الحكيم" في كتابه (أدب الحياة): «إنَّ منظرَ الإنسان في هذا القرن (..) ليدْعو إلى العجب، فالصورةُ الحقيقيَّةُ له هي صورةُ مخلوقٍ لهُ ذكاءُ العالِمِ، وضميرُ القُرْصانِ، وغريزةُ الحيوان!...». واعذروني إذا عدتُ بكم إلى بداية الكلام، وأجعلُكم تقفون مرة أخرى عند معنى (الوعْيِ) لديْنا، ألا وهو جلبة أصوات الكلاب، ويبدو أنه المعنى المنتشر بقوة بيننا.. وأجعلُكم تقفون عند معنى (الأدب) الذي يعني المرأة التي صُنِعَ لها الصنيعُ، وهو صنيعٌ سيِّءٌ! قبل أن أختم كلامي، أَوَدُّ أن ألفت نظر الحاضرات والحاضرين، أنَّ الأدبَ لا يدخلُ في نطاقِ الحضارة؛ لأنَّ الحضارةَ تقومُ على كل ما له صلةٌ بالعلومِ، والتي هي عالميَّةٌ، وفي زمننا هذا بخاصَّةٍ، أمَّا الأدب، وكذلك الفنُّ، فيندرجان في مفهوم الثقافةِ، و«الثقافة - كما قال الدكتور "حسين مؤنس" في كتابه (الحضارة) - ثمرةُ كلِّ نشاطٍ إنسانيٍّ محلِّيٍّ نابعٍ عن البيئةِ، معبِّرٍ عنها، أو مُواصلٍ لتقاليدها في هذا الميدان أو ذاك...». ومهمَّةُ الأدب الأساسيةُ، وهو فرعٌ كبيرٌ من الثقافة، أن يعمل على «تحْريضِ القوى الحيَّةِ في المجتمع لكي تختارَ ما يعبِّرُ عن مصلحتِها وطموحها» عبد الرحمن منيف: (بين الثقافة والسياسة). وميادينُنا الشعبيةُ والرَّسْمِيَّةُ معاً تدلُّ على درجةِ الوعي وأثرِ الأدب في النفوس والأجساد! وخيرُ ما أختمُ به قولُه تعالى في سورة يونس: «فما اختلفوا حتى جاءَهم العِلْمُ إنَّ ربَّك يقضي بينهم يومَ القيامةِ فيما كانوا فيه يختلفون. فإنْ كنتَ في شكٍّ ممّا أنزلْنا إليْكَ فاسألِ الذين يقرأون الكتابَ منْ قبْلِكَ...».