إذا كانت "اليوطوبيا" Utopie والإيديولوجيا تشتركان في كونهما تطلّعا نحو شيء مثالي وأفضل لا يوجد بعدُ، فإنهما تختلفان في أن ما هو مجرد إيديولوجيا قد يتحقق ويصبح واقعا، في حين أن "اليوطوبيا" هي ما لا ولن يوجد أبدا. وهذا المدلول الاصطلاحي للفظ "اليوطوبيا" يطابق معناه اللغوي اليوناني الذي يعني "ما لا يوجد في أي مكان". لماذا استحضار هذا التمييز بين الإيديولوجيا و"اليوطوبياّ؟ لتبيان أن الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية تتعامل مع هذه اللغة، كما يظهر ذلك في بلاغها الأخير (16 يونيو 2015 انظر التفاصيل على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/societe/266904.html)، ك"يوطوبيا"، أي كشيء لن يوجد أبدا، أي كعدم محض. ويتجلى هذا التعامل "اليوطوبي" للجمعية مع اللغة العربية في "دعوتها كافة المغاربة إلى الاستخدام الشفهي للغة الضاد في معاملاتهم اليومية"، مطالبة «جميع المتمسكين باللغة العربية الفصيحة والمتمكنين منها والمدافعين عنها والعاشقين لها أينما كانوا، بالمغرب وخارجه.. أن يستعملوها شفهيا بالخصوص في معاملاتهم اليومية وفي جميع المواقف». لماذا نعتبر هذه الدعوة "يوطوبيا" حقيقية، أي كعدم حقيقي لن يتحقق له الوجود أبدا ومطلقا؟ لأنه من المستحيل، استحالة مطلقة، أن تصبح العربية يوما ما لغة التخاطب والمعاملات اليومية، مثلما يستحيل، استحالة مطلقة كذلك، أن تصبح اللغة اللاتينية يوما ما لغة التخاطب والمعاملات اليومية. إن التعامل مع اللغة العربية ك"يوطوبيا" خيالية مبتورة الصلة بالواقع، هو ما يسيء إلى هذه اللغة، ويجعلها حقا لغة متخلفة عن العصر والواقع، لأن عصرها وواقعها "يوطوبيان" وغير موجوديْن، ولا علاقة لهما بالعصر والواقع الحقيقييْن والموجوديْن. فجمعية حماية اللغة العربية، وكل التعريبيين الذين تنوب عنهم وتنطق باسمهم، نقلت العربية من المستوى الإيديولوجي، الذي تمثّله سياسة التعريب، إلى المستوى "اليوطوبي"، أي نقلتها من مستوى الممكن إلى مستوى المستحيل والمنعدم. إنه في الحقيقة اعتراف أن العربية هي لغة العدم، لغة ما لا يوجد ولا يحيا، لأن التعامل اليومي بها، وفي جميع المواقف، هو شيء ينتمي إلى العدم والغياب المطلق. ينطلق التعريبيون من تصور تبسيطي وميكانيكي ساذج، مؤداه أن العربية لا تستعمل في المعاملات اليومية لأن الكثيرين لم يتعلّموها ويجهلون بالتالي الحديث بها. لكن المثقفين، الذين يتقنونها، بإمكانهم استعمالها في ما بينهم كلغة تخاطب. ولهذا تتساءل جمعية حماية العربية في بلاعها: «فما المانع من التحدث بها في الحياة العامة وما يمنع المثقفين بها من استعمالها في التخاطب اليومي؟»، مضيفة أن حملتها للدفاع عن استعمال العربية «لا بد أن يقوم بها المثقفون باللغة العربية الفصيحة فيما بينهم أولا وألا يكتفوا بالقول بأنهم يدافعون عنها دون استعمالها اليومي وأن عليهم أن يكونوا القدوة في هذا المجال». هكذا يتعامى التعريبيون ولا يدركون، تحت تخدير ال"يوطيوبيا"، "أن اللغة العربية لم تعد لغة تخاطب وتداول في الحياة اليومية، ليس فقط لأن تعلّمها يحتاج إلى مدرسة، وإنما لأنها فقدت هذه القدرة والوظيفة أصلا حتى بالنسبة لمن تعلّموها في المدرسة، وأصبحوا متمكنين منها ومتضلعين فيها. فصحفيان أو كاتبان بالعربية، مثلا، أو أستاذان متخصصان فيها، لا يمكن لهما أن يتخاطبا بالعربية في الشارع أو المحكمة أو السوق أو المقهى أو البنك...، رغم أنهما يتقنانها ويجيدان التخاطب بها. وذلك ليس فقط في هذه الأماكن العامة حيث يتخوف المتخاطبان بالعربية من إثارتهما لفضول وسخرية الآخرين، بل حتى عندما لا يراهما ولا يسمعهما أحد مثل التواصل فيما بينهما عبر الهاتف، ومع ذلك فإنهما لا يستعملان العربية فيما بينهما رغم إتقانهما لها. لماذا؟ لأن التخاطب بالعربية الفصحى، بعد أن فقدت هذه القدرة والوظيفة، أصبح يبدو شيئا نشازا وغريبا، غير لائق وغير مناسب، يصدم الحس السليم لما فيه من تصنّع وخروج عن المألوف. فحتى يكون الحديث بالعربية مقبولا ومستساغا، ينبغي أن يحصل ذلك في وضعيات وسياقات استثنائية، محدودة ومعدودة، وبطقوس خاصة معروفة، كما في الندوات والمحاضرات، أو نشرة أخبار متلفزة، أو خطبة جمعة، أو درس في فصل دراسي، أو كلمة تأبين، أو خطاب ملكي موجه إلى الشعب... في حين أن الذين يتقنون الفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية أو الألمانية...، يتخاطبون بهذه اللغات فيما بينهم بشكل طبيعي وعادي، عبر الهاتف أو في البيت أو المطعم أو السوق أو الجامعة، سواء كانوا من المغاربة الذي درسوا هذه اللغات أو من المستعملين الأصليين لها". فليست إذن الأمية، ولا الجهل بالعربية، هو ما يمنع الناس من استعمالها في الحياة اليومية، وإنما لأنها، كما قلت، فقدت أصلا، وبصفة نهائية ومطلقة، هذه الوظيفة التي تجعل لغة ما حية حياة حقيقية لأنها تستعمل في الحياة اليومية للمتحدثين بها. فلا التعليم، ولا القرارات السياسية، ولا الحماس الزائد في الدفاع عن العربية، ولا توفر الرغبة والإرادة لفرضها كلغة المعاملات اليومية، ستجعل منها لغة للتخاطب والتواصل الشفوي، وذلك لسبب بسيط هو أنها، كما سبقت الإشارة، لا تملك أصلا هذه القدرة والوظيفة، وليس لأنها حرمت من استعمالهما. وفاقد السيء، كما هو معلوم، لا يعطيه. أما الإصرار على أن العربية يمكن أن تعود لغة تخاطب في الحياة اليومية، إذا قام المسؤولون السياسيون بواجبهم الدستوري، فهو إصرار على التحليق بعيدا وعاليا في السماوات السبع "لليوطوبيا"، أي الحلم بما لا يمكن أن يوجد أو يتحقق. وما لا يفهمه ولا يريد فهمه التعريبيون، هو أن هذه الإعاقة الذاتية التي تعاني منها العربية، التي أفقدتها القدرة على أن تكون لغة تخاطب وتداول في الحياة اليومية، تجد مصدرها وسببها في كونها ليست باللغة الأم لأي أحد في الدنيا كلها. ففي العالم كله، لا تستعمل في التخاطب اليومي إلا اللغات التي هي أصلا لغات أم بموطنها الأصلي. وحتى عندما يتعلمها غير الناطقين الأصليين بها، الذين ليست بلغتهم الأم، فإنهم يستطيعون استعمالها في التخاطب لأنها تملك أصلا هذه الوظيفة، مثل تخاطب العديد من المغاربة في ما بينهم بالفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية، التي هي لغات تعلموها، لكنهم لا يتخاطبون في ما بينهم بالعربية حتى عندما يجيدونها أفضل مما يجيدون تلك اللغات الأوروبية. وهذه هي المشكلة الحقيقية والوحيدة للغة العربية: ليست باللغة الأم لأي كان في العالم، وبالتالي لا يمكنها، وبصفة نهائية ومطلقة، أن تكون لغة تخاطب في الحياة اليومية. وعندما يفرضها التعريبيون كلغة تدريس وتكوين في التعليم، تصبح المشكلة الحقيقية لهذا التعليم هو لغة التدريس التي هي العربية. لماذا؟ لأن لغة معاقة لا يمكن أن تنتج إلا تفكيرا معاقا، نظرا للعلاقة الوطيدة بين اللغة والفكر كوجهين لشيء واحد. فإذا كان تعليمنا معاقا ولا يعطي إلا تكوينا معاقا، فذلك لأن لغته معاقة. فلولا جنون التعريب، لأمكن التعامل مع العربية بناء على طبيعتها وقدراتها الحقيقية وليس "اليوطوبية"، فتُدرّس كلغة لا يمكن الاستغناء عنها نظرا لوظيفتها الثقافية والتراثية الهامة، لكن مع التدريس بلغة أخرى موجودة في الأصل كلغة أم وتخاطب. وهذا ما كان عليه الأمر غداة الاستقلال، حيث كانت الفرنسية لغة التدريس والعربية لغة تُدرّس. والنتيجة معروفة: تكوين فكري وعلمي وثقافي جيد للتلميذ، وتمكّن جيد كذلك بالعربية التي كانت تدرّس كلغة وليس ك"يوطوبيا" نحلم بها لكن لا وجود لها في أي مكان. وتطالب جمعية حماية العربية، في بلاغها، من عشاق العربية أن يستعملوها شفهيا في معاملاتهم اليومية. من هم العاشقون للعربية؟ عبد ربه، كاتب هذه السطور، هو عاشق للعربية التي يحبّها ويقرأها يوميا ويكتب بها من حين لآخر. لكن سأجني عليها وأظلمها وأخون عشقي لها إذا حاولت أن أستعملها في التخاطب الشفوي. لأنني سأكون كما لو تعمّدت التشفّي منها بالكشف عن عجزها وقصورها وإعاقتها، مقارنة باللغات الحية التي تستعمل فعلا في الحياة اليومية، لأنها هي في الأصل عاجزة وقاصرة ومعاقة عندما يتعلق الأمر باستعمالها لغة تخاطب، كما سبق شرح ذلك. فالتعريبيون، الذين يطالبون باستعمال العربية في التخاطب الشفوي، يتصرفون كمن يختار معاقا، فاقدا لإحدى رجليه، للمشاركة في مسابقة للعدو الريفي. والنتيجة معروفة: سيكون هو الأخير في ترتيب المتسابقين. هذا ما تؤدي إليه "يوطيوبيا" التعريبيين: فلأنهم يريدون أن يجعلوا من العربية لغة في مستوى اللغات الحية، فإنهم يبرزون قصورها وعجزها وإعاقتها عندما يفرضون عليها أن تقوم بنفس الوظائف التي تقوم بها تلك اللغات، مثل التخاطب الشفوي في الحياة اليومية. وهكذا تحصل على آخر الترتيب مثل المتسابق الذي فقد إحدى رجليه، وهو ما يظهرها كلغة عاجزة ومتخلفة عن اللغات الأخرى. ويلوم السيد موسى الشامي، رئيس الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية، العربَ، الذين يراعون الواقع ولا ينساقون مثله وراء "اليوطيوبيا"، على عدم استعمالهم للعربية حتى في الاجتماعات الرسمية. فهو يقول: «لاحظنا ونحن حاضرون في الملتقى الدولي للغة العربية الأخير بدبي أن عددا من المتدخلين يتحدثون بالعامية المصرية والسورية، وهو في الوقت ذاته يدافعون عن العربية، فانطلقت حملتنا تحمل المثقفين والمدافعين عن لغة الضاد المسؤولية بأن نبدأ من أنفسنا أولا». فرغم أن هؤلاء العرب هو المعنيون، أكثر من المغاربة، بلغتهم العربية، إلا أنهم يفضلون استعمال لهجاتهم، أي لغاتهم الأم. لماذا؟ لأنهم واقعيون وليسوا "يوطوبيين" مثل السيد الشامي. فهم يعرفون أن العربية مكانها هو الكتابة وليس الخطاب الشفوي. ولهذا فهم لا يبدون حماسا زائدا، كما يفعل التعريبيون المغاربة، تجاه العربية التي يفضلون عنها، وبلا أية عقدة أو حرج، الإنجليزية ولهجاتهم العامّية. وهذا ما يفسّر لماذا يحتل المغرب المراتب المتأخرة، في ما يخص التربية والتعليم، مقارنة مع دول المشرق العربي، وضمنها فلسطين، المحتلة والمحاصرة، التي هي متقدمة على المغرب من حيث جودة التعليم. والسبب هو أن المغرب يستعمل لغة معاقة كلغة للتدريس، كما سبقت الإشارة. والنتيجة أن تعليمه معاق ومتخلف. من بين مشاكل العربية، التي تزيد من إعاقتها وتخلفها، أن المدافعين عنها يستعملون "اليوطوبيا" للذود عنها، وهو ما يجعل منها لغة طوباوية وخيالية، يستحيل أن تتحقق على أرض الواقع، كما يبرُز ذلك في استحالة استعمالها لغة للتخاطب الشفوي كما يحلم "اليوطوبيون" التعريبيون.