منتدى الحوارِ الثّقافيِّ والبادية في عسفيا/ الكرمل، أقامَ ندوةً يوم الإثنين الموافق 27-4-2009، احتفاءً بصدور قصّة (علبةٌ مِن ذهب) للشّاعر وهيب نديم وهبة، و(آخِرُ النّفق) للشّاعر كمال إبراهيم. عريفُ الحفلِ الأستاذ رشدي الماضي افتتحَ الأمسيةَ بكلمةٍ ترحيبيّةٍ بالحضورِ والضّيوفِ، وابتدأ الجزءَ الأوّلَ مِن النّدوةِ حولَ قصّة "علبةٌ مِن ذهب" للشاعر وهيب نديم وهبة، حيثُ ألقى مداخلةً قصيرةً جاءَ فيها: " يظلُّ التّلاقحُ التّوالُجِيُّ بينَ الخيالِ والإبداعِ أبَ الينابيعِ الخصبة، الّتي ينهلُ منها "عمّال مصنع الكلمة"، مِن أجلِ أن تُواصلَ بناتُ أفكارِهِم الحمْلَ فالولادة. هذا ما تُجسِّدُهُ قصّةُ أديبِنا وشاعرِنا وهيب نديم وهبة، فمِن نظرتِكَ الأولى الّتي تُلقي بها على ثريّاها بمفتاحٍ تأويليٍّ، تنهضُ في خزانة ذاكرتِكَ نوستالجيا تعيدُكَ إلى ما يُعرفُ بأدبِ الخيالِ العلميِّ، بكلِّ أجوائِهِ وفضاءاتِهِ الشّائقةِ. ثمّ قدّم الدّكتورُ الشّاعرُ فهد أبو خضرة مداخلتَهُ التّحليليّةَ حولَ القصّةِ، تناولَ فيها انتماءَ القصّةِ إلى النّوعِ الأدبيِّ المدعو (الحكاية)، إذ يضمُّ الكتابُ حكاية إطار، أو حكايةً خارجيّةً تحوي في داخلِها سبع حكاياتٍ داخليّة، فالحكايةُ الخارجيّةُ والحكاياتُ الداخليّةُ كلُّها خياليّةٌ، أمّا الخيالُ الّذي تنتمي إليهِ فهو مُنَوّعٌ، منها خيالٌ علميٌّ، وخيالٌ تعليميٌّ، وخيالٌ أسطوريٌّ وخيالٌ خرافيٌّ، وقد تناولَ تفاصيلَ كلَّ رحلةٍ، ثمّ تحدّثَ عن العناصرِ الأسلوبيّةِ العديدةِ الّتي وظّفَها المؤلّف، وتستحقُّ وقفةً متأنّيةً، ومِن أهمِّها: الاستغناءُ عن حروفِ العطفِ، التّرادفُ، التّكرارُ بأنواعِهِ المختلفةِ، التّشبيهُ والاستعارةُ والمجاز، كذلك تحدّثَ عن لغةِ هذهِ الحكاياتِ الأدبيّة الجميلة، وإمكانيّةِ إضافةِ الكثيرَ مِن الكلامِ في مدحِها، ولكن ما يُؤسَفُ له الكثرة الهائلة للأخطاء اللّغويّة، وإنّ التّشكيلَ مُهِمٌّ في الكتبِ المُوجّهةِ لأبنائِنا، ولا بدّ مِن التّدقيقِ الشّديدِ في ذلك، لأنّ ما يقرؤونَهُ يرسخُ في أذهانِهم، وآملا أن تُصحّحَ هذهِ الأخطاءُ في طبعةٍ قادمةٍ. آمال عوّاد رضوان تحدّثتْ عن مضمون القصّة (علبةٌ من ذهب)، إذ تبتعدُ عن خلْقِ عوالمَ ورديّة تُبعِدُ الفتى عن واقعِهِ، بل تُعالج موضوعًا ذا بعدٍ اجتماعيٍّ ونفسيٍّ، وتَعمدُ إلى غرسِ قيمًا خالدةً كالتّسامحِ والمحبّة والصّدقِ والتّعاونِ والتّآلفِ، فالقصّةُ طريفةٌ وهادفةٌ وموجِّهةٌ للخيرِ وللإبداعِ، وتستنبتُ في كيانِ اليافع انتماءَهُ للهويّةِ الإنسانيّةِ الشّاملةِ، وتدمجُ بينَ الخيالِ العلميِّ والواقع، وتُركّزُ على عنصرِ التّخييلِ الفانتازيا، إذ يُعدُّ حافزًا استراتيجيًّا في ثقافةِ الطّفلِ واليافعِ، والشّاعر يُشكّلُ في القصّةِ عالمًأ ديناميكيًّا خاصًّا وجميلاً وعارمًا بالتّصوّرِ والأحلامِ المشروعةِ القابلةِ للتّحقّقِ، مِن خلالِ حُبِّ المغامرةِ والسّعيِ الدّؤوبِ دونَ كللٍ! ومِن حيث اللّغة فالقصّةُ تتّكئُ على قبابِ السِّحرِ، وقد وشّحتْها اللّغةُ بسِحرٍ فاتحٍ، يُدخِلُ مَسرّةً للقلبِ والعقلِ! بلغةٍ قريبةٍ وثريّةٍ ويسيرةٍ ووجدانيّةٍ ورقيقةٍ وبسيطةٍ يصوغُ الأحداثَ، مازجًا بينَ فنّيّةِ السّردِ المُشوِّقِ والتّصويرِ، وبعنايةٍ نابضةٍ بالشّعريّةِ والوضوحِ والبساطةِ، والأسلوبُ سلِسٌ وشيّقٌ بعيدٌ عنِ الغموضِ دونَ الوقوعِ في فخِّ الوعظِ، والأماكنُ والأزمنةُ والأوقاتُ في القصّةِ تخضعُ لمخيلةِ القارئِ، أمّا الشّخصيّاتُ في القصّة تلتحمُ وتتحرّكُ بعفويّةٍ وسلاسةٍ، مازجةً بينَ الوصفِ والحكائيّةِ والسّردِ والخيالِ، فتتركُ أثرًا في النّفسِ والذّاكرة! فالسّاحرُ لا يتّخذُ صورةَ شرّيرٍ أو طيّبٍ، بل دورٍ محايدٍ يكادُ يكونُ دورًا أبويًّا ودافعًا معنويًّا، يُراقبُ عن كثبٍ، والفتاةُ تُدركُ ملَكاتِها مِن ذكاءٍ وجَمالٍ، وبالرّغمِ مِن سَجنِها في علبةِ الظّلمِ والظّلمةِ، إلاّ أنّها كانتْ ترى بؤرةً مشرقةً في آخرِ الأفقِ، وتحدّثت عمّا تحملُ القصّةَ من رموزٍ للنّوم وللعلبةِ الذّهبيّةِ، ثمّ طرحتْ أسئلة حولَ لجوءِ الشّاعرُ وهيب وهبة إلى القصّةِ بدلاً مِن لجوئِهِ إلى الشِّعرِ؟ وبالذات إلى القالبِ السّحريِّ في القصّة؟ الأديب فهيم أبو ركن قال: "إنّها قصّةٌ بسيطةٌ، وكلُّ القصصِ العظيمة تعتمدُ على البساطةِ وعدم التّعقيد، إذ توظّفُ البساطةَ إلى جانبِ رمزيّةٍ شفّافةٍ، لتقولَ الأشياءَ العميقةَ الّتي ترتبطُ بواقع حياتِنا، وبمصيرِنا كمجتمعٍ وشعبٍ وبني بشر، ويمكنُ أن نقرأها بنمطِها السّرديِّ والواقعيِّ والرّمزيِّ، فالأميرةُ الّتي تريدُ التّخلّصَ مِن سجن الحكايات، هي الأمّةُ العربيّةُ الّتي تريدُ أن تتخلّص مِن التّعلّقِ بأمجادِ التّاريخِ وسجنِ بعض التّقاليدِ الرّجعيّةِ! إذن الجميل في هذا الكتاب أنّهُ مبنيٌّ على ثنائيّةِ الظّاهرِ والباطن، إذ يمكنُ أن يُفسّرَ كما هو للأطفال، ويمكنُ تفسيرُهُ باطنيًّا ليُشيرَ إلى قضايا تهمُّ الكبارَ ومن عالمِهم وبأفكارِهم، قضايا تهمُّ الإنسانيّةَ جمعاء". انتهى الجزءُ الأوّلُ مِن النّدوةِ، وكفاصلٍ فنّيٍّ غنائيٍّ أتحفتِ الفنّانةُ نهاي داموني الجمهورَ بوصلةٍ أسمهانيّةٍ، بمرافقةِ عازف العود نظمي دروبي. القسمُ الثّاني من النّدوةِ تناول كتاب الشّاعر كمال إبراهيم "آخر النفق": قدّم عريفُ الأمسية الشّاعر رشدي الماضي كلمةً عن الكتاب، جاء فيها: "لأنّ العملَ الأدبيَّ لا يكتملُ إلاّ بقراءتِهِ، لالتقاطِ مداميكِ بنيانِهِ، لذلك دخلتُ إلى شعابِها لأسبرَ أعماقَها، كلماتٌ صادقةٌ فاضتْ بها تجربتُهُ الحيّة، لتبدِّدَ مرارةَ الكآبة وتضاعِفَ لذّةَ الرجاء، وتشحنُ فُسَحَ الأملِ بطاقةِ الاندماجِ المتواصلِ في آخرِ النفق". وقد تحدّثَ د. فهد أبو خضرة عن النّثر الشّعريِّ كنثرٍ هو في الأساس، يُضافُ إليه ما بالشِّعر من ناحيةِ الشّكلِ الخارجيِّ والصّور، ويُحاولُ الكاتب إعطاءَ اتّجاهٍ نحوَ الإيحاءِ، ويظلُّ النّثرُ متّصلاً بأصلِهِ النّثريِّ، مُوجّهٌ إلى العقلِ بالأساس ويُضافُ إليه ما يتعلّقُ بالوجدان، والنّوعُ هذا يُقصَدُ به الإفهامُ وله تأثيرٌ بسبب التّوجّهِ الشّعريِّ! أمّا الشّعرُ المنثور ففي أساسِهِ تنقصُهُ بعضُ المميّزاتُ الشّعريّة أهمُّها الوزن، لأنّهُ انزياحٌ نحوَ الإيحاءِ، فهو كلامٌ مليءٌ بالإيحاءِ، والشّعرُ يبدأ أساسًا مِن الإيحاءِ، ويهبطُ قليلاً باتّجاه النّثرِ والفهمِ ليُصبحَ مفهومًا! هذا الفرقُ بينهما ظهرَ خلالَ تطوّرٍ في الكتابة الأدبيّةِ عام 1903، وأوّلُ مَن كتبَهُ جبران خليل جبران ثمّ أمين الرّيحانيّ، وأوّلُ قصيدةٍ في مجلّة الهلال، واستمرّ إلى سنواتِ الأربعين بطابع شعريٍّ منذُ ألبير أديب، ووصل من 1956 أنسي الحاج ويوسف الخال وأدونيس! الشّعرُ المنثورُ هو شعرٌ ينقصُهُ الوزن، وقد أثبتَ وجودَهُ ويحتلُّ المكانَ الأساسيّ، وصارَ اسمُهُ حديثًا قصيدةً بالنّثر، فهو أقربُ للشّعرِ الحرِّ والتّفعيلةِ، أمّا النّثرُ الشّعريُّ لا زالَ موجودًا وهناك مَن يكتبونَهُ، وكمال إبراهيم يكتبُ النّثرَ الشّعريّ، فهو مادّةٌ مفهومةٌ واضحةٌ موجّهةٌ للعقلِ لا للتّأثيرِ، والصّورُ تخاطبُ العقلَ بمعنًى واحد!
ثمّ تحدّثَ الدّكتور بطرس دلّة عن إهداءِ المجموعةِ إلى الّذين تربَّوْا على نبذِ العنفِ، مَن يَنشدون السّلام، ويهيمونَ حُبًّا بالوطن، ليسَ الوطنَ العربيَّ وحسب، بل سائر أرجاء المعمورة. لذلك فإنّ لديه رؤيةً عالميّةً واسعةً أكثر بكثير مِن ضيق الأفقِ القوميِّ للقوميّةِ الواحدة، وتحدّثَ عن الأفكارِ والرّؤية الإنسانيّةِ في نصوصِ الكتابِ وفي مختلفِ المواقفِ، والأستاذ كمال إبراهيم تأثّرَ بأسلوبِ الصّحافةِ في شِعرِهِ، فجاءتْ بعضُ قصائدِهِ بلغةِ الصّحافةِ الإخباريّةِ والتقريريّةِ، كما تحدّثَ عن الطّرحُ الإنسانيِّ الّذي يُقدّمُهُ الأستاذ كمال في هذه المجموعة، فهو يرى بعينٍ ثاقبةٍ أمورًا مُنفِّرةً وقضايا ساخنةً يُعاني منها المجتمع، فيقف ناقدًا واعظًا ومُوجِّهًا، وتتجلّى إنسانيّتُهُ ووقوفُهُ فوقَ الحزازات الطّائفيّةِ، فنحنُ في أمَسِّ الحاجةِ إلى الفِكر العقلانيِّ، كما وردَ في قصيدة لا تغادر، وبالرّغمِ ممّا ينتقدُهُ في هذه المجموعةِ مِن مظالمَ وآفاتٍ اجتماعيّةٍ وأمورٍ لا يرضى عنها، إلاّ أنّهُ يُطمئننا على أنّ النّفق المعتِمَ سوف ينتهي إلى النّور! ثمّ حلّل الدكتور بطرس عدّة قصائد اعتمدتْ على لغةِ النّثر الشّعريِّ، متطرّقًا إلى موضوع عشق الشّاعرِ للأرض والوطن، والكلاسيكيّة الّتي ابتعد عنها، وعن أسلوب الوعظ والإرشاد، وضياع الوزن والجرس الموسيقي أحيانا! الصّحفيُّ والإعلاميُّ الأستاذ نايف خوري تحدّثَ عن أسلوبِ الأستاذ كمال إبراهيم الواضح، إذ تغلبُ عليه البساطةُ والفطرةُ بعيدًا عن الغموضِ والإبهام، ويتميّزُ باختلافِهِ عن الكلام العاديّ بسحر الكلمةِ وعذوبةِ المعنى، ونوّهَ إلى أنّ المبدعَ يجبُ أن يسكبَ عصارةَ فِكرِهِ وفنِّهِ وإبداعِهِ في كلِّ قطعةٍ إبداعيّةٍ تنجبُها بناتُ أفكارِهِ، وهو غيرُ معذورٍ بالقولِ، سأبذلُ ذلك في العمل القادم، لأنّ الإبداعَ لا يحتملُ التّأجيلَ ولا التّسويف، فكلّ إبداعيّةٍ هي بمثابةِ جزءٍ متكاملٍ من المبدع، وتُعبّرُ عنه بأفكارِهِ وأحاسيسِهِ ومشاعرِهِ وكيانِهِ، وبالتّالي تعكسُ صورتَهُ أمامَ القارئ أو المتلقّي، وهذا قد يؤثّرُ سلبًا أو إيجابًا، ولذا يجب على كلِّ مبدع أن يَبلغَ قمّةً جديدةً في إبداعِهِ الّذي أنجزَهُ، لينتقلَ إلى قمّةٍ جديدةٍ في إبداعِهِ القادم، والّذي يجب ألاّ يقلّ عمّا سبقّهُ. وقد استهلّ المجموعةَ بقصيدة مناجاة ومخاطبة للخالق. وتتلوها قصيدتان: "كن بشوشًا" و"أيّها الشافي"، فتتبادرُ إلى ذهنِكَ قصيدة إيليّا أبي ماضي "كن جميلاً"، كما ألقى الضّوءَ على بعضِ النّقاطِ في شِعرِ كمال إبراهيم. ثمّ قدّمَ الطّفلُ تيمور يوسف حسّون بعضَ أغنياتِ الكتاب، وقد حازَ إلقاؤُهُ على إعجاب الحضور، وذكر أنّهُ قرأ الكتابَ ضمنَ الفعاليّاتِ المدرسيّة، وأعدَّ فلمًا قصيرًا عنهُ. بعد ذلكَ فُتحَ بابُ النّقاشِ الّذي شاركَ فيه نخبةٌ مِن أدبائِنا منهم: سعاد قرمان، وهادي زاهر، وناظم حسون، وهيام قبلان، وإيزابيل شمّاس، ومرشد خلايلة، وناديا صالح، وعفيف شليوط، وزيدة عطشة وآخرون. اختتمَ فقرةَ النّقاشِ الشّاعر والكاتب حنّا أبو حنّا الّذي نوّهَ لنقطةٍ هامّةٍ، وهي قلّةُ أدبِ الأحداثِ في الأدبِ العربيِّ عامّةً ولدينا خاصّةً، ونوّهَ إلى أهمّيّةِ فعاليّاتِ المنتدى والبادية، لأنّ الأدبَ المحلّيَّ يفتقرُ إلى النّقدِ، والمبدعُ لا يجدُ تجاوبًا مع إبداعِهِ، فتفترُ مهمّتُهُ في الأداء الأدبيِّ، وهذه الأمسياتُ النّقديّةُ وإن تخلّلتْها أحيانًا بعضُ المجاملات، إلاّ أنّها هامّةٌ جدًّا، فالأديب يريد أن يسمع صدى لعملِهِ، ومهمّة المنتدى أن تعوّضَ النّقصَ وتنشرَ الدّراسات! أمّا في الفقرةِ الأخيرةِ فقد شكرَ الشّاعرُ وهيب نديم وهبة الحضورَ، وكلَّ مَن تحدّثَ في النّدوةِ، ثمّ شرحَ بعضَ النّقاطِ الّتي علّقَ عليها الجمهور، وكان مِسكُ الختام أن ألقى مِن شِعرِهِ، ثمّ تلاهُ الشّاعرُ كمال إبراهيم الّذي شكرَ بدورِهِ الحضورَ والكُتّابَ، وردّ على بعضِ التّساؤلاتِ، ثمّ ألقى بعضَ القصائدِ مِن ديوانِهِ المُحتَفى بهِ "آخر النفق". قراءات د. فهد أبو خضرة قراءةٌ في - علبةٌ مِن ذهب/ تأليف وهيب نديم وهبة لم يُحدّدِ المؤلِّفُ النّوعَ الأدبيَّ الّذي ينتمي إليه هذا الكتابُ، بل ترَكَ هذهِ المهمّةَ للمُتلَقّي. عمليّةُ التّحديدِ العامّةُ ليستْ صعبةً، فالكتابُ ينتمي إلى النّوعِ الأدبيِّ الّذي يُسمّى (الحكاية)، أمّا عمليّة التّحديدِ الدّقيق فليستْ سهلةً، وهنا يُمكنُ القولُ أنّ هذا الكتابَ يضمُّ حكاية إطار، أو حكايةً خارجيّةً تحوي في داخلِها سبع حكايات داخليّة.
الحكايةُ الخارجيّةُ والحكاياتُ الداخليّةُ كلُّها خياليّةٌ، أمّا الخيالُ الّذي تنتمي إليهِ فهو مُنَوّعٌ، منها خيالٌ علميٌّ، وخيالٌ تعليميٌّ، وخيالٌ أسطوريٌّ وخيالٌ خرافيٌّ. حكايةُ الإطار تنحو نحو حكاياتِ السّحَرة والأميراتِ المسحورات، وتُشكِّلُ نوعًا مِن الخيالِ الخرافيِّ، أمّا الحكايات الدّاخليّة فتدورُ حول رحلاتٍ يقوم بها السّاحرُ والأميرة. الرّحلةُ الأولى إلى الطّبيعةِ للمشاركةِ في مِهرجان العصافير، وفيها إشارةٌ إلى هجرةِ الطّيورِ! الرّحلةُ الثّانيةُ إلى مدينةِ النّملِ، والنّملُ في هذهِ الحكايةِ يحملُ معنًى رمزيًّا، فهو ممثّلُ التّخريبِ والإتلافِ، وقد كبُرَ حجمُهُ حتّى صارَ بحجمِ النّسرِ، ويُلاحَظُ أنَّ رحيلَ النّملِ لم يتمَّ إلاّ بتدخُّلِ السّاحر، الّذي جعلَهُ بلحظةٍ يعلو ويطيرُ، والسّؤالُ الّذي يُوجّهُهُ المُتلقّي لنفسِهِ، ونُوجِّهُهُ نحنُ بدوْرِنا إلى المؤلِّفِ، ترى، أنحتاجُ إلى ساحرٍ في كلِّ مرّةٍ يُهاجمُ فيها النّملُ مدينةً ما؟ الرّحلةُ الثّالثةُ في أعماقِ البحرِ، حيثُ يُشاركُ السّاحرُ والأميرةُ في حفلِ تتويجِ ملكةِ البحر، وفي هذه الحكايةِ خيالٌ تعليميٌّ وخيالٌ خرافيٌّ وأسطوريٌّ، حيثُ نقرأ عن حوريّةِ البحرِ والأسماكِ الملوّنةِ وشجرِ البحرِ واللّؤلؤِ والحيتان، ونتعلّمُ أنّ السّمكَ لا ينامُ، ولعلّ الأنبوبَ الشّفّافَ الّذي يصلُ مِن الشّاطئِ إلى أعماقِ البحر، والّذي سارَ فيه السّاحرُ حاملاً الأميرةَ، يمكن أن يُشكِّلَ مثالاً جيّدًا للخيالِ العلميِّ. الرّحلةُ الرّابعةُ إلى سطحِ كوكبٍ في الفضاءِ الخارجيِّ، حيثُ يُشاركُ السّاحرُ والأميرةُ في حفلِ زواجِ سيّدِ الكوكبِ مِن ابنةِ حكيمِ الكوكب، وحيثُ نقرأ عن قزمٍ يُرافقُ السّاحرَ والأميرةَ، ونلاحظ أنّ عناصرَ البيوتِ هناكَ يُشبهُ ما هو موجودٌ على سطحِ الأرضِ هنا، في بعضِ المناطق بيوتٌ مبنيّةٌ مِن أحجارِ الجير، والسّقوف عيدانُ قصب، وكذلك معظم عناصر الطّبيعةِ هناكَ يُشبهُ ما هو عندنا، باستثناء الرّيحِ الملوّنةِ، أمّا طريقةُ السّيرِ فمختلفةٌ عمّا هو مألوفٌ في أرضِنا، إذ يسيرُ الشّخصُ هناك وكأنّه لا يسيرُ، وأهمُّ ما يُميّزُ ذلك الكوكبَ عن أرضِنا سكّانُ الكوكبِ، فلا لصوصَ لديهم ولا حربَ ولا دمًا ولا خراب! الرّحلةُ الخامسةُ إلى الصّحراءِ ومنها إلى باطن الأرض، حيثُ نشاهدُ مدينةً قديمةً تعودُ إلى الحياةِ مِن جديد، وقد أحسنَ المؤلّفُ صُنعًا بعدمِ ذِكرِهِ لاسمِ المدينةِ الموصوفةِ، مع إنّ إشاراتِهِ تدُلُّ على مدينةِ بابل، (نحو باب عشتار)، وهو بابٌ مشهورٌ في بابل القديمةِ، و(الحدائق المعَلّقة) وهي حدائق نبوخذ نصّر، ففي عدم ذِكرِ الاسم يَحُثُّ على البحثِ والتّفكيرِ، ولا أدري لِمَ ذَكَر الصّحراءَ في هذهِ الرّحلة، ولِمَ اختارَ بابلَ مع الصّحراء، مع إنّ اختيارَ إرم ذات العماد أكثرُ ملاءمةً للصّحراء! الرّحلةُ السّادسةُ إلى القطبِ المتجمِّدِ، يسيطرُ عليها الخيالُ التّعليميُّ والخيالُ الأسطوريُّ، فمِن الخيالِ التّعليميِّ: هذهِ البلادُ لا تعرفُ الصّيفَ إلاّ نادرًا/ يتساقطُ الثّلجُ هنا طوالَ العام/ والثّلج هنا يتحوّلُ إلى جليد/ والجليد درجة تجمد الماء/ كذلكَ ما كُتبَ عنِ المباني والحياةِ الاجتماعيّةِ. مِن الخيالِ الأسطوريِّ: يَظهرُ أمامَهم شبحُ الثّلج أو ناطورُ الثّلج، الّذي يحرسُ المكانَ/ وحكايتُهُ حكايةٌ أسطوريّةٌ دخلتْها عناصرٌ خرافيّة! الرّحلةُ السّابعةُ إلى مدينةِ السِّحرِ، وفيها توجُّهٌ رمزيٌّ يَقومُ على توظيفِ بعضِ العناصرِ الموجودةِ في المدينةِ، الثّعلب/ عقاربُ السّاعةِ الّتي حرّكَها إلى الوراءِ/ شلاّلُ الطّيب، السّاعةُ المُعلّقةُ في وسطِ السّاحةِ وعمليّة إعادةِ الزّمن/ .... وتنتهي الحكايةُ بتحرّرِ الأميرةِ مِن السِّحر! لغةُ الحكاياتِ أدبيّةٌ فصيحةٌ وجميلةٌ، بينما لغة الأغنياتِ عامّيّةٌ، أمّا مستوى اللّغةِ الفصيحةِ فيتراوحُ بينَ السّهولةِ والجزالةِ، وهو مُلائِمٌ للصّفوفِ العُليا في المرحلةِ الابتدائيّة. العناصرُ الأسلوبيّةُ الّتي وظّفَها المؤلِّفُ عديدةٌ وتستحقُّ وقفةً متأنّيةً، ومِن أهمِّها: الاستغناءُ عن حروفِ العطفِ في كثيرٍ جدًّا مِنَ المواضِعِ، ممّا شكّلَ سِمةً بارزةً، نحوَ قولِهِ: يقفُ على الشّطّ/ يفتحُ العباءةُ/ تخرجُ الأميرةُ/ تشعرُ بفرحةٍ غامرةٍ/ تحتَها الورودُ/ أمامَها الأشجارُ/ وراءَها الحوريّاتُ/ الأميرةُ تُقبِّلُ العروسَ/ تُودِّعُ السّيّدَ/ تتبسمُ للسّاحر! ولا شكَّ أنّ هذا الاستغناءَ يُؤدّي أكثرَ مِن وظيفةٍ، وذلكَ مُرتبطٌ بالسِّياقِ. التّرادفُ/ نحوَ قولِهِ: تودُّ أن تطلعَ أن تخرجَ/ تعبيرًا عن الفرحِ والسّرور/ أدخلَ السّرورَ والبهجةَ إلى قلبِ السّاحر/ ترتعدُ الأميرةُ مِن الخوفِ والرّعبِ/ أخذتم البكاءَ والعويلَ سلاحكَم/ خلّصَ المدينةَ مِن الدّمارِ والخراب! ولعلَّ الوظيفةَ الأساسيّةَ لهذا التّرادفِ هو التّأكيدُ ولفْتُ النّظرِ، التّأكيدُ للمعنى المُرادِ مِن خلالِ إيرادِ كلمةٍ أخرى تدعمُهُ، ولفْتُ النّظرِ إليهِ مِن خلالِ ذلكَ، باعتبارِهِ أمرًا مُهِمًّا! التّكرارُ بأنواعِهِ المختلفةِ وبِضَمِّهِ التّرديدِ والاشتقاقِ وهو كثيرٌ جدًّ،ا نحوَ قوْلِهِ: مِن سِجنِ الحكاياتِ وسِجنِ العلبة/ أنت تستحقّينَ الحياةَ/ تستحقّينَ الحرّيّةَ/ تستحقّينَ أن تكوني مع أطفالِ الدّنيا/ أدخلَها داخلَ علبةٍ مِن الذّهبِ الخالص/ فكّر وفكّرَ وأخيرًا عرَفَ الهديّة/ .... ومَن يُحبُّ الطّبيعةَ والنّاسَ يُحبُّ الحياةَ/ يكرهُ الظّلمُ ويُحبُّ العدلَ/ يكرهُ السّجنَ ويُحبُّ الحرّيّةَ/ يكرهُ الحربَ ويُحبُّ السّلام. الوظيفةُ الأساسيّةُ للتّكرارِ هي التّأكيدُ مِن خلالِ التّوافقِ اللّفظيِّ والتّأثيرِ على المتلقّي، عن طريقِ الأصواتِ المُعادة! التّشبيهُ والاستعارةُ والمجاز، نحو قولِهِ: جعلَها قطعةً صغيرةً بحجمِ عروسةِ ألعاب/ وجهٌ كطلعةِ البدرِ ومَبسَمٌ كقطعةِ السّكّر/ كانتِ الغابةُ تحتفلُ بعيد العصافير (مجاز)/ كانتِ العصافيرُ ترقصُ فوقَ الأغصانِ ( تأنيس)/ كادتِ الأميرة تطيرُ مِنَ الفرحِ كما تطيرُ العصافيرُ (تشبيه)/ بأغنية جميلةٍ رائعةٍ ناعمةٍ مثل نعومةِ صوتِكِ، وجميلة مثل جَمال وجهِكِ/ وأغلقَ أبوابَ السّعادةِ والفرحِ بوجهِ المدينةِ (استعارة مكنيّة)/ النّملُ يرحلُ كالعصافيرِ المهاجرة! هذهِ العناصرُ الأسلوبيّةُ الثّلاثةُ هي العناصرُ المتعلِّقةُ بالصّورة، وهي مُوجَّهةٌ في معظمِ الحالاتِ إلى العينِ، لنَقُلْ صوَر محسوسة، وبالطّبع فإنّ التّشبيهَ هو الأسهلُ والأقربُ إلى المحسوسِ، وإلى ما يناسبُ طلاّبَ المرحلةِ الابتدائيّةِ! قلتُ أنّ لغةَ هذهِ الحكاياتِ لغةٌ أدبيّةٌ جميلةٌ، وأستطيعُ أن أضيفَ الكثيرَ مِن الكلامِ في مدحِها، ولكن ما يُؤسَفُ له الكثرة الهائلة للأخطاء اللّغويّة، مطبعيّةً كانتْ أم غير مطبعيّة، هذا مع وجود مراجعةٍ لغويّةٍ قامتْ بها سهام ناطور مراجعة لغويّة!
من الأمثلةِ على هذه الأخطاءِ: بجناحيِّ الملاك ص8 وعينيِّ الأمير ص22، والصّحيحُ بدون الشّدّة على الياء. تعتقدُ أنّها جبلاً مِن جبالِ الثّلج ص22 والصّحيحُ جبلٌَ/ لكنّ السّاحرُ والصّحيحُ السّاحرَ. وإذا بهم للمثنّى بدلاً مِن بهما/ أنا مسحورةً والصّحيحُ مسحورةٌ/ مَهرجانًا والصّحيح مِهرجانًا/ مرّ على غيابي سنةً لم أرهُم ص49 والصّحيح سنةٌ/ مَن خانَ الوطنَ وطنُ السّحرةِ والسّحر ص49 والصّحيح وطنَ السّحرةِ/وهناكَ كثيرٌ مِن الأخطاءِ.
إنّ التّشكيلَ مُهِمٌّ في الكتبِ المُوجّهةِ لأبنائِنا، ولا بدّ مِن التّدقيقِ الشّديدِ في ذلك، لأنّ ما يقرؤونَهُ يرسخُ في أذهانِهم، وآملُ أن تُصحّحَ هذهِ الأخطاءُ في طبعةٍ قادمةٍ. في الختام أعبِّرُ عن تقديري للأديبِ وهيب وهبة، وأقولُ أنّنا بحاجة إلى هذا النّوعِ مِن الكتاباتِ الأدبيّةِ الرّاقيةِ والأصيلةِ خيالاً وتعبيرًا، فإلى الأمام وإلى مزيدٍ من هذا الإبداع الّذي يُثري مكتباتِنا. آمال عوّاد رضوان "علبةٌ مِن ذهب" قصّةٌ تتّكئُ على قبابِ السِّحرِ/ للشاعر وهيب نديم وهبة "علبةٌ مِن ذهب" قصّةٌ مدعومةٌ مِن منشوراتِ الشّيخِ سلامة زيدان، تُناسبُ الأجيالَ النّاشئةَ واليافعينَ، الطّبعةُ أنيقةُ الشكلِ بجلدتِهِ السّميكةِ، والورقٌ سميكٌ ومصقولٌ، توشّي القصّةَ وتُحَلّيها رسومٌ ناطقةٌ ومُعبِّرةٌ وجذّابةٌ، أشرفتْ عليها الفنّانةُ الفارسيّةُ فاطمة بور حاتمي. أمّا مِن ناحيةِ المراجعةِ اللّغويّةِ، فقد أشرفتْ خبيرةُ اللّغةِ العربيّةِ سهام ناطور على تشكيلٍ نحويٍّ وحرفيٍّ كاملٍ، فغصَّ النّصُّ بأخطاء كثيرة ومتكرّرة بكلِّ أسف، ربّما يكونُ مَرَدُّها كيبورديًّا! مِن حيث المضمون: القصّةُ تبتعدُ عن خلْقِ عوالم ورديّةٍ تُبعِدُ الفتى عن واقعِهِ، بل تُعالج موضوعًا ذا بعدٍ اجتماعيٍّ ونفسيٍّ، وتَعمدُ إلى غرسِ قيمًا خالدة كالتّسامحِ والمحبّة والصّدقِ والتّعاونِ والتّآلفِ، وتستنبتُ في كيانِ اليافع انتماءَهُ للهويّةِ الإنسانيّةِ الشّاملةِ، فالقصّةُ عمادُها الحبُّ والموسيقى والحرّيّةُ وجمالُ الطّبيعةِ والمصالحةُ السّلميّةُ بينَ الإنسانِ والمخلوقات، وتعزيز هذه القيم الحميدة في نفوس القراء. القصّةُ طريفةٌ وهادفةٌ وموجِّهةٌ للخيرِ وللإبداعِ، تتحدّثُ عن رحلةٍ تعليميّةٍ في أرجاءِ الكرة الأرضيّةِ، وتدمجُ بينَ الخيالِ العلميِّ والواقع، وتُركّزُ على عنصرِ التّخييلِ الفانتازيا، إذ يُعدُّ حافزًا استراتيجيًّا في ثقافةِ الطّفلِ واليافعِ، خاصّةً وفي عصرِ العلوم والتّكنولوجيا، فقد أضحى الارتكازُ على النّهجِ العلميِّ مُحفِّزًا قويًّا، يَبثُّ روحَ البحثِ والابتكارِ والإبداعِ لدى اليافع. الشّاعر وهيب وهبة يُشكّلُ في القصّةِ عالمًأ ديناميكيًّا خاصًّا وجميلا، عالمًا عارمًا بالتّصوّرِ والأحلامِ المشروعةِ القابلةِ للتّحقّقِ، مِن خلالِ حُبِّ المغامرةِ والسّعيِ الدّؤوبِ دونَ كللٍ، فيُلامسُ كلَّ الضّفافِ بدون عناءٍ، فيُخبرُ عن عاداتِ الشّعوبِ وتقاليدِها، وطبيعةِ عيشِها، وأطوارِ وأنماطِ حيواتِهم المختلفةِ الّتي يُمارسونَها. القصّةُ تتّكئُ على قبابِ السِّحرِ، وقد وشّحتْها اللّغةُ بسِحرٍ فاتحٍ، يُدخِلُ مَسرّةً للقلبِ والعقلِ! بلغةٍ قريبةٍ مِن عالمِ اليافعِ، بلغةٍ ثريّةٍ ويسيرةٍ ووجدانيّةٍ ورقيقةٍ وبسيطةٍ يصوغُ الأحداثَ، مازجًا بينَ فنّيّةِ السّردِ المُشوِّقِ والتّصويرِ، وبعنايةٍ نابضةٍ بالشّعريّةِ والوضوحِ والبساطةِ، يُوظِّفُها بشكلٍ طيِّعٍ وبمهارةٍ دونَ تكَلُّفٍ، كأنّما استكنهَ دواخلَ وأسرارَ وخبايا عوالم اليافعين! الأسلوبُ سلِسٌ وشيّقٌ بعيدٌ عنِ الغموضِ، يتدرّجُ مِنَ السّهلِ إلى الصّعبِ، فقد صِيغتِ القصّةُ بأسلوبٍ يَشُدُّ القارئَ دونَ الوقوعِ في فخِّ الوعظِ، وتخلّلتها ممارسةٌ حضاريّةٌ تدمجُ بينَ الحِسِّ والوجدانِ، وبينَ التّعاملِ بالفِكرِ والجسدِ، فتجاوزتْ مِن الجزئيِّ إلى الكُلّيِّ. الشّخصيّاتُ في القصّة تلتحمُ وتتحرّكُ بعفويّةٍ وسلاسةٍ، مازجةً بينَ الوصفِ والحكائيّةِ والسّردِ والخيالِ، فتتركُ أثرًا في النّفسِ والذّاكرة! السّاحرُ لا يتّخذُ صورةَ شرّيرٍ أو طيّبٍ، بل دورٍ محايدٍ يكادُ يكونُ دورًا أبويًّا ودافعًا معنويًّا، يُراقبُ عن كثبٍ، ويتركُ اتّخاذَ القرارِ في يدِ اليافعةِ، إلى أن تصلَ إلى نهايةِ المشوارِ، وعليها أن تختارَ بعدَ أن أُعتِقتْ مِن علبتِها الذّهبيّةِ والسّحريّة! الفتاةُ تُدركُ ملَكاتِها مِن ذكاءٍ وجَمالٍ، وتعي قدراتِها الكامنةَ في أعماقِ ذاتِها، وبالرّغمِ مِن سَجنِها في علبةِ الظّلمِ والظّلمةِ، إلاّ أنّها كانتْ ترى بؤرةً مشرقةً في آخرِ الأفقِ، تندَهُها لتحقيقِ أحلامِها الدّفينةِ. العلبة الذهبيّةُ رمزٌ للسّجنِ والظّلمِ وللامتثال والتنميط وجفافِ الحياةِ، تعملُ على قمْعِ اليافعِ داخلَ قمقمِ إنكارِهِ لذاته وخيالِهِ وإبداعِهِ، دون أن يتجدّدَ وإنْ تناسلَ، وبالتالي مقبرةً للضّميرِ والوجدان! النّومُ قد يبدو طبيعيًّا، لكن رمزيًّا كانَ يَعني العُزلةَ والخمولَ، اللّذانِ سرعانَ ما أيقظا بذرةَ تَوْقِ الفتاةِ إلى الحرّيَةِ، والتّطلّعِ إلى الانفتاحِ على ثقافاتِ العالم! الأماكنُ والأزمنةُ والأوقاتُ في القصّةِ تخضعُ لمخيلةِ القارئِ، ولا تمُرُّ بشكلِها الطّبيعيِّ وإن كانَ هناكَ ثباتٌ سلوكيٌّ ظاهريٌّ، لكن باطنيًّا؛ هي رسائلُ وامضةٌ مُوجَّهةٌ لجيلٍ مراهقٍ مِن فتياتٍ وفتيان، كي لا ينجرفوا وراءَ الإغواءاتِ والإغراءاتِ، عندَ الوقوعِ في مَحَكِّ التّجاربِ وامتحانِ القدراتِ، بل تَحُثُّ على المغامرةِ وتجاوزِ المَخاطرِ واتّقائِها، وتُحفِّزُ على المثابرةِ في اتّخاذِ التّدابيرِ الوقائيّةِ. لماذا يلجأُ الشّاعرُ وهيب وهبة إلى القصّةِ بدلاً مِن لجوئِهِ إلى الشِّعرِ؟ هل لأنّهُ يُواكبُ ما تشهدُهُ أجيالُنا الصّاعدةُ مِن تحوّلاتٍ وتغييراتٍ جذريّةٍ، وتتخبّطُ في تطلّعاتٍ وأسئلةٍ وأحلامٍ وهواجسَ، يستقي من واقعهم المَعيشِ أحداثَ قصصِه متشعّبةِ التّفاصيلِ؟ هل القصّةُ بالنّسبةِ لهُ مُجرّدُ وسيلةٍ لتزجيةِ أوقاتِ الفراغِ لدى هذهِ الفئةِ، أم أنّهُ يُؤمنُ بأنّ القصّةَ تغطّي حاجاتِ وتطلّعاتِ اليافع، وتؤثّرُ في سلوكيّاتِهِ في حالِ التّبليغِ السّليم؟ هل يتطلّعُ إلى المساهمة بخلْقِ مُتلقٍّ ومبدعٍ فاعلٍ، وبالتّالي بتأسيسِ جيلٍ يقِظٍ يستحقُّ الاحتفاءَ بقدراتِهِ والعناية بها؟ في القرنِ السّابعِ عشر انتقلتْ قصصُ السّحَرةِ مِن أُطُرِ السّردِ الشّفهيِّ إلى القصّةِ المكتوبة. هذه القصصُ كانتْ موجَّهةً للرّاشدين حتّى القرنِ الثّامن عشر، وتمّتْ صياغتُها مِن قِبَلِ عدّةِ مؤلِّفينَ كالإخوةِ غريم وبيرو وغيرهم الّذينَ أثْرَوْا مكتبةَ الطّفلِ بقصصٍ رائعةٍ، تُرجمَ بعضُها إلى اللّغة العربيّة، وفي القرن العشرين انتقلتْ إلى الشّاشة الكبيرة! لماذا يَلجأُ الشّاعرُ وهيب وهبة إلى القالبِ السّحريِّ في القصّة؟ هل لأنّ هذهِ القصصَ هي نتاجُ العديدِ مِن الثّقافاتِ وتلقى انجذابًا وشعبيّةً على امتدادٍ عالميٍّ واسعٍ؟ هل مِن الصّعبِ ارتيادُ وعبورُ الأحداثِ اليوميّةِ المزعجةِ والمُحيِّرةِ، إلاّ مِن خلالِ قالبٍ سحريٍّ يُمكِّنُهُ أن يرقى بخيالِهِ ولغتِهِ نحوَ آفاقٍ أرحبَ،أم أنّهُ يَرقى إلى عالمٍ سِحريٍّ، كي يوليَ الأحداثَ عنايةً أكبرَ، يستطيعُ من خلالها تجاوزَ الممنوعاتِ، فيَسهُلُ عليه أن يُبهِرَ اليافعَ بضروبِ الخيالِ والغرابةِ؟ هل هذا الكون السِّحريُّ الغريبُ يزيدُ مِن ديناميكيّةٍ معنويّةٍ ونفسيّةٍ، تولي إشكاليّاتِ الحياةِ حبكةً مشرقةً تفتحُ آفاقَ الأحلامِ والخيالِ؟
وهيب وهبة شاعرٌ مسرحيٌّ لهُ العديدُ مِنَ الأعمالِ المسرحيّةِ: "الملاكُ الأبيض"، "هدايا وقُبَل"، نَهْدُ أسواره، أنتِ أحلى، وقْعُ حوافر خيل، المجنونُ والبحر، نافذةٌ للموتِ وأخرى، خطواتٌ فوقَ جسدِ الصّحراء". مِن أجلِ تمريرِ الإبداعِ المسرحيِّ هذا، نحتاجُ إلى فضاءاتٍ ترفيهيّةٍ، ودورِ شبابٍ، ومسارحَ، ودورِ نشرٍ، تدعمُ وتشجّعُ المبدعين الشّباب! رمزيّةُ النّصّ في "علبةٌ مِن ذهب" البداية جُرحٌ والنّهايةُ حكمةٌ وسعادةٌ فهيم أبو ركن كيفَ لا تكونُ البدايةُ جرحًا والجِراح أصبحتْ صنعةُ هذا العصرِ، عصرُ القنابلِ والرّصاصِ، وما دامَ الحبُّ رغمَ الجراحِ لهُ في الأرضِ ألفُ مكانٍ، فلماذا إذن تكونُ النّهايةُ غربةً؟ ويتساقطُ مطرٌ حزينٌ مِن عينيْكِ الهادئتيْن/ لماذا تحملينَ الشّمس في حقائبِكِ؟/ لماذا أنتَ تسرقُني في حقيبتِك؟/ لا تكتبي لي ولنغادر.. غريبيْن! هكذا تساءلتُ قبلَ أكثرَ مِن ثلاثةِ عقودٍ في مقالٍ نشرتُهُ في صحيفةِ الأنباء 2271977،عن الشّاعرِ وهيب نديم وهبة، وكتابِهِ "نهدُ إسوارة وقصيدة"، واليوم حينَ يسحرُ السّاحرُ الأميرةَ، ويجعلُها قطعةً صغيرةً بحجمِ عروسةِ ألعابٍ، ثمّ يُدخلُها سجينةً في "علبة من ذهب"، كيف إذن لا تكونُ البدايةُ جرحًا؟ وحينَ تُحقّقُ الأميرةُ في نهاية الكتابِ حُلمَها، كيف لا تكونُ النّهايةُ حكمةً وسعادةً؟! إنّها قصّةٌ بسيطةٌ، وكلُّ القصصِ العظيمة تعتمد على البساطة وعدم التّعقيد، وهذه القصّة توظّفُ البساطةَ إلى جانب رمزيّةٍ شفّافةٍ، لتقولَ الأشياءَ العميقةَ الّتي ترتبطُ بواقعِ حياتِنا، وبمصيرِنا كمجتمعٍ وشعبٍ وبني بشر. فمثلاً في الصّفحةِ الرّابعة يقول الكاتبُ: "الأميرةُ تودُّ أن تخرجَ مِن سجنِ الحكاياتِ وسجنِ العلبةِ، حتّى لو كانتْ مِن الذّهب الخالص، وأن يتركَها السّاحرُ أن تعيشَ حرّةً وأن تعودَ كما كانت". يمكنُ أن نقرأَ هذه الفقرة بنمطِها السّرديِّ والواقعيِّ، ويمكنُ أن نقرأها كرمزٍ، فالأميرةُ الّتي تريدُ التّخلّصَ مِن سجن الحكايات، هي الأمّةُ العربيّةُ الّتي تريد أن تتخلّصَ مِن التعلّقِ بأمجادِ التّاريخِ وسجنِ بعضِ التّقاليدِ الرّجعيّةِ! إذن، الجميلُ في هذا الكتاب أنّهُ مبنيٌّ على ثنائيّةِ الظّاهرِ والباطنِ، إذ يمكنُ أن يُفسّرَ كما هو للأطفال، ويمكن تفسيرُهُ باطنيًّا ليُشيرَ إلى قضايا تهمُّ الكبار ومِن عالمِهم، وبأفكارِهم، قضايا تهُمُّ الإنسانيّةَ جمعاء. هكذا اصطادَ الكاتبُ عدّة عصافيرٍ بحجرٍ واحدٍ، فهو يستعملُ مفاتيحَ حنينيّة التّأثير، حين يعود بمشاعرِنا إلى ما ترعرعْنا عليه مِن قصصِ السّحرِ والحيوان، فيدمجُ بين ألف ليلة وليلة، وبين كليلة ودمنة. فهو يبدأ بساحرٍ، ثم يُعرّجُ على مملكةِ الحيواناتِ، ويُدخلُنا إلى عالم الأساطيرِ مع عشتار، وإلى المعالم الجغرافيّة مع هجرةِ الطّيور ورجلِ الثّلج. المتشابهُ بينَ هذا الكتابِ وبينَ كتابِ كليلة ودمنة، أنّهما مجموعةُ قصصٍ ذاتِ طابعٍ يرتبطُ بالحكمةِ والأخلاق، ولكن الفرقَ بينَهُ وبينَ كتابِ كليلة ودمنة، أنّ معظمَ شخصيّاتِ قصص كليلة ودمنة عبارة عن حيواناتٍ، فالأسدُ هو الملك وخادمُه ثورٌ، وكليلة ودمنة هما اثنان من حيوان ابن آوى، و شخصيّاتٌ أخرى عديدة... هكذا تدور القصصُ بالكاملِ ضمنَ الغابةِ وعلى ألسنة هذه الحيوانات. بينما في "علبة من ذهب"، الأميرة تبقى أميرةً من لحمٍ ودم، والسّاحر يبقى ساحرًا بشكلِهِ وصفاتِهِ الإنسانيّة، ولكن مع قدرةٍ مِن السّحر، والحيوانُ يُوظّفُ كرمزٍ، أحيانا يتكلّمُ ليخدمَ الحوار، وأحيانًا لا يتكلّم كما في قصة النّمل، الّتي يمكن أن تُفسَّر مِن خلالِ قراءةٍ عاديّةٍ، ويمكن قراءتَها وتفسيرَ رموزِها، لتحكي قصّةَ شعبٍ حقيقيٍّ عانى من الاحتلالِ والاضطهاد. كليلة ودمنة، هي قصّةٌ تقومُ أساسًا على نمطِ الحكايةِ المثليّة، وهو كتابٌ وُضعَ على ألسنةِ البهائمِ والطّيورِ، واحتوى على تعاليمَ أخلاقيّةٍ موجّهةٍ إلى رجالِ الحُكمِ وأفرادِ المجتمع، أمّا "علبة من ذهب"، فلم تعتمدْ نمطَ الحكايةِ المثليّة، إنّما أدخلتِ السّردَ القصصيَّ، مع قفزاتٍ حادّةٍ هنا وهناك، لأنّ الأحداثَ كثيرةٌ والزّمنَ قصيرٌ، هو أسبوع فقط. في هذا الكتابِ تلخيصٌ لعدّةِ نظريّاتٍ متداخلةٍ، بذلَ الكاتبُ فيها مجهودًا، ليَخرجَ بالكتابِ شاملاً يتمحورُ حولَ الإنسان، الإنسانِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. في هذا الكتاب نجد رموزًا عميقةً لغيابِ العدلِ أو الحكمِ العادلِ الحكيم، وهنا نستشفُّ رمزًا لتعاليم سقراط أو نظريّتِهِ في جمهوريّتِهِ المثاليّة، الّتي فضّلتِ الحكمةَ لقادةِ الدّولةِ. أسمعه صفحة 50 يقول على لسان الأسد: "سيّدي حكيم المدينة، إنّ التّرحيبَ بكم وبك خاصّة لا يقلُّ عنهُ الغضب، بقدر التّرحيبِ، بقدرِ الشّوق إليك، بقدرِ حجم الغضب، غبتَ عنّا، تركتَنا دون حاكمٍ دونَ حكيمٍ، دون قائدٍ يأخذُ الأمورَ بالرّضا أو بالحرب... " هذه الفقرةُ أيضًا مثالٌ لبعضِ الملاحظاتِ اللّغويّةِ الّتي تحتاجُ ربّما لمقالٍ منفردٍ، ليس هذا المقام لمعالجتها. مثالٌ آخرُ لرمزيّةِ النّصّ هو الإشارةُ إلى العصورِ الجليديّةِ، مثلا نجده صفحة 44 يقول: "وذاتَ زمنٍ دامَ البردُ القارسُ، ودامتْ فترةُ تساقطِ الثّلوجِ، حتّى كسا الثّلجُ المنطقةَ كلَّها، بسببِ تراكمِ الثّلوجِ والتّجلّدِ، انقرضتْ حيواناتٌ كثيرة، وغادرتِ المكانَ حيواناتٌ أخرى، النّاسُ، بعضُهم مات تحتَ كُتلِ الثّلج، بعضُهم غادرَ المكان، تركوا المنازلَ والممتلكاتِ، ابتعدوا مع باقي الحيواناتِ إلى هذه المنطقةِ الّتي نسكنُها حاليًّا". ومِن المعلومةِ الجغرافيّةِ العلميّةِ يتصاعدُ الرّمزُ عمقًا إلى الحالةِ الاجتماعيّةِ النّفسيّةِ، فيقولُ: "في المناطقِ الّتي هجرَها الحيوانُ والإنسانُ، نبتتْ مِن عظام الحيواناتِ الّتي انقرضتْ، هيئة على شكل إنسان كان يقترب من منطقتنا، يأكلُ حيوانًا أو إنسانًا منّا ويهربُ إلى تلكَ المناطقِ البعيدة، لهذا قالوا عنه "الشّبح" لأنّه يظهرُ ويختفي. وفي كلِّ يوم كان ينقص منّا أحد، حتّى أوشكنا على الانقراض أمامَ جبروتِ ووحشيّة "الشّبح". ربّما كان هذا ال "الشّبح" هو حاكمٌ ظالمٌ، أو دولة عدوّة، والكاتب يرى أنّ الحلّ هو السّلامُ أو الحكم الدّيمقراطيّ، ويُعبِّرُ عن ذلك برمزِ الشّكلِ الدّائريِّ، أي أنّ للجميع نفسُ الحقوقِ، فيقول صفحة 45: "وحين شاهد الشبح نار الدائرة عرف أن الحكيم يريد "الحوار" وبعد حوار السلام قال: "الحكيم يقول لي إن في المنطقة من يحكمها، وهو في رأس القائمة، والقاعدة هي "الشعب" وترمز إلى نهاية الظلم والعداوة، والامتثال "لحكم الشعب". وأخيرًا نقولُ: هذا الكتابُ كتابٌ هادفٌ يُقرأ حسبَ مستوى القارئ، إذ يُمكنُ أن يُلائمَ صفَّ الثّالث في بعض المدارس أو المناطق، ويُمكنُ أن يُلائم صفَّ الثّامنِ في مناطق أخرى، وعلى الحالتين يمكن أن يُقرأ برمزيّةٍ، فيلائمُ كلَّ الأجيالِ لأنّهُ يهدفُ إلى النّصحِ الأخلاقيِّ والإصلاح الاجتماعيِّ والنّظرةِ أو التّوجيهِ السّياسيِّ، في موقفٍ إنسانيٍّ ثابتٍ، ونظرةٍ شموليّةٍ تهتمُّ بهذا الكون الّذي تُهدّدُهُ حروبٌ مدمّرةٌ، إذا استمرّتِ الكراهيّةُ والعنصريّةُ، وعدمُ التّسامح. وربّما لا نخطئ إذا عرّفنا هذا الكتابَ بأنّهُ قصّةٌ للأطفال، يَقرأها الشّبابُ ويفهمُها الكبارُ، لها نهايةٌ سعيدةٌ تترجمُ تفاؤلَ الشّاعرِ وإيمانَهُ بجوهرِ الإنسانِ الخيِّر. نتمنّى للشّاعرِ والكاتبِ وهيب نديم وهبة مزيدًا مِن العطاءِ الإبداعيِّ وإلى الأمام. مع ديوان آخِر النّفق – كمال إبراهيم د. بطرس دلّة نحن نعي أنّ طبيعةَ الشِّعرِ العربيِّ قد تغيّرتْ في السّنواتِ الأخيرةِ، وذلك بسببِ مُزاحمةِ الفنونِ الأخرى الّتي لم تكنْ معروفةً في العصورِ الوسطى وفي الجاهليّةِ، ولمّا لم يَعُدِ الفنُّ الوحيدُ السّائدُ في الحضارةِ العربيّةِ اليومَ، خاصّةً بعدَ الضّغوطِ الّتي واجهَها مِن وسائلِ الاتّصالِ وتعقيداتِ المناخِ الثّقافيِّ، جعلت الشِّعرَ ومملكةَ الشِّعرِ تضعفانِ أمامَ المعركةِ الإعلاميّةِ الشّرسةِ، الّتي شكّلتِ الصّورةُ قوّتَها الأساسيّة. مِن هنا فقد تغيّرتْ وظيفةُ الشِّعرِ، ولذلكَ فإنَّ طريقةَ التّكاملِ معهُ يجبُ أن تتغيّرَ أيضًا، واحتلّتِ الرّوايةُ مكانَ الصّدارةِ بدلاً منه، وحتّى أمس القريب، أي منتصف القرن العشرين، في سنوات الخمسين كُنّا شاهدينَ على العديدِ مِن مهرجاناتِ الشّعر في كفر ياسيف مثلا وغيرها، حيث كان يَحضرُ كبارُ الشّعراءِ المعروفين آنذاك مِن كافّةِ أرجاءِ البلاد، مِن حيفا والمثلّث والنّاصرة والجليل الأعلى، ويجلسُ الجمهورُ الّذي يربو على ألفين وثلاثة آلاف إنسان في السّاحةِ العامّة، أمامَ مقرِّ النّادي الثّقافيِّ الرّياضيِّ لمدّةِ ساعتين أو ثلاث ساعات، أو حتّى أكثر من ذلك أحيانًا، جالسين على كراسي القشِّ المنخفضةِ دونَ ما مللٍ أو تذمُّر، بل على عكس ذلك يُطالبونَ بالمزيدِ، وعندَ كلِّ بيتِ شِعرٍ مُوفَّقٍ يَهُبُّ شابٌّ مفتولُ السّاعدينِ، يُشَرِّعُ سيفًا بيدِهِ ويرقصُ على إيقاعِ السّحجةِ، ولا تهدأ العاصفةُ إلاّ عندما يُعاودُ الشّاعرُ إلقاءَ شِعرِهِ. كانَ الجمهورُ يَطربُ كثيرًا للرّدّةِ الموفّقةِ، كما حصل مع المرحوم الشّاعر "راشد حسين"، عندما استهلَّ قصيدتَهُ في مهرجان كفرياسيف في سنوات الخمسين بقولِهِ: اليومَ جئتُ وكُلُّنا سُجناءُ/ فمتى أعودُ وكُلُّنا طُلقاءُ أو كما حصلَ مع أبي الأمين الرّيناويِّ في أحد الأعراس، عندما طلبَ منهُ الحاكمُ العسكريُّ "دوف" أن يقولَ ردّةَ شعرٍ حماسيّةٍ، ليرى مدى مفعولِها على الجمهور فقالَ: جُرّْ جيوشَك يا جمال/ مِن إيلات للشّمال فما كانَ مِن الجمهور إلاّ أن هاج وماج، ووقفَ الحاكمُ العسكريُّ يطلبُ الهدوءَ، بعدَ أن اقتنعَ أنّ الإنسانَ العربيَّ يطربُ كثيرًا لكلِّ بيتِ شِعرٍ موفّق. التّقديمُ لمجموعة "آخر النّفق": يدأبُ الأستاذُ "كمال إبراهيم" في هذه المجموعةِ على توضيح نواياهُ، والدّعوةِ إلى السّلامِ ومحبّة مبدأ حقِّ تقريرِ المصير، فيُهدي مجموعتَهُ هذه إلى الّذين تربَّوْا على نبذِ العنفِ، ويَنشدونَ السّلامَ، ويَهيمونَ حُبًّا بالوطن، ليسَ الوطن العربيّ فحسْب، بل سائر أرجاء المعمورة، لذلك فإنّ لديهِ رؤيةً عالميّةً واسعةً، أكثرَ بكثيرٍ مِن ضيقِ الأفقِ القوميِّ للقوميّةِ الواحدة! أمّا القصيدةُ الأولى فجاءتْ على شكلِ صلاةٍ/ مناجاةٍ، يتضرّعُ فيها إلى خالقِهِ أن يُخلّصَهُ مِن آلامِهِ، وأن يُزوِّدَهُ بالصّبرِ كي تطولَ أيّامَهُ محتمِلاً آلامه، وقد لجأ في هذه المناجاة إلى لغةِ النّثر الشِّعريِّ، مع أنّه لا يجهلُ أصولَ العَروض، حيث عملَ طوالَ سنواتٍ مُعلِّمًا للّغةِ العربيّة، إلاّ أنّه فضّلَ التّحرُّرَ مِن قيودِ القافيةِ والتفعيلةِ في هذه القصيدة. لقد ابتعدَ كمال إبراهيم عن كلاسيكيّةِ الشّعرِ الخليليِّ، ونحا منحى الشِّعر المنثور، إلاّ في قصيدةٍ واحدةٍ هي قصيدة "حبُّ الوطن"، الّتي أهداها للشّاعرِ الكبير "سميح القاسم" في ص 47، حيث حاولَ أن يكتبَ قصيدةً موزونةً مُقفّاةً، فلجأ إلى أكثر من قافية، والقصيدةُ على بحر الرّمل الّذي تفعيلاته: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن، إلاّ أنّه كسر البحر الرّمل وكتب التفعيلات التّالية: فاعلاتن فعولن فاعلاتن فاعلاتن فعولن فاعلاتن، ومثل هذا البحر غير موجود في اللّغة العربيّة، فهل هو مِن تجديداتِه أم أنّه سمَحَ لنفسه، ما لم يسمح لنفسِه أيُّ شاعر مِن قبل بمثل هذا الخروج عن البحور؟ لغة الوعظ: اعتاد الأب والأمُّ حين يولد لهما ابنٌ بتوجيهِهِ ووعظِهِ، كي يسيرَ حسب توجيهاتِهما وتعليماتِهما، ثمّ يأتي دوْرُ المدرسة في الوعظ والإرشاد، ولا يقلُّ دوْرُ الأخ الأكبر أو العمّ أو الجدّ أو الأخت في توجيه الوعظ والإرشاد، حتّى أنّ الصّغارَ يضيقون ذرعًا بهذه اللّهجة الّتي باتت ممجوجة، إلاّ أنّه لم يجد بدًّا مِن اللّجوءِ إلى لهجةِ الواعظِ، لأنّ له رؤية نقديّة حتّى الثّمالة، للكثير مِن المظاهر المتفشّيةِ في مجتمعنا، فهل مجموع القرّاء يعشقُ هذه اللّهجةِ أم ماذا؟ وفوقَ ذلك، لاحظنا أنّ الأستاذ كمال إبراهيم الذي استقال من مهنة التّعليم، واستبدلها بمهنة الصّحافة، قد تأثّر بأسلوب الصّحافةِ في شِعرِهِ، فجاءتْ بعضُ قصائدِهِ بلغةِ الصّحافةِ الإخباريّةِ والتقريريّةِ، مثال ذلك: أيُّها الشّافي/ بالله قُلْ لي/ كيف نستأصلُ الشّرَّ/ في زمن/ يسبحُ أهلُهُ وحُكّامُهُ، في بحرِ الرّذيلةِ؟ كيف يأتي الدّواءُ/ لمَن ليس له في اليد حيلة؟/ الحاكمُ ذاك تمادى في ظلمِهِ/ وباعُهُ أضحتْ طويلة/ أيّها الشّافي/ بالله قل لي/ في زمن/ يلجأ الفتيان فيه/ للأفيون والأرجيلة/ .... أليس هذا النّصّ كمن يكتبُ خبرًا في صحيفة؟ ضياع الوزن والجرس الموسيقي: لُفّي وشاحَكِ/ واتبعيني/ ضعي ذراعَيْك على كتفي/ احضنيني/ قبّليني أردتُ إدخالَ بعضِ التّغييراتِ فيها فخرجت موزونةً على الشّكل التّالي: لفّي وشاحَكِ واتبعيني/ مُدّي ذراعَكِ واحضنيني/ اليوم/ جئت مجدِّدا/ حبي سيقتلني حنيني/ كم ذا أحبّك زهرةً/ حمراء تزهو تكتويني/ هكذا لبستِ القصيدة ثوبًا جديدًا، وأضحت خفيفةً على السّمع. الطّرحُ الّذي يُقدّمُهُ الأستاذ كمال إبراهيم في هذه المجموعة هو طرحٌ إنسانيّ، فهو يرى بعينٍ ثاقبةٍ أمورًا مُنفِّرةً وقضايا ساخنةً يُعاني منها المجتمع، فيقف ناقدًا واعظًا ومُوجِّهًا، فلا يهدأ له بال حيث ينتقل من موضوع إلى آخر، يحثُّهُ في مسيرته هذه انتقالُهُ إلى ضميرٍ حيٍّ وإنسانيّةٍ رائعة، ولكنّهُ إلى جانب هذه الإنسانيّة، لديه عشق خاصٌّ للأرض والوطن، ففي الغلاف الأخير يصف عشقه للأرض والوطن، بأنّه يشبه النّحلة للرّحيق، وكما تحضن الأمّ رضيعَها، أو كما يُرصِّعُ الشّاعر قصائدَهُ بالبديع الذي هو من أنواع البلاغة، وكما يرتشف الطّفل حليبَ أمِّهِ، إلاّ أنّه عندما ربط السّيّد المسيح بالصّليب، وكأنّه أحبّ ذلك الصّليب فقد أخطأ، لأنّه ما من إنسان يُحبُّ أن يُصلَبَ حتّى ولو كان إلهًا! إذن هذه التّشابيه المحبّة كلّها صفات لمحبّة الشّاعر للأرض والوطن، ولو تطلّعنا إلى عنوان المجموعة لوجدنا في تسميته (آخر النفق) محاولةً منه لطمأنة القارئ، على أنّه بالرّغم ممّا سينتقده في هذه المجموعة مِن مظالمَ وآفاتٍ اجتماعيّة وأمورٍ لا يرضى عنها، فإنّه يُطمئننا على أنّ النّفق المعتم سوف ينتهي إلى النّور، عندما يتحرّر المجتمع مِن آفاتِهِ، إلاّ أنّه لا يُحدِّد متى سيكون، هل سيكون ذلك عندما تقوم الدّولة الفلسطينيّة أم متى؟ إلى عكّا: في تشرين أوّل من عام 2008، حصلت مناوشات وصراعات يهوديّة عربيّة في عكّا، وكان تدخّل الشّرطة في صالح الطّرفِ الآخر، حيث اعتقلت العشرات من أهالي عكّا، وذلك بحجّة الاعتداء على السّكّان اليهود وإقلاق راحتهم في عيد الغفران، وقد تأثّر بهذه الأحداث فكتب قصيدة أهداها لهذه المدينة الصّامدة، متضامنًا مع كفاحها ضدّ العنصريّة اليهوديّة، داعيًا للسّلام والتّفاهم والعيش المشترك، والواقع هو أنّ تجربة الحياة المشتركة اليهوديّة العربيّة طوال ستّين عامًا، الّتي هي عمر دولة إسرائيل، أثبتت فشلها بسبب غلاة الصّهيونيّين المتطرّفين اليهود، الّذين خرجوا إلى الشّوارع في مسيرات حاشدة يهتفون بالموت للعرب، فأيُّ تعايش هذا؟! لكنّه لجأ في قصيدته التّضامنيّة مع عكّا إلى أسلوب الوعظ بقوله: كوني للعيش مسرحًا/ لا تدعي العيش فيك ينتسب/ كوني للسّلم منارة/ ارفعي رايات التّعايش والحبّ/ لتفرح فيك كلّ الدّيانات