لا يزال موضوع الهجرة إلى الضفة الأخرى عبر بوابة تركيا مرورا باليونان ومجموعة من الدول الأخرى، يستقطب المزيد من الحالمين بمعانقة الحلم الأوربي، ويستنزف بلا هوادة طاقات خيرة شباب الوطن، خاصة مناطق الريف التي تشهد هجرة جماعية لم يسبق لا مثيل. وهناك أرقام وإن لم تكن دقيقة حول عدد المهاجرين، إلا أنها أرقام صادمة وتدق ناقوس الخطر حول مستقبل هذه المناطق، لأن هناك عملية إفراغ لبعض البلدات على مرأى ومسمع المسئولين المعنيين، رغم وجود اتفاقيات دولية بين المغرب والاتحاد الأوروبي تنص على الحد من الهجرة غير الشرعية، إلا أن المغرب يضرب هذه الاتفاقية عرض الحائط ويقذف كل يوم بمزيد من المواطنين لمعانقة المجهول وركوب قوارب الموت في أبشع انتهاك لحقوق الإنسان وكرامته. إن التاريخ يعيد نفسه في مناطق الريف حين كان عنوان الجميع الهجرة لمن استطاع، لكن بصور أخرى. فموسم الهجرة مثل هذه، شهدتها منطقة الريف خلال سنوات الستينات والثمانينات والتسعينات، وكانت عبر طرق ومسالك مختلفة. ومنذ أن بدأت الظاهرة تستحوذ على اهتمام أغلب الشباب مابين أكتوبر وديسمبر من سنة 2015، تزايد عدد المغادرين لأقاليم وجماعات الناضور والدريوش أكثر المناطق تضررا بتنامي ظاهرة الهجرة . وهناك أرقام متضاربة حول عدد المهاجرين في غياب أرقام رسمية، لكن أغلب الروايات توثق الرقم التقريبي ما بين 7000 إلى 10000 مهاجر، وهناك أرقام أخرى تذهب ابعد من ذلك بكثير وتحدد رقم المهاجرين إلى أزيد من 15000 شخص. وفي كلا التقديرات، فالأرقام تكشف فداحة الوضع وتبين مدى الإقبال الكبير على مغادرة الوطن. في قاسيطة كما في المناطق المجاورة أزلاف، ميضار، الدريوش، بن طيب،... كما في الناضور والتجمعات الخضرية والقروية المجاورة، الحديث عن المئات من الشباب غادروا أو في طور المغادرة صوب الدارالبيضاء لتبدأ رحلة مائة ميل وبلوغ الفردوس المنشود. يتسم سن الشباب بالحيوية والطموح والتطلع إلى آفاق مستقبلية ومستوى معيشي أفضل، ويكد طوال سنوات عمره لتحقيق هدفه. ولتحقيق هذا الأخير وبلوغ طموحه لا بد من توافر المال، والمال يحتاج إلى فرصة عمل مناسبة ودخل قار. وفي مجتمعاتنا، للأسف، لا تتوافر مثل هذه الفرص بسهولة. وفي غياب هذه الشروط، ينهار كل ما سبق، ولا يبقى أمام الشباب إلا الاستسلام للإحباط والإدمان بالتعاطي لجميع أنواع المخدرات، أو التمرد على ظروفه ومحيطه بالتفكير في الهجرة غير الشرعية والسقوط في أيادي مافيا تهجير البشر. والغريب أن الشباب المقبل على هذه الخطوة يعلم جيدا حجم الأخطار المحدقة التي تنتظره، لكنه لا يعيرها أي اهتمام، فهو لا يضع أمام عينيه سوى صور النماذج التي نجحت في الهروب من هذا الواقع المرير وعادت محملة بالأموال. وهذه الظاهرة لا تنتهي أبدا طالما ظلت ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية على حالها. وسيبقى محاكاة الأخر يسبب المزيد من ضحايا الهجرة. إن أغلب القراءات تزكي سبب الهجرة إلى فرضية المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتدني مستوى العيش والفقر، والتباين الكبير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين البلد المصدر للمهاجرين وبين الدول المستقبلة. ومن الطبيعي أن يحلم أي شاب بالاستقرار والسفر إلى الخارج لخوض تجربة حياة جديدة، والبحث عن مستقبل أفضل، في ظل غياب أي أفاق مستقبلية، والافتقار إلى العمليات التنموية التي من شانها أن تخرج مناطق الريف من العزلة والتهميش، كون اغلب الشباب يعاني من ظاهرة البطالة، أو يزاولون مهنا غير مهيكلة كالتهريب أو الأعمال الموسمية. وتبقى الهجرة كما يتوقعون الحل السحري لجميع مشاكلهم المادية والاجتماعية، والتي من شأنها أن تضعهم في وضع مادي مريح، وتمنحهم الكرامة السياسية والاجتماعية والأخلاقية. إن دخول مافيا تهريب البشر عالم التقنية واقتحامهم لمواقع التواصل الاجتماعي، خاصة عالم الموقع الأزرق، ساهم بشكل كبير في تزايد عدد ضحايا الهجرة السرية من تركيا إلى اليونان، وساهم في إذكاء حملات الالتحاق بتركيا عبر تحريضهم وإيهامهم من خلال صفحات أنشئت لهذا الغرض، وإرفاق صور وفيديوهات إشهارية وتحفيزية لشباب وصلوا إلى اليونان، ويزعمون أنها تعود لأشخاص سبق نقلهم نحو الجزر اليونانية. وهذه الصور والفيديوهات جعلت فكرة الهجرة أكثر دغدغة من قبل في ظل إظهارها بشكل يومي، وتوثق هجرة أجناس متعددة انطلاقا من سواحل تركيا. كما يلعب الموقع الأزرق همزة وصل بين ضحايا الهجرة و المهربين الذين يضعون خدماتهم تحت تصرف الحالمين إلى بلوغ الفردوس المنشود، في أبشع مظاهر الاستغلال لمعاناة الناس وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، والرمي بهم إلى أعماق البحار ليواجهوا مصيرهم المجهول بعد الاستيلاء على أموالهم. وبين الأمس واليوم، توسعت رقعة الحالمين والطامحين إلى معانقة الحلم الأوروبي، أو بالأحرى، الوهم الوردي. والزمن الفاصل بين الذين غادروا والذين في طور المغادرة هو توفير تكاليف السفر التي غالبا ما تصل إلى حدود 30.000 درهم، وتشمل تذكرة السفر نحو مطار اسطنبول؛ وغالبا ما تكون التذكرة صالحة ذهابا وإيابا لتفادي أي شكوك في المطارات المغربية والتركية، وتكلف حوالي 6000 درهم إضافة إلى مصاريف المبيت والأكل، ومصاريف التنقل إلى المدن الساحلية التركية؛ والوصول إلى هذه المدن يعني بداية العد التنازلي نحو ركوب قوارب الهجرة والموت، والتي غالبا ما تكلف نحو 10.000 إلى 15.000 درهم على حسب المهرب. لتبدأ رحلة الإبحار السري في أجواء مأساوية ومحفوفة بكل أشكال المخاطر على متن قوارب مطاطية. ووفق الروايات المتداولة، فإن غالبا ما يكون سائق هذه القوارب من المهاجرين أنفسهم، ولا يؤدي تكلفة الرحلة، ويجب أن يكون مدربا على سياقة القوارب بحرفية حتى يستطيع التعامل مع أمواج النهر الحدودي الفاصل بين تركيا واليونان، وإيصال المهاجرين إلى الجزر اليونانية بأمان. وغالبا هذه الأحلام ما تتبخر وتنتهي بماسي وألام، وغرق العشرات من المهاجرين بعد أن تملأ قواربهم بالمياه، بسبب الحمولة الزائدة آو بعدم حرفية السائق. والرحلة لا تنتهي بوصول المركب إلى اليونان، حيث هناك مهربين آخرين في انتظار هؤلاء التائهين ليكونوا بوصلتهم إلى الجهة التي يقصدونها، وكأن حياة المهاجرين تنحصر بين يدي مهربين ينتظرون فرائسهم على أراض يابسة، بينما يواجه المهاجرين الموت في بحر تتلاعب أمواجه الغاضبة بمراكبهم المطاطية الهشة. بين الريف والهجرة علاقة عشق وطيدة نسجت خيوطها لا مبالاة السياسة المركزية، وظلت تغذي هذا العشق التراجيدي اللامنتهي على مر العقود ببساطة حقدها الدفين الذي يبيد الريف بلا هوادة.