في القرن الرابع عشر في عام 1347 ظهر على سطح الأرض مرض جديد لم يكن منتشراً من قبل، كان بمثابة اللغز المحير. بدأ بالانتشار في جنوب آسيا والصين وقتل أكثر من 75 مليون شخص ثم زحف على البندقية العائمة ومنها اجتاح أوروبا، ليجهز على ثلثي سكان القارة العجوز. شيء واحد كانت تعرفه البشرية آنذاك هي أنها تواجه طاعونا وبلاء كبيرا سمي لاحقا ب"الموت الأسود". استخدم مصطلح الطاعون الأسود "أو الموت العظيم أو الموت الأسود"، للإشارة إلى وباء الطاعون الذي اجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة. انتشرت أوبئة مشابهة في نفس الوقت في آسيا والشرق الادنى، مما يوحي بأن هذا الوباء الأوروبي كان جزءاً من وباء عالمي أوسع نطاقا. وأصبح متعارفا اليوم بأن "الطاعون الأسود" يعني الوباء العظيم الذي أودى بحياة جزء كبير من سكان أوروبا خلال القرن الرابع عشر. خلال العصور الوسطى لم يستخدم هذا التعريف، بل قالوا "الموت العظيم" أو "الطاعون العظيم". كان الرواة الدنماركيون والسويديون أول من استخدم مصطلح "الموت الأسود" في إشارة إلى طاعون 1347-53، للتأكيد على رعب و خراب هذا الوباء. وفي عام 1832 أُخذ هذا التعريف من الطبيب الألماني هيكر. كان لمقالته تحت عنوان "الموت الاسود" عن طاعون 1347-1353 صدى كبيرا، خاصة أنها صدرت بالتزامن مع انتشار وباءٍ للكوليرا. ترجمت المقالة إلى الإنجليزية في عام 1833 ونشرت عدة مرات. ومنذ ذلك الحين استخدمت عبارة "Black Death" أو "Schwarzer Tod" "الموت الأسود"، وبخاصة في المناطق الناطقة الألمانية والمناطق الناطقة الإنكليزية، إشارةً إلى وباء الطاعون في القرن الرابع عشر. مر الطاعون بدول وأباد شعوباً ونكس حضارات وهزم وحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون. وتذكر الكتب أن حاكم عكا وقف من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة، بعد أن فتك الطاعون بجنوده وكان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق "القسطنطينية". وجاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت تحت عنوان الموت الأسود ما يلي: وباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى، فقد أزعج أوروبا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر وإحدى وأربعين سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان. ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التي ترسو على مرسيليا وذهبت رواية غير محققة في ناربون إلى أن ثلاثين ألف ماتوا في هذا الوباء، وفي باريس خمسين ألفاً، وفي أوربا خمسة وعشرين مليوناً، وربما كان المجموع "ربع سكان العالم المتحضر" وعجزت مهنة الطب أمامه فلم تكن تعلم سبب المرض. تم عرض خارطة تفصيلية في كتاب "انسكلوبيديا تاريخ العالم" عن الطريق الذي سلكه الطاعون أثناء انتشاره في أوروبا وتمت الإشارة إلى أن زناد الحريق الأول بدأ من شبه جزيرة القرم!! فما الذي حدث في ذلك التاريخ من مطلع عام 1347م؟ هناك في القرم حصلت معركة سخيفة بين التتار وقلعة تحصن بها جماعة من أهل البندقية الذين أسسوا مستعمرات لهم خارج إيطاليا، وتفشى الطاعون في التتار المحاصِرين فاعتراهم الغضب، فقاموا بشن أول حرب "بكتريولوجية" ربما في التاريخ الإنساني، حيث رموا بالمنجنيقات هذه المرة ليس الصخور والحجارة، بل الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون! فأصيب البنادقة بالرعب مرتين الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون، ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافئ التي وصلوها، وبذلك نشروا المرض في كل أوروبا، فلم ينته عام 1352م إلا وكانت مدن أوروبا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن والدانمارك والنرويج قد لفها البلاء وقوضتها المصيبة، والطاعون ليس أكثر من مرض "الرشح" الذي ينتقل عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة! وكما حملت السفن جرذانها، فإن الجرذان حملت في ظهورها البراغيث اللعينة، التي تحمل بدورها في دمها العصيات الغليظة مدورة الطرفين مسببة المرض والتي لا ترى إلا بالمجاهر مكبرةً آلاف المرات، والتي لم تكن لا أوروبا ولا العالم قد سمع بها، وكان على العالم أن ينتظر طويلاً كي يبدأ الهولندي "لوفنهوك" بائع القماش صقل عدساته لرؤية العالم السفلي تحت أقدامنا، ولنكتشف القارة المجهولة التي تحيط بنا من كل صوب أقرب من حبل الوريد ولكن لا نبصرها. بل كان أمام العالم أن ينتظر كل القفزة العلمية الحديثة، فالموضوع ليس مجاهر تكبر فقط بل تقدم كامل في تقنيات حضارية متضافرة لإنجاز علم الحضارة الحالية. ولأن أوروبا متعودة على الطاعون فإن القرون الحديثة لم تخل من صناعة الأوبئة على الرغم من الاكتشافات الطبية والعلمية الهائلة. ولكن الانسان ظل دائما يدفع فاتورة اللهث وراء التطور غير المسؤول ليثبت في النهاية أنه لاعب محوري في صناعة الموت وابادة نفسه. فحتى التغير المناخي هناك تأكيدات علمية بأن العواقب الوخيمة المتوقعة ستتجاوز مجرد الاضرار بالبيئة والكون لتفرز أمراض كافية لافناء جزء هام من البشرية. وهناك اتفاق اليوم بأن الايدز يظل في الوقت الراهن طاعون العصر وهو يسبب وحده وفاة أكثر من مليوني شخص سنويا ويحمل اكثر من 33 مليون شخص فيروس المرض. وتقول منظمة الصحة العالمية ان حوالى تسعين بالمئة من الوفيات الناجمة عن امراض معدية في العالم سببها ستة امراض على رأسها الايدز و"السل والالتهاب الرئوي والاسهال والحصبة والملاريا" تنتشر خصوصا في الدول النامية. اما السل الذي عاد بقوة في السنوات الاخيرة، فيؤدي الى موت 1.5 مليون شخص سنويا. ومن اصل 9.27 ملايين من المصابين الجدد بهذا المرض سنويا، يصاب اكثر من 500 الف بانواع تقاوم انواع المضادات الحيوية منذ العام 2006 لا سيما في الصين. كما ظهر نوع لا يمكن شفاؤه من السل في 37 دولة منذ سنتين او ثلاث سنوات، بينها خمس جمهوريات سوفياتية سابقة. وكان يسود اعتقاد في أوروبا بأن الدرن الرئوي المعروف بمرض "السل" هو من الأمراض المنقرضة التي طواها التاريخ في القارة مع ظلمة القرون الوسطى، غير أن الحقيقة المفزعة اليوم تبدو أبعد من ذلك. فقد خرج "السل" من قمقمه من جديد لكن في شكل سلالات متطورة أكثر خطرا ولا تتجاوب مع العلاجات المتاحة حاليا مما يهدد بانتشاره كوباء. وأطلق مسؤولون دوليون في مجال الصحة صيحات فزع وتحذير من ان أوروبا قد تواجه فعليا أعظم تهديد منذ الحرب العالمية الثانية جراء داء الدرن الرئوي "السل" الذي يعود مجددا الى القارة ولكن في شكل أشد فتكا عما كان عليه في القرون السابقة. ومن أخطر السلالات الجديدة للوباء هي الدرن الرئوي المقاوم للعقاقير XDR-TB الذي لا يتجاوب حاليا مع المضادات الحيوية المتوفرة للمرض. وما يضاعف من خطورة الوباء هو انعدام الوسائل العلاجية الفعالة حاليا للتصدي لهذا السل الشرس. ويصف الصحافي الامريكي جيمس ناشتوي، الذي أرخ بكتاباته وعدساته المآسي التي خلفهاXDR-TB، المرض قائلا "إنه حيوان مفترس بالغ القساوة يتربص بطريدته بين الظلال". وأضاف محذرا "اذا لم يتم احتواؤه فإن العاقبة وخيمة". ويقول خبراء الصحة إن السل في حد ذاته مرض قابل للعلاج الا أن سوء استخدام العقاقير المعالجة له أفرز نوعيات شرسة منه مثل XDR. وتنتقد منظمة "أكشن" وهي منظمة معنية بمكافحة تفشي السل تقاعس العلماء عن ايجاد حلول طبية ناجعة للمرض القاتل. وتقول المنظمة إنه لم تجر أي تطورات عملية جديدة لمكافحة المرض منذ أكثر من أربع قرون. كما حذرت من ان المرض معد ويمكن ان ينتقل عبر الهواء خصوصا مع تزايد حركة السفر والعولمة الأمر الذي يجعل الجميع عرضة لالتقاط المرض، حتى في الدول المتطورة. ويصنف المرض المعدي الذي ينتشر عبر السعال والعطس، من أكثر الأمراض فتكا التي يمكن علاجها وتقدر منظمة الصحة العالمية أن 1.7 مليون شخص قضوا بالداء عام 2004 مع ظهور 40 ألف حالة اصابة جديدة كل عام. وتضم لائحة من عشرين دولة حول العالم، تعاني من أعلى معدلات انتشار النوع الشرس من الدرن الرئوي، 14 دولة أوروبية وفق ما أظهر آخر مسح أعدته منظمة الصحة العالمية ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية الأمريكي. لكن معدلات الإصابة تتفاوت بصورة ملموسة بين دول غرب وشرق أوروبا فعلى سبيل المثال تظهر أربع حالات إصابة بالمرض بين كل 100 ألف شخص في السويد مقارنة ب177 حالة في طاجيكستان. ويعود هذا التفاوت الذي اشتد حدة في العقد الأخير الى تدهور الأنظمة الصحية في دول الاتحاد السوفييتي السابق عقب انهيار الكتلة الشيوعية. وبلغ معدل الإصابة بالداء بين دول غرب أوروبا، قبيل توسع التكتل الأوروبي شرقا عام 2003، 13 إصابة بين كل 100 ألف شخص سنويا، وتضاعف المعدل مع انضمام الأعضاء العشر الجدد. وقد لا تقف لائحة الأمراض والأوبئة عند هذا الحد فهناك الحصبة وهي اكثر الامراض انتقالا بالعدوى، وتسبب سنويا في وفاة 900 الف شخص في الدول النامية بسبب نقص اللقاحات. كما يعاني بين 300 مليون و500 مليون شخص في العالم من الملاريا التي تنتقل بلدغ نوع من البعوض. ويسبب هذا المرض وفاة 1.5 و2.7 مليون شخص كل سنة معظمهم من الاطفال وفي افريقيا. والى جانب هذه الامراض المعدية، يبدو الفيروس الاخطر ذاك الذي يسبب مرض ايبولا الذي ينتقل بالدم واللعاب والنطاف، ويمكن ان تصل نسبة الذين يتوفون به التسعين بالمئة من المصابين. ويؤدي هذا المرض الذي ظهر في الكونغو الديموقراطية في 1976 الى حمى نزفية مفاجئة. ويظهر هذا الفيروس من وقت لآخر بانتظام. وقد ظهر للمرة الاخيرة في 2008. وتم احتواؤه في مجموعة صغيرة باستمرار. وكان تأثيره المدمر مصدر وحي لفيلم "انتشار" "اوتبريك" الذي لعب داستن هوفمان دور البطولة فيه في 1995. والفيروسات مصنفة في اربعة مستويات حسب درجة خطورتها وقدرتها على الانتشار ونسبة الوفيات التي تسببها. وادرج في المستوى الرابع فيروس ايبولا وحمى الضنك التي ينقلها البعوض والفيروس "اتش1ان1" المسؤول عن الوباء الكبير الذي حدث في 1918 وتسبب في وفاة بين عشرين مليون شخص وخمسين مليونا. والخوف الأكبر اليوم هو ان يعيد التاريخ نفسه مع انفلونزا الخنازير. والسيناريو المرعب بدأ بخبر بثته وكالة انباء اسبانية في ربيع 1918 أشار الى انتشار مرض غريب بين سكان مدريد الذين كانوا يعانون من السعال والحرارة وصعوبات في التنفس. لكن الوكالة تحدثت حينها عن وباء خفيف الوطأة. في نهاية الصيف، بدأت تسجل وفيات بين المرضى. وفي الخريف باتت الانفلونزا الاسبانية الجائحة الاكثر فتكا في تاريخ البشرية الحديث، مع تقديرات تتحدث عما بين 20 و50 مليون وفاة في مختلف انحاء العالم. وبعيدا عن المقارنة، بين الانفلونزا الاسبانية وانفلونزا الخنازير، فإن عزاء الكثير من الخبراء هو اعتقادهم بأن الجائحة التي حلت بالعالم في 1918 كانت استثنائية ومرتبطة بظروف تلك الفترة. وحسب الرأي الشائع فإن ما سهل انتشار الانفلونزا الاسبانية في 1918 هو تنقل الجنود المرضى او الجرحى عبر العالم بعد الحرب العالمية التي دامت اربع سنوات. غير ان ذلك لن يكون كافيا لتخفيف اجراءات الحيطة والحذر فكل الخشية اليوم هو ان يعاود الفيروس انتشاره في الخريف القادم بصورة اقوى بعد الموجة الجديدة، كما حصل في 1918، وكذلك في 1957 و1968. من الواضح أن حرب البشرية مع الطاعون لم تنته بعد. وكل ما في الأمر أن لكل عصر حقيقته. ولكن خلافا للعصور الوسطى سيكون الانسان اليوم مجندا لفتح اكثر من جبهة لمحاربة أنواع من الطاعون وليس طاعونا واحدا