أما قبل... قبل مشاهدة مسرحية "في أعالي البحر" بالمركب الثقافي بالحسيمة، كانت لي جلسة قصيرة مع مخرجها يوسف العرقوبي كلمني خلالها عن ظروف الاشتغال ومدني ببعض المعلومات وبخاصة عن مؤلف المسرحية البولوني سلافومير مورزيك وكيف انه حاول بمعية الكاتب عزيز الإبراهيمي جعل الأحداث تتوافق مع واقع الريف. إإذاك لم اقف كثيرا عند هذا الأمر إلا أنني، لكني وأنا اتابع العمل وأشاهد ثلاثة اشخاص جائعين وسط بقايا مركبة غارقة في أعالي البحر تتمايل وسط الظلام جراء امواج متحركة وكل منهم يخطط كيف يأكل الآخر... نعم وأنا اتأمل المشهد شد انتباهي حركة الموج كيف تتحرك... ولعل ذكاء ونباهة فكرة السينوغرافيا وتقنية صنع الأمواج وهي تتحرك على تغمات صوتها هو ما جعلني اقف بالضبط عند حراك الموج ذاك ليقفز بي التفكير نحو حراك المجتمع... وتتناسل الأفكار تباعا... صراع الابطال... المتسلط... الانتهازي... المتقلب... التكتيك المتبع ثم القاموس المستمعل... لأقف عند خلاصة لابد منها ولو كانت مجرد صدفة... أليست الحسيمة/الريف هي بالذات بقايا تلك المركبة؟ أوليست تلك الشخصيات ذاتها من تحرك الأحداث فوق اللوح الخشبي وفي الواقع؟ ثم اليس الموج المتحرك هو اللامتيقن منه... أي المجهول الذي يتقاذف بالجميع؟ على اي هذه مجرد وقفة أمام مشاهد مصغرة لمسرحية كتبها بولوني تعرض فوق خشبة بمدينة هي ذاتها مسرح لأحداث تتقاطع لحد كبير بين ما كتب وما يقع... ولكل منا حق البحث في الواقع عن ذاك المتسلط وذلك الانتهازي وذاك المتقلب... و في آخر المطاف عن اولئك الضحايا... أما بعد... لا بد من الإعتراف أولا انني كلما قصدت الحسيمة إلا ورجعت منها منشرحا وفخورا... مدينة حية متحركة مشبعة بالروح والدفئ... تجعلك تشعر بأنك بالفعل موجود... حراك مجتمعي حي... كر وفر... قمع وهروب... نقاشات هنا وهناك... أفكار تسير في اتجاهات مختلفة... وفعل ثقافي لا ينضب... وانا القادم من مدينة شبح... مكفهرة وشاحبة كبائعة هوى مسنة... في ظل هذا الجو تابعت مشاهد مسرحية "في أعالي البحر". اول ما شدني وأنا استمتع بمتابعة هذا العمل ثلاثة أشياء... الصمت، الموج وصوته ثم الظلام... الصمت كان بليغا... معبرا... لكنه ليس بالضرورة حكيما كما يقال دائما، لأن دوره هنا كان محتالا... كاشفا للمستور... الصمت خلته كجلاد يتربص بضحاياه في جنح الظلام... على رقصات الموج... أوليست الشخصيات كلها ضحايا لهذا الصمت المريب؟ وكم هو صعب ان يستفرد بك الصمت وسط الظلام والامواج تتقاذف بك في أعالي البحر!... ذاك الصمت الحاضر بكل ثقله كي يذيب الكلام ويجعله دون جدوى... الصمت جعل منه المخرج زئبقا ملتويا ومنفلتا ومتربصا بكلام الشخصيات كي يحتويها ويتكلم هو. وتأتي الأمواج... تأتي بصوتها ليس لتكسر ذاك الصمت كما قد يبدو بل تأتي لتتواطئ معه وتجعل منه ذاك الحاكم المتسلط وسط مساحة لا متناهية من الظلام.... فحين يجتمع الصمت بالموج وصوته في أعالي البحر ووسط الظلام تصغر باقي الشخصيات ويبدو صراعها بينها، مهما بدى كبيرا... صغيرا، ضعيفا، بل وبلا قيمة احيانا... ما دام السائد والمنتهى صمت، ظلام وموج... تتشابك الشخصيات الثلاثة في ما بينها وتتصارع من أجل الأكل... من اجل البقاء... يحضر المكر والخداع... يستاسد القمع والتسلط... يتفشى الكذب والغش... لكن دون جدوى وكأنه العبث... لان كل ذلك لا يساوي شيئا أمام الثالوث الأبدي... الصمت، الموج وصوته ثم الظلام. ثلاث شخصيات رئيسية وحاضرة تصارع الغياب وحولها تحيط ثلاث شخصيات اخرى قد تبدو ثانوية وغائبة لكنها تصارع الحضور. هي ذي الحقيقة الحقيقية التي حاول المخرج أن يبلغها لنا، فهو لم يقف عند حدود النص وصراع الشخصيات فوق خشبة وسط البحر بل انتقل بنا للمحيط... للحلبة التي تقع فيها الاحداث ليجعل منها الحاضر بقوة... وهنا لا بد من الإعتراف له باجتهاده هذا بحيث انه اخرج لنا مسرحية اخرى من النص الأصلي... مسرحية شخوصها الثلاث، وكما سبق الذكر، هم الصمت، الموج وصوته ثم الظلام... إنها شخصيات متماهية مع الشخصيات الأصلية... وهذا التماهي ليس بالضرورة إيجابا... وليس حقيقة مطلقة ما دام الكل يتحرك وغير متيقن منه. ولعل اعتناد التقنية السنيمائية في بعض المشاهد أضاف للعمل جمالا وجودة جعلتنا نقترب للواقع أكثر. ويأتي الأداء... اداء الممثلين... تشخيص متقن... منسجم ومتناسق وأحاسيس تجعلك تعيش الأحداث بجوارحك... محمد سلطانة، طارق الصالحي، محمد بنسعيد وحيدوش بوتزوكانت تمكنوا من خلال صراعهم، مكرهم وخداعهم... ومن خلال حركاتهم وتنقلهم فوق الخشبة وكذا حضورهم الجسدي... تمكنوا من ضبط صراعهم، ليس في ما بينهم فقط، بل صراعهم ضد الشخصيات الآخرى السابق ذكرها... احيي فيهم الانضباط في الأداء... والقوة في التشخيص... والدقة في الحركة والتنسيق. وكم كانت بعض المشاهد قوية حين يصمت الجميع ليتكلم الصمت والموج... وكم من مرة طغى فيه حوار الصمت والموج على حوار الشخصيات... ان سكوت الشخصيات لتفسح المجال كي يتكلم الصمت والموج لهو في حد ذاته حوار... تقاسيم وجوههم... رقصات اعينهم وبريق لمعانها وهي تداعب الصمت تارة وتارة تنتشي صوت الموج... كل هذا حوار وصراع... حوار بين النسبي والمطلق... بين المادي واللامادي... بين الحقيقة والكذب وصراع من أجل ضمان الإستمرار في محاولة لضمان البقاء. هكذا بدت لي المسرحية... هي فعلا مسرحية بنيت على كذبة لتتفتق منها الحقائق. كما العادة لم يخيب أملي من انتقالي لمدينتي الثانية... ولم يخب املي في المخرج يوسف العرقوبي ولا في ممثليه الذين أبدعوا ولا في الكاتب عزيز الابراهيمي ولا حتى في كامل فريق عمله... لأنهم أثاروا مشكلة الصراع داخل الصراع... ولأنهم سلطوا الأضواء من الأعلى على حقيقة صراعات تتقاذفها الامواج في أعالي البحر وفي صمت وسط الظلام... وبمنتهى الابداع. تبقى الإشارة لنقطة مهمة وهي أن الإنارة كانت في مستوى أقل من العمل ولعل ذلك راجع بالأساس لبنية المركب الثقافي الذي يفتقد لتنظيم ضوئي متكامل. كما كنت أود إقحام العنصر النسوي في العمل حتى تكتمل العناصر المكونة للجنس البشري وحتى يعطي للموضوع قوة ومصداقية أكثر .