"وزارة التعليم" تعلن تسوية بعض الوضعيات الإدارية والمالية للموظفين    مسؤول فرنسي رفيع المستوى .. الجزائر صنيعة فرنسا ووجودها منذ قرون غير صحيح    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    لمواجهة آثار موجات البرد.. عامل الحسيمة يترأس اجتماعًا للجنة اليقظة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    العمراني : المغرب يؤكد عزمه تعزيز التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تنصيب ترامب    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العبوةُ النازفة" في الكرمل!

بتاريخ 31-3-2011 أقامَ منتدى الحوار الثقافيّ في الكرمل بفلسطين ندوة، في صالة جاليري مركز التراث البادية عسفيا، لتسليط أضواءِ الحديثِ على رواية "العبوة النازفة" للشّاعر فهيم أبو ركن، وقد استهلّ اللقاء الأستاذ رشدي الماضي بكلمته:
المبدعُ فهيم أبو ركن كشاعر وكاتب تسكنُهُ شعلة يحملها "شيطانُها"، لتظلّ متّقدةً داخلَه، ويظلّ هو حارسُها الأمين، وللسّائل عمّ يبحث أقول: إنّه يبحث عن أسلوب في الحياة يسمحُ له بمطلق الحرّيّة والصّدق، من خلال إبداعاتِهِ المختلفة، لا لمواجهةٍ صريحة مخلصة مع الواقع فقط، إنّما أيضًا للغوص في أعماق النفس، والبحث فيها عن مناظرَ لم ترَها العين المجرّدة، وعن أصواتٍ لم تسمعْها الأذن، فالإبداعُ عنده سجلٌّ لحُلم خاصّ، هذا بل وأكثر، لأنّ قارئَهُ الرّائي يلتقي مع كلماتِهِ، التي تؤكّد أنه يبحث عن موقف في الأدب والحياة يجد نفسَهُ فيه غيرَ منافقٍ ولا مُفترٍ ولا مُنقادٍ، فإيمانُهُ راسخٌ إلى حدّ التّعصّب لِما يراهُ حقًّا وواجبًا، لذلك يقول كلمته بأمانة مُطلقة، تأتي تلاوةً مرتّلةً تنسابُ ممتزجةً بتألّقها وتلوّنها كقوس قزح، لتُعبّدَ الطريق لاكتشاف الحقيقة العاطفيّة والفكريّة والواقعيّة دون تعكير، ولتفجّر ينابيع جديدة من الإبداع الأدبيّ والجَماليّ، فتحول دون الضّيق في أفق التّفكير. ولأنّ المبدع هو ضمير مجتمعِهِ والمتحدّث بلسانِهِ، ويتّبعُ خطى أرسطو الذي علّمَنا أن نحبّ الحقيقة، لذلك فهو يواصل مِن خلال تفاعلِهِ مع الزّمن وسبْرِ أغوارِهِ بقوّة لمّاحةٍ جوانيّةَ الجهْر بخبيئةِ صدرهِ، كي تبقى الكلمة حقًّا هي الدّواء من شرّ أمراض العقل، وتَحول دون تهافت الوعي واستمرار تفكّك الذّات الإنسانيّة.
وكانت كلمة د. فهد ابو خضرة نوعيّة، حول الأجناس الأدبيّة مِن شعر وقصّة ورواية وخطاب ومسرحيّة ومقالة، وحول تاريخ الرّواية والمسرحيّة وجذورهما في الأدب العربيّ، وتأثّر العرب بالغرب كثيرًا.
أمّا د. منير توما فتحدّث عن التأويل الرّمزيّ لرواية العبوة النّازفة:
فكرة موضوع الرواية مادّةٌ خصبة للتّحليل الأدبيّ المُعمّق على مستويات عديدة ومختلفة، حيث يقرؤها البعض على أنّها قصّة من النّوع الرّوائيّ الواقعيّ بمعانيها وأحداثها العاديّة المباشرة، ولكني أرى أنّه مِن الأهمّيّة بمكان أن نقرأ هذه الرواية، ونقوم بتحليلها على مستوى الرّمز، فهي تحتمل تأويلاتٍ رمزيّة متنوّعة، تعتمد على رؤية القارئ والناقد للأحداث والتطوّرات الدّراميّة داخل الرّواية، وعلى ردود فِعل الشّخصيّات التي تنسجُ خيوط المضمون، وتؤطّرُ المعنى الرّمزيّ الفريد لها، وفقا لمنظور وخلفيّة القارئ في فهم دلالات الإيحاءاتِ والإشارت الضّمنيّة، التي تُلقي الضّوء على التّرميز المنطقيّ للمعاني المستنبَطة، مدعّمًا بشواهدَ نصّيّةٍ مِن الرّواية.
تخبرنا الرّواية بأنّ محمّد عبدالسّلام يسافر مع ابنته أحلام على ظهر سفينة تمخر عباب البحر، ويوجد على ظهر هذه السّفينةِ مجموعة من المسافرين الإسرائيليّين، وبضمْنِهم مسافرٌ من قرية عسفيا الكرمل يُدعى أديب، يبغي الرّحيل للولايات المتحدة بهدف البحث عن مستقبل جديد، حالِمًا بحياةٍ كريمة بعد أن رفض أهلُ حبيبتِهِ تزويجَهُ إيّاها، لا سيّما وأنّه شابٌّ فقير مادّيّا. وتشاء الأقدارُ أن يستمعَ صدفةً إلى حديثٍ يدورُ بينَ عبدالسّلام وابنته الشابّة أحلام، حول قنبلة أو عبوة ناسفة وضعها في غرفته بالسّفينة، بغية تفجيرها بمن عليها من مسافرين، وذلك انتقامًا من السّلطة التي أساءت إلى حياته وشعبه، وظلمته كثيرًا كما يقول لتبرير فعلته هذه، رغم عدم اتفاق أحلام معه بشأن نيّته لنسف السّفينة، وكان قد تمّ التعارف بعد ذلك بين أحلام ووالدها وأديب، حيث يتضح أنّ محمّد عبدالسلام كان صديقا لوالد أديب، ويقرّر أديب أن يمنع حدوث تفجير السّفينة دون أن يُخبر رجال الأمن في السّفينة، تحسُّبًا مِن إيذاءِ والد أحلام، فيدخل أديب سرّا إلى غرفة والد أحلام، كي يقذف القنبلة في البحر لينقذ ركاب السفينة من موت أكيد، ولكن لحظة وجوده في الغرفة يدخل ضبّاط الأمن، ويلقون القبض عليه اعتقادًا منهم بأنه الجاني، وهكذا تنتهي الرّواية باعتقال أديب ذي النوايا الطيّبة، مُقرِّرًا في أعماقه أن يُطالب بحقّه، ومُصمّمًا على إظهار الحقيقة.
لقد حفّزنا الكاتب لتفسير وتأويل هذه الرّواية على صعيد الرّموز المسيحيّة في الأدب، انطلاقًا مِن ثوابت العقيدة المسيحيّة الإنجيليّة والكنسيّة معًا، فالأب محمّد عبدالسّلام هو رمز لشريعة العهد القديم من الكتاب المقدّس، التي تدعو إلى مبدا العين بالعين والسّنّ بالسّنّ، وذلك من خلال رغبته في الانتقام من السّلطة، بإراقة دماء ركّاب السّفينة باعتبارهم من رعايا هذه السّلطة.
أمّا الابنة أحلام فترمز إلى روح العهد الجديد من الكتاب المقدّس، أي رسالة الإنجيل التي نادى بها السّيّد المسيح، والتي تمثّل مبدأ المحبّة والتّسامح والسّلام بين بني البشر، ونبذ العنف، وعدم مقابلة أو مواجهة الشّرّ بالشّرّ، بل بالإحسان إلى المسيئين والصّلاة لأجلهم، من منطلق محبّة الإنسان لأخيه الإنسان.
وفيما يتعلّق برمزيّة بطل الرّواية أديب، فإنّه يرمز إلى المسيح الذي جاء حسب العقيدة المسيحيّة ليفتدي البشر، ويحمل خطاياهم على كاهله، فكان من تداعيات ذلك القبض عليه، والحُكم عليه بالصّلب دون ذنب اقترفه سوى أنه جاء يدعو للسّلام، ورفض الانتقام، فكان صلبُهُ رمزًا للخلاص ولفداء البشر، والانتقال بالإنسان مِن الموت إلى الحياة بقيامته بعد غفران الخطايا، وهكذا كان أديب رجل الضمير والإنسانيّة والسّلام، بمحاولته إنقاذ ركّاب السّفينة مِن الموت، ليكتب لهم الحياة كمسيح أنجز مهمّته، ولو كان ذلك على حساب براءته، بعد أن أراد أديب بإقدامه على خطوته هذه، أن يثبت لنا أنه على حق، فهو لم يرغب في إيذاء والد أحلام من جهة، وتوخّى إنقاذ ركّاب السّفينة من جهة أخرى، لأنّ للإنسان الحقّ في الحياة، فكان هذا طريقه الذي اختاره لنفسه لانجاز مهمّته، ممّا يُذكّرنا هنا بقول السّيّد المسيح، بأنّه هو الطّريق والحقّ والحياة.
ومن زاويةٍ أخرى، فإنّ أديب كما تُصوّرهُ الرّواية هو مغترب عن وطنه في هذه السّفينة، بعد أن رفضه أهل حبيبته، فهو رمزيًّا كالمسيح الذي رفضته خاصّته، ولم يقبل شعبه رسالته، وكان فقيرًا وديعًا كأديب الذي حظي بقبول أحلام واحترامها له، حيث تُمثّلُ أحلام رسالة المسيح بالسّلام الإنسانيّ ونبْذ الانتقام والقتل، بالإضافة إلى كوْنها رمزًا للأمم مِن غير شعبه، تلك الأمم التي قبلت وتبنّت رسالته، وما الرّواية إلاّ تأكيدًا موحيًا لهذه المعاني الرّمزيّة.
"لم يخطر على بال أديب أبدًا، أنّ أحلام تفكّرُ مثله وتُؤمن بنفس المبادئ تقريبًا، وكاد ينساها وينسى أباها، فقد انصبّ جلّ اهتمامِهِ على طريقة إبطال مفعول القنبلة، ولم يكن يتوقع أن تسرعَ أحلام فتُبلغَ الشّرطة بأمر القنبلة بغير إرادة أبيها رغم حبّها له، وكلّ ما فكّر به هو أن يقوم بواجبه وينقذ نفسه والمسافرين، ويمنع حدوث كارثة أو ارتكاب جريمة". ص 125.
وفي ص 126 نجد نصًّا تتماهى كلماته مع هذه الأفكار التي طرحناها آنفًا، بخصوص رمزيّة شخصيتيْ أديب وأحلام:
"لم يستطع أديب أن يكتشف مبادئ أحلام من خلال لقاءاتهما القصيرة على ظهر السّفينة، ولم يعتقد أنّها ستفضّلُ الالتزام بمبادئها على رغبة أبيها بتنفيذ العمليّة، ولم يفكّر بما قد يُخبّئه له المُستقبل".
وممّا تجدر الإشارة له في هذه الرّواية، أن للسّفينة رمزيّة هامّة جدًّا، بكوْنها تشكّلُ عالَمًا صغيرًا microcosm للبشريّة التي جاء المسيح ليفتديها على الصّليب وفقًا للعقيدة المسيحيّة، ويمنحها الحياة بدل الموت، وهو يحمل خطايا البشر مع كوْنه بريئًا من الخطيئة، تمامًا كأديب الذي ألقي القبض عليه، واعتقل لجُرمٍ لم يرتكبه، حيث مِن المتوقّع أن يلقى عقابًا شديدًا قد تكون عاقبته الموت كالمسيح، الذي كان ينزف دمًا على الصّليب، ليكتب الخلاص والحياة للآخرين، ومن هنا كانت تسمية الكاتب لروايته ب "العبوة النازفة"، إشارة إلى نزيف الدم الفادي للآخرين، الذي قد يتعرّض له أديب على سبيل الرّمز، استنادًا لكون السّفينة رمزًا للوجود في بحر الحياة لعبور مياه الموت، حيث أنه في التّرميز المسيحيّ تشير السّفينة إلى فُلك نوح أو سفينة الخلاص من الموت، فهي تحمل النّفوس والأرواح بأمان خلال الخطر، وهي تُصوَّرُ دائمًا بأنّها تبحر في المياه الصّاخبة، لتُذكّرنا بإبحار المسيح مع تلاميذه في القارب ببحيرة طبريّا في الجليل، حينما هدّأ العاصفة وأزالَ خطرَ الغرق، كما أنّ شكل الصّليب هو سارية السّفينة أو صاري المركب، الذي يستحضر برمزيّتِهِ انتصارَ الحياة على الموت، بكلّ ما يحمله ذلك من معاني السّلامة والأمان مِن مخاطر رحلة الحياة.
وكما كنّا قد أشرنا في مستهلّ مداخلتنا هذه بأنّ محمد عبد السلام يرمز إلى شريعة العهد القديم من الكتاب المقدّس، التي تدعو إلى المعاملة بالمثل والانتقام، بينما ترمز ابنته أحلام إلى روح العهد الجديد الدّاعي إلى التّسامح والمحبّة، فإنّ خُلاصة الرّواية تعكس لنا غلبة روح العهد الجديد على شريعة العهد القديم، من خلال تصرّف أحلام الذي منح الحياة لركّاب السّفينة، أي البشريّة رمزيًّا، ممّا يتّفق مع قوْل بولس الرّسول بأنّ: "قدرتنا من الله، فهو الذي جعلنا قادرين على خدمة العهد الجديد عهد الرّوح، لا عهد الحرف، لأنّ الحرف يُميت والرّوح يُحيي" كورنتوس 3: 5-6)
ومهما يكن مِن أمر، فإنّ هذا التأويل الرّمزيّ لرواية العبوة النازفة قد يكون مخالِفًا لِما عناهُ الكاتب، وربّما يكون بعيدًا كلّ البُعد عمّا قصده في مضمون الرّواية، بل مِن المحتمل أنّ هذه المعاني الرّمزيّة التي أوردناها لم تخطر على باله أبدا، ولكن العمل الأدبيّ بكافّة ضروبهِ وأجناسه يصبح مُلكًا لتحليل القارئ والناقد عند صدوره، بحيث يملك الحرّيّة لتفسيره وتأويلِهِ مِن وجهة نظره الخاصّة، وإن كانت أحيانًا تتعارض وتتناقض مع مقاصد الكاتب أو تعليق النقاد الآخرين.
فهيم أبو ركن قد اتّسم في روايته هذه كغيرها من الأعمال بالشّجاعة الأدبيّة، بوصْفها التعبير عن التيّار الضّعيف غير الظاهر للعيان، فالشّجاعة الأدبيّة ليست اندفاعًا مع التيّار السّائد، بل هي عبور ضدّ التيّار أو تحويلٌ للتيّار السّائد عن مجراه، الذي اتّخذه الناس وألِفوه إلى مجرًى آخر جديد، بيْدَ أنّ المجرى الجديد ليس مِن خُلق صاحب الشّجاعة الأدبيّة، بل هو مجرى موجود أصلاً ولكنّه ضعيفٌ نسبيًّا، ومهمّة الشّخص الشّجاع شجاعة أدبيّة كأديبنا، أن يدفع بمجرى التيّار بشدّة في اتّجاه ذلك المجرى الضّعيف، وهذا ما فعله وقام به الأستاذ في روايته هذه، حيث اتّسمت شجاعته الأدبيّة هنا ببلاغة التّعبير والقدرة على الإقناع والاستمالة، من خلال نزعته الإنسانيّة الواضحة وشفافيّته النّفسيّة الهادئة، لا سيّما وأنّه قدّم لنا شخصيّتيْن شجاعتيْن في الرّواية نتناولهما على مستوى الرّمز الاجتماعيّ النّفسيّ، وهما أديب بطل القصّة، وأحلام ابنة أبيها عبد السّلام.
أحلام هي نموذج يرمز إلى المرأة الشّجاعة، التي تميل إلى الاحتفاظ بذاتيّتها، فهي كامرأةٍ شجاعة لا تذوب في شخصيّة أحد ممّن يحيطون بها بمَن في ذلك الأب، ومعنى هذا؛
أنها كامرأة شجاعة تظلّ مستقلّة بفِكرِها وعواطفها وإرادتها، ولا تسمح بأن تتنازل عن استقلال مقوّماتها الذاتيّة هذه تحت أيّ ظرْف مِن الظروف، ولأيّ سبب من الأسباب، وهي تميّز بين الأفكار، كالأفكار التي يَعرضها والدها مثلا، وتأخذ ما يروق لها وترفض مالا يعجبها منها.
أحلام كامرأة شجاعةٍ تقوم بعمليّة انتقاءٍ من بين خيارات فكريّة متعدّدة، وتقبل الفكرة التي تميل إليها وتستوعبها، وتُحيلها إلى مقوّم من مقوّماتها الذهنيّة، وإلى لحم من لحم كيانها الفكريّ، ومعنى هذا؛ أنّها كرمز للمرأة الشجاعة تُقبل بغير تهيّب أخيرًا على عمليّة التفاعل الذهنيّ، التي تؤدّي الهدف الذي اعتقدت بصوابه وصحّة نتائجه.
وبالنسبة للمجال العاطفيّ وعلاقة المودّة العابرة مع أديب على ظهر السّفينة، فإنّها لا تتلوّن في عواطفها، بل هي تصدر فيما تحبّه وتكرهه في ضوء ذاتيّتها، وفي ضوء المحور العاطفيّ الذي تشكّل لديها، فالمرأة الشجاعة كأحلام تتمتع بالاستقرار الوجدانيّ وحتى في تأثّرها بالآخرين من حولها كأديب، وفي التعاطف معهم كأبيها، فهي لا تغضّ عن ذلك المحور الوجدانيّ الرّاسخ الذي تكوّن وتشكّل لديها، من هنا فإنّنا نستطيع أن نقف على ما يمكن أن تحسّ به أحلام كرمز للمرأة الشجاعة، وما تستشعره من عواطف وانفعالات إنسانيّة، فهي تظلّ مستقلّة وجدانيًّا عنهم وإن تجاوبت معهم.
وكامرأة شجاعة تُحسِنُ التوقيت الذي تعلن فيه العصيان الخفيّ على نيّة وخطّة والدها، وتتخذ الخطوة التي تراها مناسبة في نظرها، بحيث لا تؤذي والدها ولا ركّاب السّفينة في الوقت نفسه، بحيث يتّصف هذا الموقف بالحكمة والرّويّة وحُسن التّمييز بين الخطوات التي يتوجّب عليها أن تتّخذها.
أمّا بالنّسبة لأديب كرمز للرّجل الشّجاع، فالواقع أن أيّة شخصيّة لا بدّ أن ترتكز على بعض المبادئ الثابتة، وبخصوص أديب، فإنّ المبادئ التي ترتكز عليها شخصيّته واضحة متميّزة، فهي أعلى المبادئ الخُلقيّة مكانة وسمُوًّا كما يتضح مِن سيْرِ أحداث الرواية وملابساتها وتداعيات مجرياتها.
فهو كرجل شجاع ليس تابعًا في تشكيل أفكاره وأحكامه بصدد الاشياء والعلاقات والمواقف، بل هو الذي يبلور أفكاره بنفسه، وإن كان يستفيد ويستنير بأفكار الآخرين، فالحصيلة النهائيّة لأفكاره، وأحكامه تصطبغ بصبغته الذاتيّة دون التّأثر أو الانجرار والانقياد وراء ما لا يستسيغه مِن أمور.
في الواقع أنّ الرّجل الشّجاع كأديب يتّسم بالواقعيّة حتى في مواقفه مع الآخرين، ومع مشاعر الانتقام االغاضبة كذريعة لإزهاق الأرواح البشريّة في غير طائل، وهذا ما امتاز به أديب في سلوكه وتصرّفه عند نهاية الرّواية، مع أنّ نتائج فعلته الخيّرة جاءت بعكس ما كان يتوقّع بالنّسبة لمصيره كإنسان بريء يسعى إلى الخير، لتنقلب الأمور عليه ويتعرّض لاتّهام خطير وخيم العواقب، وكلّ ذلك بفعل النّوايا الحسنة للشّخصيّتيْن الشّجاعتيْن في الرّواية؛ أديب وأحلام، وتضارُب المواقيت لديهما، ليكون أديب ضحيّة وكبش فداء لسخرية الأقدار ومساوئ الصّدف إلى حدّ كبير.
لأديبنا الكريم فهيم أبو ركن أجمل التهاني بصدور روايته، ودوام التوفيق والعطاء في عالم الثقافة والإبداع.
وفي نهاية اللقاء كانت عدّة مداخلاتٍ ونقاش مفتوح مِن قِبل الأدباء والشّعراء والضّيوف، واختتم اللّقاء المُحتفى به الشّاعرُ فهيم أبو ركن، بتثمين هذا اللقاء المُثمِر، وشُكر الحضور لهذه الأمسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.