ابْتُليت مدينتُنا برجالٍ مستعدون أن يبيعوا آباءهم وإخوانهم من أجل مصالحهم. مستعدون أن يقفوا مع الغرباء ضد الأقرباء. مستعدون أن يزيِّنوا الباطل ويُشينوا الحق. مستعدون أن يحْملوا الصليب، ويرفعوه فوق المآذن، ثم يصيحون: (الله أكبر)! مستعدون أن يقلبوا الموازين، ويطمسوا الحقائق، وينشروا الأكاذيب والأضاليل. مستعدون أن يذبحوا المدينة من الوريد إلى الوريد، ويمشوا في جنازتها مُتباكين. مستعدون أن يقولوا إنَّ المزابل تينعُ بالورود، وإنَّ الحرائق تنضجُ الطعامَ، وإنَّ ما يحْلِبون من ضِرْعِ المدينة من أجل خير المدينة، والمدينة مثل البقرة الحلوب تُسْمِنُهم وتغنيهم بينما هي تهزلُ وتفقرُ يوماً بعد يومٍ! إنهم كالثعابين، جلودُهم ناعمةٌ وفي أيديهم السُّمُّ والخرابُ والموتُ، وهم يُغيِّرون جلودهم تبعاً للمواسم والحقول، وفي سبيل أغراضهم مستعدون أن يغيروا حتى فَصيلة دَمِهم. وقد رأينا رجالاً ينتقلون من حزب إلى حزب، ويتحوَّلون من جمعية إلى جمعية، وكأنهم ينتقلون بين غُرفِ بيوتهم، فكلُّها تعودُ عليهم بالمنافع والراحة والأمان. يخادعون الناس بالشعارات، وبالمصطلحات، وبالتبريرات، وبأن أعمالهم كلَّها من أجل المدينة، والمدينةُ لا تشهدُ خيراً، ولا تحصل على أجْرٍ، وإنما هي تئنُّ، وتتألم، وتتكبد خسائر في الأموال والشباب والطاقات والمشاريع والاستثمارات والأحلام والآمال، ولا ينذرُ مستقبلُها إلا بالإفلاس التام والموت الزؤام. وعلى الرغم من هذا الواقع المزري يَطْلُع علينا هؤلاء يحدثوننا عن التنمية، وعن الإنعاش، وعن عمليات الإنقاذ، وعن خلْقِ ما ينهضُ بالمدينة في مجال التجارة والسياحة والفن والرياضة والاقتصاد والثقافة والعمل الاجتماعي و(الجمعوي)، وهذه المجالات لا أثر لها قويّاً في المدينة، وأصحابُها - أبناءُ المدينة الأصليون - لا أحد يهتمُّ بهم، أو يأخذ بأيديهم، ويقدم لهم المساعدة والدَّعْمَ، سواء كان هذا الدعم مادياً أو معنويّاً.. ويكفي أن أستدلَّ بوجود نابغةٍ من أبناء جلدتنا حصل منذ أسابيع قليلة على أعلى منصب بجامعة هولندية في تخصص تكنولوجيا الكمبيوتر الناشئة، بل يعتبر أول مغربي يعيَّنُ في هذا المنصب، ومع ذلك لم يلتفت إليه هؤلاء، ولم يقدِّروه حق قدْره، وتهافتوا على مطربة ناشئةٍ، زعموا أنهم أوفدوها لوجْه الله، وفي سبيل العمل الخيري! وكأننا قومٌ أجلافٌ، مثل الأعراب «لمَّا يدْخل الإيمانُ في قلوبنا»، فلا نعرفُ ما هو الإحسان، وكيف يكون العمل الخيريُّ، فنجلسُ فاغري الأفواه والسراويل أمام هذه المطربة نستمعُ إليها كي ترشدنا إلى عمل الخير والإنفاق على اليتامى والأرامل والمستضعفين من الرجال والولدان! لم نتعلم ذلك من ديننا، ولم يحدثنا أئمتنا يوماً في المساجد عن فِعْل الخيرات، ولم تحرك فينا مناظرُ الشقاء والبؤس الشعورَ بالتضامن والتكافل والعطاء، ففكَّرَ هؤلاء وقدَّروا، وقالوا فيما بينهم: (لن ينفع مع هؤلاء إلا الغناء والشباب والجمال).. فأين الشباب؟.. وأين الجمال؟.. عند المطربين والمطربات خارج المدينة؛ فداخل المدينة لا يوجد إلا العاطلون عن العمل، وعن الموهبة والكفاءة والإبداع، كما لا يوجدُ فيها إلاَّ الأيتامُ وهؤلاء اللئام!