في العاصمة البلجيكية بروكسيل تجدد لقاء الجالية المغربية المشهود لأفرادها بالشموخ والإباء والوطنية الصادقة في أجواء طافحة بالإشراقات النورانية لذكرى مولد الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك إحياء للذكرى السبعين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال التي جسدت أروع صور النضال والجهاد وأبهى آيات الكفاح والصمود في المطالبة برحيل الاحتلال الأجنبي والتصدي لأطماعه التوسعية بقيادة جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه. وعلى هامش تخليد هذه الذكرى المجيدة من تاريخنا الوطني أشرفت القنصلية العامة للمملكة المغربية ببروكسيل على تنظيم ندوة ثقافية لتسليط الأضواء على هذا الحدث التاريخي وساهم فيها إلى جانب السيد السفير الأستاذ سمير الدهر كل من الأستاذة الجليلة والغنية عن كل تعريف السيدة نعيمة بنيعيش والسيد حسن كوهو أستاذ ببلجيكا ثم الأخ محمد الشرادي عن تنسيقية فعاليات المجتمع المدني بشمال المغرب الموجود مقرها المركزي بالناظور. في مستهل الندوة رحب السيد القنصل العام للمملكة المغربية بالعاصمة البلجيكية السيد أحمد الإفراني بالحضور المكثف لأفراد الجالية من ممثلين لفعاليات جمعوية وسياسية ونقابية وإعلامية، معتبرا حدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال حلقة وازنة ومتميزة في العقد الفريد لمسلسل تاريخ الكفاح الوطني الذي خاضه الشعب المغربي دفاعا عن حمى الوطن وحياضه بقيادة العرش العلوي المجيد، ثم قدم نبذة عن ضيوف الندوة . السيد سفير المملكة المغربية ببلجيكا واللوكسمبورغ الأستاذ سمير الدهر ومن أجل تواصل أوسع ، ألقى عرضا باللغتين العربية والفرنسية أكد في بدايته أن تخليد الشعب المغربي ومن ضمنه الجالية المغربية المقيمة بديار الغربة لهذه الملحمة التاريخية يشكل مناسبة للإشادة بما قدمه الآباء والأجداد بقيادة العرش العلوي المجيد في سبيل الحرية والكرامة، ويعد الاحتفال بذكرى 11 يناير 1944 فسحة لاستلهام دلالات الحدث الرمزية وأبعادها العميقة ، والحرص على ترسيخ شمائل الروح الوطنية وقيم المواطنة الإيجابية في نفوس الناشئة. السيد السفير أوضح أن الأجيال الجديدة والناشئة هي في أمس الحاجة إلى تعريفها بهذا التاريخ وهذا هو الهدف الأسمى من تنظيم ندوة اليوم ، تاريخ بلدنا التليد الطافح بالملاحم والبطولات والزاخر بالأمجاد والمكرمات لاستقراء جوانبه وفصوله واستلهام قيمه وعبره وعظاته لتتقوى الروح الوطنية وحب الوطن والاعتزاز بالإنتماء إليه. العناية المولوية الكريمة التي يخص بها قائد الأمة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ، أفراد الجالية المغربية المقيمة بالمهجر، أخذت حيزا مهما من عرض السيد السفير مركزا على ما جاءت به الإصلاحات الدستورية والسياسية التي عرفتها بلادنا قبل سنتين والتي أولت اهتماما كبيرا للجالية التي يعتز المغاربة بوطنيتها وحبها وتعلقها ببلدها وبدفاعها المستميت عن ثوابتها المقدسة . وأشاد السيد السفير بجذوة البذل والعطاء والسخاء والتضحية والخدمات المبرورة التي أسداها أفراد الجالية المغربية منذ عقود من الزمن لصالح أمتهم ووطنهم ومشاركتهم الإيجابية في عدد من المحطات التاريخية التي عاشتها وتعيشها بلادهم وفي ختام عرضه تضرع إلى المولى جلت قدرته ليرحم شهداء الحرية والاستقلال والوحدة الترابية والسيادة الوطنية ، شرفاء الوطن وأبطاله الميامين وفي طليعتهم أب الوطنية وبطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه ورفيقه في الكفاح والمنفى الملك الموحد مبدع المسيرة الخضراء المظفرة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني قدس الله روحه وأن يحفظ الله العلي القدير بالسبع المثاني سليل الأكرمين باني المغرب الجديد صاحب الجلالة الملك محمد السادس وأبقاه الله ذخرا للبلاد وملاذا للعباد قرير العين بولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير المحبوب مولاي الحسن وأن يشد أزره بشقيقه صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي رشيد وسائر أفراد الأسرة الملكية الشريفة والشعب المغربي قاطبة. ونال العرض تصفيقات حارة من الحضور وتجاوبا كبيرا بين ما جاء فيه وتأثرا باديا على محيا الجميع فيما يتعلق بالعطف المولوي الكريم لصاحب الجلالة على أفراد الجالية المغربية. وتركز العرض القيم للأستاذة نعيمة بنيعيش حول التضحيات الجسيمة التي قدمتها المرأة المغربية مؤكدة بأن المرء يشعر بنوع من السعادة عند استحضار الدور الريادي الذي لعبته المرأة المغربية إلى جانب الرجل المغربي المقاوم للدفاع عن حوزة الوطن وقدمت أمثلة حية عن هذه المشاركة النسوية التي تعد من رواد الحركة الوطنية. المحاضرة أكدت أن المرأة المناضلة في العمل الوطني المناهض للاستعمار أعطت المثل الرفيع في الصبر والثبات والتضحية والإيثار ونكران الذات والاستماتة في الكفاح الوطني على شتى المستويات ولم تدخر جهدا ولا استكثرت عطاء أو تضحية أو وقتا في سبيل تعزيز جذوة الروح الوطنية وبث الوعي الوطني وإذكاء التعبئة النضالية . وعبرت الأستاذة الجليبلة نعيمة بنيعيش عن اعتزازها بالحضور المتميز والنوعي الذي يتابع أشغال هذه الندوة . الأستاذ حسن كوهو أوضح في عرضه بالمناسبة أنه من خلال تخليد ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال وسط أفراد الجالية المغربية ببلجيكا ،نكون قد اقتفينا آثار الصفوة الخيرة من رجال ونساء الوطن تنثال يانعة مخضلة تنثر عبقها وضوعها ونسائمها في أعطاف وثنايا فصول وأطوار الأمجاد الفيحاء والملاحم الغراء التي شهدتها السهول والجبال والوهاد والوديان والصحارى في سبيل الانعتاق من نير الاستعمار. والجالية المغربية اليوم ومن خلال هذه الندوة المهمة التي تشكر عليها القنصلية العامة المغربية ببلجيكا والسفارة ككل – يضيف – الأستاذ حسن كوهو استقراء إسهامات وطنيين أماجد حملوا قضية الوطن في حنايا فؤادهم وانغمروا بتفان ونكران للذات بعفوية وتلقائية وطواعية في لظى وحمأة ملحمة خالدة من أجل الحرية والاستقلال والوحدة. وباسم تنسيقية فعاليات المجتمع المدني بشمال المغرب ، قدم الزميل محمد الشرادي عرضا من جهته أكد في مستهله هو الآخر أهمية هذا الانفتاح على أفراد الجالية المغربية ومساهمتها في إغناء النقاش حول كل ما يهم المصالح العليا لبلدنا، وجاء في عرضه: في تاريخ الأمم والشعوب أيام وذكريات مسجلة في أيام الله وأيام التاريخ الخالدة، والتي يجب أن نستحضرها باستمرار لا للاعتزاز والافتخار فقط وإنما للاقتداء والإحتداء ، ويوم الحادي عشر من شهر يناير 1944 من هذه الأيام الغر في تاريخ النضال الوطني وتاريخ الشعب المغربي والحركة الوطنية المغربية. لقد كان ذلك اليوم من تلك السنة يوم انطلاقة جديدة للجهاد الوطني ضد المستعمر الغاصب، كان يوما لإعلان رفض كل أنواع السيطرة والهيمنة وكل أنواع الغطرسة التي يمارسها الاستعمار ضد المغرب والمغاربة . وأرى لزاما علي حضرات السادة والسيدات، أن أتطرق إلى السياق الذي جاء فيه الحدث التاريخي، حدث تقديم الوثيقة التاريخية للمطالبة بالاستقلال حيث جاء في مثل هذا اليوم من سنة 1944 متزامنا مع المتغيرات التي وقعت في العالم خلال الحرب العالمية الثانية ، والتي كان من انعكاساتهاعلى الأوضاع في العالم العربي،إعلان استقلال دولتين عربيتين هما سوريا ولبنان في عام 1943 والتمهيد لإنشاء جامعة الدول العربية في مارس من سنة 1945 ، وتصاعد الوعي العالمي بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، فضلا عن ظهور قوة جديدة على مسرح السياسة الدولية ، هي الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت في تلك الفترة رمزا للحرية والديمقراطية والانعتاق من هيمنة الدول الاستعمارية التي كانت تبسطها على العالم الثالث ، ومن ضمنه العالم العربي الإسلامي. وجاء ذلك الحدث بعد مرور سنة على نزول القوات الأمريكية في الدارالبيضاء الذي لم يلق قبولا من الإقامة العامة الفرنسية التي لم تكن راضية على مشاركة الملك الراحل محمد الخامس طيب الله ثراه وولي عهده آنذاك مولاي الحسن " الملك الراحل الحسن الثاني أكرم الله مثواه في لقاء أنفا الذي جمع يوم 14 يناير 1943 بين الرئيس الأمريكي روزفيلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل ، ورئيس حكومة فرنسا الحرة دوغول ، والحاكم المدني والعسكري في الجزائر جيرو ، وهو اللقاء الذي أشعر سلطات الحماية الفرنسية بأن القوة الدولية الجديدة تميل إلى تأييد حق الشعوب المستعمرة في الحرية والاستقلال ، وبان عهدا جديدا قد اقبل على الإنسانية ، لا محل فيه لغطرسة القوى التي تحتل الدول وتقهر إرادة الشعوب. لقد كانت الأجواء المحلية والإقليمية والدولية مشجعة تماما على صنع الحدث التاريخي الذي وقع في الحادي عشر من شهر يناير سنة 1944 ، والذي بدأ العمل فيه خلال سنة 1943 ، على مستوى محدود ، وبمبادرة رائدة من قيادة الحزب الوطني المحظور بقرار من سلطات الحماية في شهر أكتوبر من سنة 1937 ، وكان الحاج أحمد بلافريج على رأس تلك النخبة من الوطنيين الذين تقدموا الصفوف ، بمباركة من جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه ، الذي كان يبلغ بالخطوات التي تتخذخطوة حطوة ، والذي كان لحضوره القوي في قلب المعترك الذي خاضه القادة الوطنيون ، تأثير نافذ في نجاح المبادرة الوطنية غير المسبوقة. إن الدور الكبير الذي قام به هؤلاء الوطنيين في صنع هذا الحدث التاريخي الذي مرت عليه اليوم سبعون سنة من الأدوار البطولية التي تسجل وتخلد ، ولكن الدور الذي قام به الملك محمد الخامس في الدعوم والمؤازرة والتحفيز والتشجيع على المضي قدما في هذا المجال دون تردد ، هو من الملاحم التي يسجلها التاريخ لهذا الملك المناضل الذي يعز نظيره بين الملوك وقادة الدول في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ المغرب والعالم العربي الإسلامي عامة. 11 يناير 1944 أعقبتها أحداث وطنية توجت بالمظاهرات الحاشدة التي انطلقت يوم 29 من الشهر نفسه أي يناير والتي زج على إثرها بالوطنيين في غياهب السجون ، في ملحمة بطولية رائعة سقط فيها شهداء أبرار ، هم الطليعة الأولى لشهداء الاستقلال الذين سقطوا في ساحات النضال في الخمسينيات من القرن الماضي ،حينما احتدم الصراع مع المستعمرين ، واشتدت المواجهة وحمى وطيسها مع سلطات الحماية على إثر نفي ملك البلاد واسرته الملكية إلى خارج الوطن في صيف سنة 1953، أي بعد تسع سنوات من الحادي عشر يناير 1944. لقد كان التمهيد الطويل النفس لوثيقة المطالبة بالاستقلال في عام 1934، قد بدأ حينما قدمت كتلة العمل الوطني دفتر مطالب الشعب المغربي إلى الإقامة العامة الفرنسية ، التي وإن كان لم يرد فيها لفظ (الاستقلال)، ولكنها تضمنت المطالب المشروعة والمحقة للشعب المغربي التي عبرت عن الرفض الوطني العام للواقع الإستعماري المفروض على بلادنا، بموجب معاهدة غير متكافئة وباطلة بحكم الشرع الحنيف، وطبقا للقانون الدولي ، لأن الطرفين الموقعين عليها لم يكونا طرفين متكافئين ، ملك المغرب السلطان مولاي عبد الحفيظ بن السلطان مولاي الحسن الأول، والسفير الفرنسي في المغرب. وتلك سابقة في المعاهدات والاتفاقات بين الدول تثبت التآمر الاستعماري ضد سيادة الدولة المغربية. ولذلك كان دفتر مطالب الشعب المغربي الذي وقع التأكيد عليها في عام 1936 بتقديم المطالب المستعجلة، شكلا من أشكال رفض معاهدة الحماية المبرمة في مدينة فاس يوم 30 مارس عام 1912، وإن كان هذا الرفض لم يأخذ صورته النهائية إلا بعد ثماني سنوات. وهو الأمر الذي يؤكد هذا الترابط بين المراحل النضالية المتعاقبة التي قادها الشعب المغربي، منذ أن كانت الحركة الوطنية جنينا تمثل في جماعة فاس الأولى التي كانت تحمل اسم (الحماسة) ، ثم جماعة الرباط، فجماعة سلا، وجماعة مراكش، وجماعة تطوان .وهذه الجماعات الوطنية هي التي تشكلت منها النواة الصلبة لكتلة العمل الوطني التي أعلن عن تأسيسها عام 1934، والتي انتهت إلى تشكيل ثاني حزب في المغرب، هو الحزب الوطني لتحقيق مطالب الشعب المغربي، في مطلع عام 1937، بعد تأسيس حزب الإصلاح الوطني في شمال المملكة قبل ذلك بشهور قليلة (ديسمبر1936). فلم يكن الحدث التاريخي الذي صنعه الأحرار في يناير عام 1944 والذي فاجأ به السلطات الفرنسية المستعمرة للبلاد، قائما على غير أساس،ولكنه كان يستند الى تراث نضالي متراكم تميز بالتلاحم بين الحركة الوطنية وبين العرش المغربي، منذ عام 1930، أي بعد ثلاث سنوات من اعتلاء السلطان محمد بن يوسف (محمد الخامس) عرش أجداده، وهو التلاحم الذي بلغ ذروته خلال الفترة الحرجة التي أعدت فيها الوثيقة التاريخية عام 1943، كما وصل على أعلى سقف من الانسجام والتناغم والترابط، خلال الفترة التي نفي فيها ملك البلاد، حين انتفض الشعب المغربي في وجه الاستعمار، مناضلا من أجل الاستقلال وعودة الملك محمد الخامس إلى الوطن .وكان هذا الربط الوطني بين الاستقلال وبين عودة الملك الشرعي إلى العرش، إحدى ثمار وثيقة الحادي عشر من يناير 1944. وكما ربط الشعب المغربي المناضل الثائر المنتفض بين الاستقلال وبين عودة الملك الشرعي للوطن، فكذلك ربطت وثيقة الحادي عشر من يناير عام 1944، بين المطالبة بالاستقلال وبين النظام الديمقراطي بقيادة العرش، وجعلت ذلك من دعائم الدولة المغربية المستقلة .ولذلك كان الاستقلال الذي تم فعليا بإلغاء معاهدة الحماية في يوم 2 مارس عام 1956، هو بداية الطريق نحو بناء الأسس القوية للدولة المغربية على قاعدة الملكية الدستورية. وبذلك تكون فكرة الاستقلال مرتبطة بالديمقراطية وبدولة الحق والقانون والمؤسسات وبالملكية الدستورية.وهو المفهوم الوطني العميق والشامل للاستقلال، الذي هو ليس مفهوما جامدا مرحليا مقصورا على إنهاء عهد الحماية والدخول في عهد الاستقلال المجرد، ولكنه مفهوم متحرك لا ينفصل عن الدولة المغربية الديمقراطية، الدولة القوية بنظامها الملكي الدستوري، والدولة القوية باستقرارها ورسوخ جبهتها الداخلية، وباستعدادها الدائم للحفاظ على وحدتها الترابية، ولحماية مقدساتها وخصوصياتها الروحية والثقافية والحضارية. وبذلك يكون الاستقلال بهذا المفهوم الوطني الشامل والعميق، من الثوابت التي لا تتغير مع تغير المراحل .